السلفیة: البدايات والنهايات… قراءة في كتاب ما بعد السلفیة

من بین التیارات الدینیة النشطة في مصر في فترة ما قبل الثورة، كانت السلفیة ھي أكثر التیارات الكبرى المسكوت عنھا. فبینما مثلًا كان یحظى الإخوان بكثیر من الأضواء الإعلامیّة وكثیر من أقلام الصحفیّین والكتّاب في الفكر أو التاریخ ـ سلبًا أو إیجابًا- كان ھناك صمت وكأنه تجاھل تجاه الصحوة السلفیة ورموزھا، حتى أنھم إذا تعرضوا لھا، عرضوا صورة سطحیة تَنم عن جھل مفرط وسذاجة غبیّة. في الحقیقة لقد كانت السلفیة أكثر الدعوات توغلًا وانتشارًا في نسیج المجتمع، وھذا الصمت كان من الأسباب التي سھلت علیھا ذلك.

یُعتبر كتاب “ما بعد السلفية” بمثابة موسوعة عن السلفیة المعاصرة وتیاراتھا والأسس الفكریة التي قامت علیھا. ویتمیز مؤلفاه بقدرة عالیة على التحلیل الموضوعيّ لا تجعل من ھذا الكتاب كتابًا دعائیًا بأي حال، على الرغم من أنّ مؤلفيه سلفیَّان -ومن الآن فصاعدًا ستجري الإشارة إلى المؤلفین بكلمة المؤلف تخفیفًا-، بل ھو بحث تاریخي عن الأفكار السلفیة وتمثُّلاتھا في ھذا العصر، ومدى مطابقتھا لأصولھا التاریخیة التي تزعم الانتماء لھا، من وجھة نظر سلفیة. وعملي في ھذا المقال يتلخص في قراءة في تلك الأفكار مع التعقیب علیھا إذا لزم الأمر.

لقد درج سلفیّو العصر على الترویج لفكرة أن الطرح الذي یطرحونه في فھم الدین ھو”القرآن والسنة بفھم سلف الأمة” حتى صار ذلك بمثابة الشعار الذي “یُعرف به مذھبھم”، وھو شعار مُطَمئِن، لما فيه من وضوح للمرجعیة التي عنھا یُفھم الدین. ولكن إذا كان سلف الأمة ھم القرون المفضلة ومن اتبعھم فلابدَّ لھذا الشعار أن یصنع إشكالًا؛ لأن في القرون المفضلة الشیعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة والقدریة، وھي الفِرَق الكبرى في الإسلام من وجھة نظر السنة، فأي سلف یتبع السلفیّون؟

في جزء أعتبره من أھم الأجزاء في الكتاب، یتتبع المؤلف تاریخ نشوء النظریة السلفیّة كنظریة معرفیّة في الدین كما نعرف شكلھا الآن، بدءًا من طبقة الصحابة وانتھاءً بالسلفیة الوهابية ثم السلفية المعاصرة. ویمكن لنا أن نلخص أھم الأفكار التي بُنيَ علیھا كل شيء آخر في ذلك التتبع كالآتي:

معیاریة جیل الصحابة بالنسبة لتصور المؤلف عن السلفیة كمنھج:

أي أنّ الجیل الوحید الذي تعوّل عليه السلفیة (الحقة في نظر المؤلف) في فھم الدین ھو جیل الصحابة، وتحدیدًا فیما اتفقوا عليه. ویستشھد المؤلف بمجموعة من الأحادیث والآیات ثم یؤكد علیھا بأقوال لابن تیمیة. وفقًا لھذا الفھم فإن الوقوع الزمني في القرون المفضلة لمن یخالفون فھمًا اجتمع عليه الصحابة ـ في نظر السلفیة ـ مثل الشیعة والخوارج ھو فھم لا یُعتدُّ به ولا یثیر إشكالًا. أي أن مفھوم السلف صار یُقصد به “بعض سلف الأمة” وھم تحدیدًا: الصحابة ومن اتبعھم واتبع طریقتھم.

إعلان

لكن ھذا لا یلغي الإشكال. لماذا؟ لأن أكثر ھذه الفرق المناوئة للسلفیة في فھمھا لا تنازع في ذلك، ولكنھا تنازعت في أي الفھم ھو فھم الصحابة؟ فالشیعة والخوارج والمعتزلة والأشاعرة كل أولئك یزعمون – زعمًا موازیًا لزعم السلفیة – أنّ فھم السلفیة لیس ھو فھم الصحابة – أو بعض الصحابة على الأقل -. وھنا الإشكال الحقیقي الذي لا یمكن العمل على حلّه إلّا من خلال البحث التاریخي في نشأة الأفكار، وليس من خلال الدعایة الأیدیولوجیة أو السیاسیة.

