اثر القرآن على شعر ونثر إدجار آلان بو

منذ فجر التاريخ الإنساني، ومنذ أن وطأ البشرالأرض بقدمهم، وكَوّنوا المجتمعات والحضارات والثقافات، وهذه الثقافات تتقاطع مع بعضها البعض، وأحيانًا تتماهى مع بعضها البعض لخلق ثقافات جديدة، وهذه الحركة الدائبة المستمرة كالدورة الدموية التي تتخلل شرايين الأرض وبلادها. وذكر ابن خلدون في مقدمته أن الحضارات مثل الكائن الحي، يبدأ صغيرًا ثم يكبر وينضج ويشيخ ويموت، وشاركه في هذا الرأي العديد من الفلاسفة مثل الفيلسوف الألماني أوسفالد شبينغلر صاحب كتاب “تدهور الحضارة الغربية”، وكذلك كما يتأثر البشر ببعضهم البعض، وكما هم مولعون بتقليد بعضهم البعض، فإن الحضارات كذلك مولعة بالتقليد، فتتأثر وتؤثر، وقد شبَّه الفيلسوف الألماني هيجل المجتمعات بالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر.

ويتنوع أثر الثقافات والحضارات على بعضها البعض من الدين إلى اللغة إلى الآداب والفنون والمأكل والملبس، ومن نماذج هذا التأثر الحضاري والثقافي؛ أثر الحضارة العربية والإسلامية على الثقافة الأوروبية والغربية، ويرجع هذا التأثر لعدة أسباب، منها وجود الأندلس في أوروبا، وقد كانت منارة للعلم لوقتٍ طويل، وكذلك وجود العديد من العلماء المسلمين في العصر الذهبي للإسلام في مجالات مختلفة من العلوم الطبيعية والإنسانية كالكيمياء والفلك والفلسفة. وبلغ هذا التأثر ذروته في القرن التاسع عشر، بعد ترجمة أعمال عربية وإسلامية هامة إلى اللغات الأوروبية مثل “مثنوي” جلال الدين الرومي و”رباعيات الخيام” وهذان الكتابان متأثران كثيرًا في تعبيراتهما وبلاغتهما بالقرآن الكريم، والذي تُرجِمَ بدوره إلى لغات عديدة.

وعلى الناحية الأخرى هناك حكايات “ألف ليلة وليلة” والاكتشافات الأثرية الهامة مثل مقبرة توت عنخ آمون وفك رموز حجر رشيد، التي جعلت الحضارة المصرية القديمة محط أنظار العالم فتدفّقت السياحة إلى مصر، وتأثر المبدعون في أنحاء العالم بذلك، في الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية والسينمائية والمسرحية وغيرها، وكان كتاب “ألف ليلة وليلة” هو الكتاب المفضّل للعديد من الكُتّاب البريطانيين في الحقبة الرومانسية والفيكتورية. أشارت إلى ذلك أنتونيا سوزان بيات حين قالت: “برز كتاب ألف ليلة وليلة في الشعر الرومانسي البريطاني وجعل الإبداع بدل البساطة، والخيال بدل المبتذل.”.

وكانت الرواية عامرة في ذلك الوقت بالحديث عن الصحراء والقوافل والسحر والجن والمومياء والآلهة الفرعونية والأسماء العربية، على سبيل المثال: أعمال الكاتب الأيرلندي لورد دونساني، ففي كتبه هناك الكثير من الأشياء العربية والمصرية؛ كالصحراء، والقوافل، والفراعنة وذكر أماكن مثل مملكة أرابيا وأسماء تحمل طابعًا عربيًّا مثل الحارث حتب في كتاب آلهة بيجانا. ومثال آخر هو كاتب الرعب لافكرافت، فقد كانت أسماء العديد من كياناته القديمة تحمل إشارات إلى أسماء عربية أو مصرية مثل عزاتحوت Azathoth عزازيل وهو الشيطان وThoth أي تحوت الإله الفرعوني القديم، ولقبه لافكرافت بالسلطان وهو قلب عربي الأصل أيضًا. وكذلك تحدث عن شخص يمني يدعى عبد الله الحظرد وكتاب يدعى العزيف أو النيكروميكون، وصار الحظرد والعزيف ركيزتين للعديد من أعماله لاحقًا، بل إن العديد من الناس يظنون أن الحظرد وكتابه حقيقيان لا من خيال لافكرافت.

