التناقضات العقلية (Belief/Alief): لماذا أخاف من العفاريت بشقة الجيران؟
وأنا أكتب لكم مقالي هذا عن التناقضات العقلية في تصرفاتنا، وليس عن العفاريت كما ستظنون من الوهلة الاولى ، تذكرت جريمةَ القتل التي حدثت في الثمانينيات في بيت مجاور لبيتنا بحيّ شبرا الجميل. وأنت تعرف أنه مع الجرائم تظهر دائمًا حكايات أن هناك عفريتًا للقتيل يسكن هذا المكان. حكايات مليئة بتفاصيل من الكلام الفارغ الذي لابد أنك تعرفه. واستمرت الحكاية هذه سنينًا طويلةً تدور حول هذه الشقة التي يسكنها عفريت القتيل.
آنذاك كنت شابًا صغيرًا في المرحلة الثانوية، وكان الرعب يقتلني كل مرة أمرّ فيها على هذه الشقة “المسكونة” بالليل، وأنا في طريقي مسرعًا على سلالم المنزل لزيارة صديق لي يسكن بالدور العلوي. وفي يوم ما انقطعت الكهرباء فكاد قلبي يتوقف -بالمعنى الحرفي للكلمة- وأنا على أبواب هذه الشقة. الغريب أن كل هذا الخوف سيطر علي وأنا أدري تمامًا أن فكرة موضوع عفريت القتيل خرافة شعبية و لا أساس له من الصحة، وأنني فقط أسير أحد التناقضات العقلية، وأن عقلي يُدرك تمامًا أن حكايات البيوت المسكونة خرافاتٌ وهراء، كنت أمضي جلسات طويلة أسخر منها.
ويرى علماء النفس أن “الخوف” قادر على تجاوز كل القناعات المنطقية والعقلية؛ لأنه جزء أساسي مرتبط تطوريًا بالسعي نحو البقاء، وأن إثارته تُفقد عقلنا القدرة على التفرقة في لحظة من اللحظات بين الواقع والخيال. وعمومًا فإن الناس يتصرفون بشكل مجنون في كثير من الأحوال، والتناقضات العقلية التي تنشأ في كل تصرف تثير العجب.
تجد أحد المتفرجين على إحدى مباريات الكرة بالتلفزيون يصرخ محذرًا اللاعب “محمد صلاح”، أو ينادي على المدرب؛ وهو على يقين مطلق أنه لن يسمعه. تشعر بالرعب وأنت تشاهد فيلمًا لهيتشكوك؛ حتى وأنت تعلم أنه مجرد فيلم سينما، وأن المشهد الذي تراه ليس حقيقيًّا. وتبكي عندما يموت البطل في فيلم آخر، وأنت تعلم أن هذا شيء خيالي. وأحيانا تمسك الخشب، أو تسمي الله على شيء؛ وأنت أصلًا لا تؤمن بالحسد. والغريب أنك واعٍ تمامًا أن كل هذا ليس حقيقيًّا ومجرد لوثة من التناقضات العقلية؛ إذ تتصرف على ما يبدو وفقًا لمعتقدات خفية تناقض معتقداتك ومفاهيمك الظاهرة.
القناعات الخفية(Alief) وراء التناقضات العقلية
تندرج هذه التصرفات أو ردود الأفعال التي أشرتُ إليها تحت ظاهرة يسمونها في علم النفس بالمصطلح الإنجليزي (alief)، وتعني رد الفعل والتصرف الذي يأتي عكس معتقداتك ويخالف فكرك الظاهر. ويرجع أصل هذه الكلمة إلى كلمة belief بالانجليزية وتعني “معتقد أو قناعة”، حيث تم إسقاط حرف B واستبداله بحرف A لتنبثق إلى الوجود كلمة “alief”، والتي من وجهة نظري يصعب ترجمتها، وإن كنت أقترح ترجمتها: “القناعة الخفية”.
وكان أول من طرح مفهوم الـ”alief”، الدكتورة “تامار جندلر“، أستاذ الفلسفة وعلم النفس بجامعة يال الأمريكية، في بحث حول التفرقة العنصرية في عدد من المجتمعات الأمريكية. وكشف البحث أن التفرقة العنصرية ضد السود متغلغلة بشدة في هذه المجتمعات، دون أن يدري أفرادها أو يكونوا على وعي بها؛ على الرغم أن معظمهم من أشد المؤمنين بالمساواة وحقوق الإنسان. ولقد انعكس ذلك في أمور مثل الحق في التوظيف أو السكن؛ حيث كان يرفض البيض، دون أن يكونوا مدركين للأسباب من وراء ذلك، تسكينَ أو تعيينَ السود.