أھمیة طبقة أھل الحدیث (طبقة ابن حنبل) في التأسیس للنظریة السلفیة:

تُمثِّل طبقة أھل الحدیث الجیل الرابع بعد الثلاثة المفضلة، وتأتي أھمیة ھذا الجیل في التأسیس للسلفیة من موقعه الزمني الذي اكتمل فيه تشكل باقي الفرق الإسلامیة الكبرى المناوئة للسلفیة، باستثناء الأشاعرة، ولذلك فإن أسس الخلاف كان لھا مكانھا البارز في تراث ھذا الجیل، وذلك أمر لا نجده فیمن قبلھم. وقد ادَّعى ھذا الجیل لنفسه تمثیل “سلف الأمة المعیاري: جیل الصحابة” أي أنھم “تابعوا سلف الأمة المعیاري” دون من شاركھم زمانھم وخالفھم آراءھم مثل الفِرق المذكورة آنفًا. ثم أتت من بعدھم أجیال تبنّت النظریة السلفیة وأكدت على نفس المعنى. أي أنّ لھذا الجیل معیاریة ولكنھا معیاریة تابعة لا أصیلة.

وعملیًّا لا یختلف الأمر كثیرًا سواء كانت تلك المعیاریة تابعة أو أصیلة، لأنه یكفي أن یكون لھذا الجیل رأي في مسألة أو أصل من الأصول متمیِّز عمّن خالفھم حتى یتم اعتباره مذھب “السلف المعیاري” دون الحاجة للتحقق التاریخي من ذلك. ویذكُر المؤلف أمثلة لذلك منھا “الكلام في أن القرآن غیر مخلوق وتكفیر من قال ذلك، فإن ذلك لم یُحفظ عن أحد من الصحابة ولا القرون المفضلة، وإنما اعتمدَ تقریره معتقدًا سلفیًّا على تقریر علماء الجیل الرابع له، وأنھم ممثلون صادقون للجیل الأول الذي لم تنشأ ھذه البدعة في زمانھم” (ص 95).

فمسألة الإحالة المباشرة إلى أقوال “طبقة أھل الحدیث” دون الحاجة لتتبع  قول “للجیل المعیاري” في المسألة، ثم التوسع في إطلاق اسم “السلف” على ھذا الجیل ھو أمر شائع عند الأجیال السلفیة التابعة بما فیھم سلفیّو العصر. وھذا ھو الموضع التاریخي للإشكال والنزاع (السلفي-غیر السلفي) سواء كان غیر السلفیین ھؤلاء سنة آخرین مثل الأشاعرة أو غیر السنة مثل الشیعة والمعتزلة أو غیر مسلمین أصلًا مثل الباحثین من الانتماءات الأیدیولوجیّة الأخرى، ولا یُفترض أن یرجح رأي على الآخر إلا بتحقیق معتمد على الأسس الموضوعیّة وحدھا في دراسة تاریخ الأفكار.

السلفیة بین طبقة أھل الحدیث وابن تیمیة متھمة في نظر المؤلف:

یشیر المؤلف في الفترة ما بعد طبقة أھل الحدیث إلى سلفیة طابعھا الأساسي الجمود النقلي وضعف النظر العقلي والتعصّب ضد المخالفین بالتشديد علیھم. أما الجمود النقلي وضعف النظر العقلي فیبدو أنھما رد فعل على توسُّع الفِرق الأخرى المناوئة في إعمال دور العقل، مثل: المعتزلة ثم الأشاعرة، حتى أنه لیبدو من أقوال بعض أئمة ھذا العصر كما سیأتي أن تجمید العقل لازم للتعبّد إلى الله. وأما الاشتداد على المخالفین فیظھر في المناوشات المذھبیة الفقھیة والعقائدیة في ھذا الزمان وذیوع امتحان علماء المذاھب الأخرى بالمسائل الاختلافیة، وذلك ناتج بشكل مباشر عن التأسیس لمعیاریّة فھم أحمد بن حنبل ومن یليه من الحنابلة لمذھب أھل السنة دون غیرھم، واعتبار أي خلاف لآرائھم بدعة.

ویترك لنا شیخ الحنابلة في عصره الحسن بن علي بن خلف البربھاري (المتوفّى في النصف الأول من القرن الرابع أي بعد حوالي قرن من موت ابن حنبل) كتابه “شرح السنة” والذي یطابق فیه بین مذھب الصحابة ومذھب جیل أحمد، فلا یقبل خلاف من خالف أحمد أو طبقته، ثم یجعل تابعي أحمد ھم الحائزین لھذا المذھب، إذ یقول:

فا الله في نفسك، وعلیك بالأثر، وأصحاب الأثر، والتقلید، فإن الدین إنما ھو بالتقلید یعني للنبي،وأصحابه. ومن قبلنا لم یدعونا في لبس، فقلدھم واسترح، ولا تجاوز الأثر، وأھل الأثر” .. “فمن أقر بما في ھذا الكتاب وآمن به واتخذه إمامًا ولم یشك في حرف منه، ولم یجحد حرفًا واحدًا فھو صاحب سنة وجماعة، كامل، قد كملت فیه السنة، ومن جحد حرفًا واحدًا مما في الكتاب أو شكَّ في حرف منه أو شك فیه أو وقف فھو صاحب ھوى.

