الاختفاء الغامض للملكة المصرية نفرتيتي (مترجم)
عندما نتحدث عن مصر؛ فإننا نتحدث عن زمن سحيق، لكنه لم يكف يوماً عن التأثير فينا وإثارة انبهارنا. وحتى الآن؛ لا نزال نقف معجبين أمام حقيقة أنَّ المصريين القدماء إنما نجحوا في بلوغ قمة الحضارة، وشيَّدوا أهرامات ضخمة عظيمة بأساليب بارعة، في الوقت الذي كان فيه بقية العالم يقبع في ظلمات التخلُّف الحضاري والتقني.
والحق أن المفهوم الحقيقي للنسوية إنما نشأ وتطوَّر في مصر، الموضع الوحيد في التاريخ القديم الذي يُمثِّل الأساس المتين لذلك المفهوم. فقد كانت زوجة الملك «الفرعون» تحظى بالاحترام والتوقير ذاته الذي يحظى بهما الملك نفسه، وكلنا يعلم قصة «كليوباترا» الملكة الجميلة ذات الصيت السيِّئ التي بلغت من القوة ما كان مستحيلاً على أي امرأة أخرى أن تبلغه حتى العصر الحديث.
ومع هذا، هناك شخصية أنثوية أخرى غالباً ما تُنسى سيرتُها: «الملكة نفرتيتي».
بدأ الاهتمام بنفرتيتي منذ عام 1912، حين عُثِرَ على تمثال نصفي لها بين أنقاض متجرٍ في أرمينيا، يظهر وجه امرأة جميلة وقوية، الأمر الذي دفع الباحثين للخوض في تاريخها والتعرف إليها عن كثب.
كانت نفرتيتي الزوجة الرئيسة للفرعون المصري «أخناتون» أو «أمنحوتب الرابع» سابقاً، وهو الذي حَكَم منذ قرابة عام 1353 إلى 1336 قبل الميلاد. وحازت نفرتيتي التي عُرِفَت بـ «حاكمة النيل وابنة الآلهة» قوةً غير مسبوقة. كذلك يعتقدُ بعضُ الباحثين أنها تمتَّعت بوضع مساوٍ لمكانة الملك ذاته.
ومع هذا، فقد دار -ولا يزال- كثير من الجدال والتكهُّنات فيما يخصُّ نفرتيتي بعد العام الثاني عشر من حكم أخناتون، إذ اختفى اسمها تماماً من صفحات التاريخ.
? أصول الملكة نفرتيتي
وفقاً لما ورد في كتاب «تل العمارنة: مصر من العصر الذهبي إلى عصر الهرطقة»، فإن اسم نفرتيتي يعني: «ها قد جاءت المرأة الجميلة»، وقد سُمِّيَت بهذا الاسم تقديراً لجمالها.
وكثيراً ما كانت أصول نفرتيتي مثارَ جدلٍ بين الباحثين، ولكن من المتَّفق عليه بصفة عامة أنها ابنة «آي» و«لوي». وعلى الرغم من أن سنة زواجها من أخناتون ليست معروفة على وجه الدقة، إلا أنه من المعروف أنهما أنجبا ستَّ فتيات. كذلك يوجد العديد من الدلائل المؤكدة على أنَّ زواجهما لم يكن زواجاً تقليدياً وإنما قام على حبٍّ حقيقي. وقد بنى أخناتون عديداً من المعابد تكريماً لزوجته، تؤم كثيراً من صور نفرتيتي، ربما بما يقارب ضعف الرسومات التي تُجسِّد الفرعون ذاته.
وأيضاً أظهرتها عديد من تلك الرسومات تؤدي أدواراً تخصُّ فرعون، منها مثلا ما يصورها كمحاربة في المعارك تصرع أعداءها، وعرشها مزدان بتجسيدات للأسرى، كما هو موضح في كتاب «أخناتون: الفرعون المارق»*.
وكما هو معروف، فقد ابتدع أخناتون ديناً جديداً أكثر توحيدية بطبيعته، يتمثل في عبادة «آتون» بكونه معبوداً أوحداً، يُرمَز له بقرص الشمس، وبات أخناتون ونفرتيتي بمثابة أول البشر في تلك الديانة.