ولم تنجُ ظاهرة القناعات الخفية هذه alief من تجارب علم النفس الاجتماعي، والتي يطيب لي أن أقصها عليك، وإن كنت أعلم أنك ملول كالعادة، ومن ثم لن أقص عليك إلا تجربتين في عالم التناقضات العقلية المدهش فعلا:
تجارب عالم النفس بول روزين Paul Rosin
لاحظ البروفسور “بول روزين” أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد، وأبو الدراسات الخاصة بمشاعر الاشمئزاز ودورها في خلق المبادئ الأخلاقية، أن المشاركين في اثنين من تجاربه رفضوا وشعروا بالقرف عندما قدمت لهم حلوى الجاتوه الغارقة في أحضان الشيكولاتة، ولكن على شكل براز كلب. كما رفضوا أيضًا شرب المياه التي وضعت في مبولة نقية لم تستخدم من قبل. ورأى روزين، أنه على الرغم من أن المشاركين لديهم قناعات عقلية ظاهرة Beliefs، ويقينية أن الجاتوه رائع، والمياه طاهرة نظيفة؛ إلا أن لديهم قناعات خفية aliefs عكس ذلك، ارتبطت بعلاقات التشابه بين الطيب والقبيح. ولقد كتب ذات مرة عالم النفس الشهير، بول بلووم، أن المعتقدات الخفية هذه “alief” تشير إلى أن عقولنا في بعض الأحيان تتجاهل الفارق بين الأحداث التي نعتقد أنها حقيقة وبين الأخرى، الخيالية.
تجربة العالم يوجين سابوتسيكي
أجرى عالم النفس الروسي Eugene Subbotsky، تجربةً لطيفة خاصة بموضوع التفكير الخرافي supernatural، والتناقض بين القناعات العقلانية الظاهرة والقناعات الخفية، وذلك باستخدام خدعة خفة اليد. وضع “سابوتسكي” طابعًا في صندوق وأغلقه، ناطقًا بعبارات سحرية مثل التي يذكرونها في أفلام هاري بوتر، ثم فتح الصندوق ليَظهر الطابع مقسومًا إلى نصفين. اِعتقد الأطفال من سن ٣ -٥ سنوات أنّ هذا سحر أدى إلى قطع الطابع نصفين؛ أما الكبار، فقد اعتقدوا أن الطابع تم استبداله بشكل ما، دون سحر أو شعوذة. الغريب هنا، أنه عندما طلبوا من الكبار وضعَ رخّ القيادة داخل الصندوق وإجراء التجربة عليها، رفضوا الدخول في هذه المغامرة على الرغم من قناعتهم الراسخة أنه لا يوجد فيها سحرٌ ولا جان.
الخلاصة
تساعدنا هذه الظاهرة (belief/alief)، عبر العديد من الآليات العقلية والإدراكية، التي لم يتسع المجال لذكرها، في فهم كثير من التصرفات الاجتماعية الخطيرة في مجتمعنا، مثل تجنب شخص ما التعاملَ مع المثليين؛ على الرغم من قناعته أن خياراتهم الجنسية هي جزء من الحريات الشخصية، والتي لا يشغل نفسه بها. وتُفسر أيضًا حالاتٍ كثيرة من التفرقة الدينية، مثل أن تجد شخصًا من المؤمنين جدًا بمبدأ المواطنة؛ لكنه يشعر بعدم الراحة إذا قدم له أحد المسيحيين طعامًا يأكله، أو أراد أن يسكن عنده. وتجد أيضًا أن شخصًا من المؤمنين بمبادئ المساواة بين المرأة والرجل، يتردد كثيرًا في الذهاب بزوجته إلى طبيبة وليس طبيب. ودون شك، إنّ فهمَنا وإدراكنا لهذه النوعية من التناقضات العقلية والانحيازات أو المغالطات، قد يساعدنا في التأني في اتخاذ الكثير من القرارات، مما يمكننا من تلافي آثارها الخطيرة على التصرفات الاجتماعية.