إذن فالسنة تُدرَك بتقلید الحنابلة الذین ھم الورثة الشرعیّون للدین وتلقوه بالفھم الصحیح دون غیرھم عن أحمد وأصحابه عن التابعین عن الصحابة عن النبي، ثم كل من خالفھم فھو مبتدع، ولو كان حرفًا واحدًا مما سطره البربھاري في كتابه ھذا.

أھمیة ابن تیمیة في تشیید القالب المعرفي السلفي بشكله الحالي:

شيء نلاحظه عند المؤلف في كل ما سبق ذكره من النقاط وفي الكتاب كله عمومًا ھو الإكثار من النقل عن كتب ابن تیمیة تدعیمًا للرؤیة التي یطرحھا، فمثلًا یبتدئ الجزء الخاص بالسلفین بین ابن حنبل وابن تیمیة بتأصیل لابن تیمیة عن الأدلة العقلیة. ویرى المؤلف أن ابن تیمیة ھو من “شیّد المعمار السلفي” كما نعرفه الآن. والسبب التاریخي الذي یجعل من غیر الممكن أن یتم ذلك البناء الفكري قبل ابن تیمیة ھو أن أكثر ما ھو ضروري لھذا البناء وضروري له ھي مسائل لم تكن شائعة ولا مُثارة إلّا في عصر ابن تیمیة أو قبل عصره بقلیل(النزاع الأشعري السلفي عن الأحقیة بمذھب السنة مثلًا). أما ما یجعل ابن تیمیة بشخصه فریدًا، ھو موسوعیته المعرفیة التي جعلته قادرًا على كسر جمود الرؤیة السلفیة وینضج بتلك الرؤیة إلى قالب معرفي ینتمي في معیاریته للجیل الأول، بالإضافه إلى قدرته على الھجوم والدفاع العقلیَّین.

ولا شك أنّ السلفیة المعاصرة لا تجمع على أحد ولا تكثر من الاستشھاد بأقوال أحد كما تفعل مع ابن تیمیة، حتى لیَصح أن یُسمى بـ”الأب الروحي للسلفیّة المعاصرة”، والخلاف السلفي – غیر السلفي المعاصر كثیرًا ما یأخذ صورة الدفاع عن – الھجوم على ابن تیمیة، والخلاف السلفي – السلفي المعاصر كثیرا ما یأخذ صورة الخلاف على فھم وتفسیر ابن تیمیة.

أھمیة السلفیّة الوھابیّة في كونھا أكثر التجارب السلفیة الحدیثة نجاحًا اجتماعیًّا وسیاسیًّا:

یعرض المؤلف جزءًا كبیرًا في نقاش إلى أي مدى تتفق مواقف سلفیة محمد بن عبد الوھاب مع المعیار المحدد آنفًا (فَھمْ الصحابة وتابعیھم..الخ)، وخاصة في مسألة مقاتلة من لم یستجب لدعوتھم قتال المشركین.

وینتھي المؤلف بعد إجراء مقارنة بین موقف ابن عبد الوھاب، وموقف ابن تیمیة ـ بحر السلفیة الذي لا ینضب – إذ یتعذّر أن نجد مسائل مشابھة فیما ھو أقدم من ابن تیمیة!- إلى تقریر أن ذلك السلوك كان “ممارسة جدیدة لا تساعد التصرفات السلفیّة السابقة لھم وفق معرفتنا لھا على أن نعد الوھابیة مماثلة لھا من ھذا الوجه، وإن كان ھذا لا یُخرِجھم من كونھم أحد التحققات التاریخیة للسلفیة” ص 183 .فھذه المسألة المحوریّة والتي اعتمدت علیھا الدولة السعودیة الأولى عملیًّا لتثبیت شرعیتھا، قد أخطأ فیھا ابن عبد الوھاب وجانبه الصواب السلفي، وفقا للكاتب.

ورغم ذلك فالسلفیة الوھابیة محوریّة، وھي مع (السلفیة التیمیة) أحد دعامتین فكریتین وعملیتین قامت علیھما السلفیة المعاصرة، وتتمیز الوھابیة بكونھا أكثر تحققًا على أرض الواقع في صورتھا الاجتماعیّة والسیاسیّة والتي ما زالت مستمرة حتى الآن.

 

بھذا تنتھي مناقشة الأسس الفكریة التاریخیة التي بنيَت علیھا السلفیة المعاصرة، ثم یأتي بعد ذلك طورٌ آخر وھو طور تشكُّل السلفیّة المعاصرة ناھلة من أسسھا الفكریة حینًا، ومستجیبة للتغیّرات الجاریة من حولھا حینًا آخر، متمایزة فیما بینھا إلى سلفیّة علمیّة وسلفیّة حركیّة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أبو الغيط

تدقيق لغوي: فاطمة الملّاح

اترك تعليقا