? ثورة الملكة نفرتيتي وأخناتون الدينية
في السنة الرابعة من حُكم «أمنحوتب الرابع»؛ أصبح الإله آتون المعبود الرسمي المهيمن، وقاد الملكُ ثورةً دينيةً كان من نتائجها إغلاق المعابد القديمة وتعزيز الدور المركزي للإله آتون. وكما أدت نفرتيتي دوراً بارزاً في الدين القديم، كان لها دورٌ لا يُستهان به في العبادة الجديدة. وإلى جانب زوجها عبدت آتون، وشغلت المنصب الملكي بوصفها كاهناً للإله. وفي إطار الديانة التوحيدية الجديدة؛ صُوِّر الملك والملكة على أنهما: «الزوج البشري الأول» الذي عبرهما يمنح آتون بركاته إلى العالم. وهكذا شكلوا معاً: آتون وأخناتون ونفرتيتي، ثالوثاً ملكياً من خلاله ينشر آتون نورَه على جميع البشر. وفي خلال فترة حكم أخناتون (وربما بعدها كذلك)، تمتَّعت نفرتيتي بقوة وسطوة غير مسبوقة، وترجح بعضُ الدلائل أنها في العام الثاني عشر من حكم زوجها ارتقت كي تصيرَ شريكاً في الحكم ووصياً مشاركاً على العرش، أي إنها باتت في مرتبة مكافئة للملك نفسه. وقد صُوِّرت في أغلب الصور على جدران المعابد في حجم مماثل لحجم أخناتون، بل وتظهرها بعضُ الرسومات وهي تتعبَّد الإله آتون بمفردها. إضافة إلى ذلك يمنحنا تابوت الملك أخناتون دليلاً آخرَ على مدى القوة والأهمية التي حظيت بهما نفرتيتي؛ إذ نجد صور منحوتة لنفرتيتي على الأركان الأربعة للتابوت الجرانيتي، تصورها على أنها الحامية لمومياء الملك، وهو الدور الذي تؤديه عادة الإلهات المصرية القديمة: «إيزيس»، «نيفتيس»، «سلكت»، «نيث».
? الاختفاء الغامض لنفرتيتي
بعد هذا الاستعراض الموجز لسيرة الملكة نفرتيتي، والدلائل على مدى السطوة التي حازتها، لا بدَّ من أن ينشأ السؤال المنطقي: كيف لشخصية تمتَّعت بكل تلك الأهمية أن تختفي تماماً دونما أثر؟
هناك نظريات عدة عن هذا الأمر:
–النظرية الأولى والأقدم ترجح أن السبب وراء اختفاء نفرتيتي هو أنها ربما توفيت فجأة، ربما بسبب الطاعون أو أي سبب آخر من أسباب الوفاة الطبيعية.
–وهناك نظريات أخرى ترجح أنها ربما تكون قد لقيت مصرعها على نحو عنيف، ومنع أخناتون ذكر اسمها ثانية.
كذلك ظهرت تكهُّنات تقول بأن الرأي العام في مصر القديمة ربما تغيَّر تجاه زوجة الملك لسبب أو لآخر؛ مما أدى إلى تلاشي سيرتها.
وبعد فترة وجيزة من اختفائها من السجلات التاريخية؛ اتخذ شريكاً آخر على العرش، وهو ما أثار المزيدَ من التكهُّنات عن هوية ذلك الشخص. وفي هذا الصَّدد تقول إحدى النظريات أن ذلك الشريك الجديد لم يكن سوى نفرتيتي ذاتها، ولكن بمظهر جديد كملكة أنثى، لتؤدي الدور التاريخي ذاته الذي أدته قبلها ملكات أخريات مثل «سوبك-نفرو» و«حتشبسوت». في حين اقترحت نظرية أخرى أن أخناتون اتخذ شريكَين على العرش هما ابن ذكر يدعى «سمنخ كا رع» و«نفرتيتي»، دُمِجا تحت اسم واحد هو «نفر نفرو آتون»؛ أي «جميل هو جمال آتون، ها قد جاءت المرأة الجميلة».
ويُصرُّ عددٌ من العلماء على أن الملكة نفرتيتي قد تولت دورَ الشريك على العرش في خلال حكم أخناتون، بل وبعد وفاته. كذلك يعتقد «جاكوبوس فان ديك» المسؤول عن قسم «تل العمارنة» في موسوعة «تاريخ أكسفورد لمصر القديمة»، أن نفرتيتي قد تولَّت بالفعل منصبَ الشريك على العرش إلى جوار زوجها، ثم جاءت ابنتها «ميريت آتون» لتحتلَّ مكانها بصفتها عقيلة لأخناتون، وهي التي أنجب منها العديد من الأبناء (لم يكن زواج المحارم محظوراً في العائلات الملكية في مصر القديمة).
وتشي صورُ نفرتيتي المنحوتة على الأركان الأربعة لتابوت أخناتون -بدلاً من صور الآلهات كما كان معتاداً- بمدى الأهمية التي حظيت بها نفرتيتي حتى وفاة زوجها، وتدحض تماماً فكرة تراجع مكانتها، كذلك تظهر دورَها المستمر بوصفها إلهة، أو نصف إلهة، إلى جانب أخناتون.
على الجانب الآخر، يذكر «سيريل آلدريد» مؤلف كتاب «أخناتون: ملك مصر» أن الشوابتي الجنائزية** التي وجدت في مقبرة أخناتون تشير إلى أن نفرتيتي لم تكن سوى زوجة ملكية وليست شريكة على العرش، وأنها توفيت في العام الرابع عشر من حكم أخناتون، في حين ماتت ابنتها في العام السابق.
إضافة إلى ذلك، ترجح بعضُ النظريات أن نفرتيتي ظلَّت على قيد الحياة وكان لها تأثيرٌ ونفوذٌ على أفراد العائلة الملكية الصغار الذين تزوجوا في سن مبكرة.
ويبدو أن الملكة نفرتيتي قد استعدت لموتها وما سيقع بعد ذلك، ومن ثم أعدَّت العدَّة لتخلفها على العرش ابنتها «عنخ سن با آتون»***، التى صارت بعد حين «عنخ سن آمون» إلى جوار ابن زوجها وصهرها «توت عنخ آمون». ووفقاً لهذه النظرية، توفيت «نفر نفرو آتون» بعد عامين من توليها حكم البلاد، ليتبوَّأ بعدها «توت عنخ آمون» -الذي يُعتَقَد أنه ابن أخناتون- العرش. فيما يرى رأي آخر أن نفرتيتي قد ماتت في العام الثالث من حكم «توت عنخ آتون»، وهو العام نفسه الذي غيَّر فيه الملك الصغير اسمَه إلى «توت عنخ آمون» وترك تل العمارنة ليعيد عاصمة البلاد من جديد إلى طيبة برهاناً على إعادته لعبادة آمون بوصفه ديناً رسمياً.
وبعد، نظراً إلى عدم اكتمال السجلات التاريخية، فإن الأمل معلَّق على المستقبل أن يحمل لنا المزيد من النظريات، سواء من علماء الآثار أو من المؤرخين، حول نفرتيتي والاختفاء الغامض لسيرتها من المشهد العام.
يبقى القول أنه حتى الآن لم يُعثَر على مومياء الملكة المصرية الشهيرة «نفرتيتي».
ملاحظات من المترجم:
* كتاب «أخناتون: ذلك الفرعون المارق» تأليف دكتور دونالد ريد فورد.
** الشوابتي /الأوشابتي: عبارة عن تماثيل تشبه المومياوات، بملامح تشبه ملامح المتوفى، كانت توضع في المقابر. يأتي إسمها من الفعل المصري القديم «وشب» أي يجيب، وبالتالي سمي التمثال منها «أوشبتي» أي المجيب. وكانت تلك التماثيل توضع مع الموتى لتقوم بخدمة المتوفى والقيام بمختلف الأعمال، مثل الزراعة في حقول ومزارع العالم الآخر وفقا للمعتقدات المصرية القديمة.
***«عنخ سن با آتون» تعني «التي تحيا من خلال آتون»
المصدر