إدجار آلان بو بين المشرق والمغرب

كان الكاتب الأمريكي إدجار آلان بو ضمن من تأثروا بالثقافة العربية والإسلامية، فقد تأثر كغيره بألف ليلة وليلة، وظهر ذلك في قصص مثل “الليلة الثانية بعد الألف من حكايات شهرزاد” ومجموعته القصصية “حكايات من الجروتسك والأرابسك”Tales of the Grotesque and Arabesque، والجروتسك؛ هو الفن الزخرفي المعماري المستخدم في العمارة الأوروبية القديمة، وخصوصًا العمارة القوطية، أما الأرابسك فهو الفن المعماري والزخرفي المستخدم في المعمار العربي والإسلامي وخصوصًا المساجد. كما أن إدجار آلان بو تأثر كثيرًا بحدث فك رموز حجر رشيد الذي كشف الحجاب عن الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة وفتح الباب للكثير من الاكتشافات الأثرية، فقد كان بو عاشق للشفرات واللغات السرية، وامتلأت قصصه بالألغاز والأحاجي، وكتب مقالات عن “الكتابة السرية” حسب تعبيره وكان يطلب من قُرّائه تحدي مهارته في فك الرموز، وظهرت مهارته في قصة “الحشرة الذهبية” التي تتحدث عن شخص يفك رموز شفرة سرية ليصل إلى كنز، وتصف القصة خطوة بخطوة حلّ شفرة تعتمد على حيلة تعمية الحروف.

إعلان

وبجانب ألف ليلة وليلة وحجر رشيد فقد تأثر بو بالقرآن الكريم الذي قرأه في سن مبكرة من ترجمة المستشرق الإنجليزي جورج سيل، وظهر هذا التأثر جليًّا في أعمال بو، مثل “الحفرة والبندول” فقد استلهم الحفرة من سورة البروج وخصيصًا الآيات ” قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ”. ففي الترجمة الإنجليزية ترجم جورج سيل كلمة أخدود إلى Pit أي حفرة وهي الكلمة التي استخدمها بو في قصته، بل حتى الغراب أشهر قصائد بو، والذي ترتبط صورته غالبًا في أذهان الكثيرين بصورة بو. يقول د. أحمد يسري فُهيد في مقاله “صورة المشرق في أدب إدجار آلان بو” إن بو تأثر بالغراب المذكور في القرآن الكريم الذي عَلَّم ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه، كما استوحى تطيّر العرب بهذا الطائر، في حين لا يتطير منه الغربيون عادة.

إدجار الان بو
إدجار آلان بو والغراب الذي صار يرتبط بصورته

أثر القرآن على شعر إدجار آلان بو المبكر

ولكن واحدًا من أبرز الأمثال ولعله أولهم في أعماله هو قصيدة “الأعراف” وهي أطول قصائد بو، فقد بلغ عدد أبياتها 422 بيتًا، وقال إنه قد كتبها قبل أن يبلغ الخامسة عشر من عمره، ونشرها وهو في العشرين من عمره، والأعراف هي السورة السابعة في القرآن، والأعراف في الإسلام هو مكان بين الجنة والنار يذهب إليه من تساوتْ حسناتهم وسيئاتهم حتى يقضي الله في أمرهم. وقد ذكر بو مصدر إلهامه بالقصيدة قائلًا في التعليق عليها: “مسمى الأعراف مستوحى من المسمى العربي للمكان الذي بين الجنة والنار، والذي يبقى فيه الناس بلا ثواب او عقاب”.

نُشرت قصيدة “الأعراف” في كتاب يحمل الاسم ذاته مع قصيدة ” تيمورلنك” وبعض القصائد القصيرة، وقد قوبل الكتاب بنقد حاد نظرًا لتعقيده وإشاراته الغامضة وبنائه الغريب. ولكن بعض النقاد لاحظوا إمكانيات ذلك الشاعر الشاب، كان من بينهم الناقد جون نيل والذي اطّلع على قصيدة الأعراف قبل نشرها وقال عنها إنها هراء رائع ومتقن البناء، وإن الشاعر الشاب يبدو واعدًا، وتوقع أن بو قد يكتب قصائد جميل بل ورائعة. وقال بو إن هذه هي أول كلمات تشجيع يتلقاها، ولكن ربما يكون هذا النقد الذي واجهه دفعه لاحقًا إلى كتابة قصائد أقصر.

قصيدة الأعراف مليئة بالإشارات الباطنية الغامضة الممتزجة بالحقائق التاريخية، والميثولوجيا الدينية، وعناصر من خيال بو، مما يجعل القصيدة عصية على الفهم والتحليل والتفسير، ولهذا يتجنّبها العديد من الدارسين، ولكن الكاتب الأمريكي آرثر هوبسون كوين يقول إنها تتحلّى بصفات مهمة لفهم تطور مهارة بو كشاعر. قال الناقد فلويد ستوفال إن “تيمة القصيدة هي التحرر من العالم عبر الأوهام لعالم الأحلام أو الخيال الأكثر روحانية”.

يقول إدجار آلان بو في قصيدة الأعراف (الأبيات من ترجمتي):

وهنالك، واحسرتاه، رُوحي المتعبة تجد الاستقرار،
بعيدًا عن أبدية الجنة، ولكن ما أبعدها عن النار!
أي رُوح مذنبة، من بين ظلمة الشجيرات،
لم يوقظها سماع تلك الترنيمات؟
ولكن كليهما هويا، فالجنة لا تسبغ النعمة
على هؤلاء الذين لا يصغون إلى قلوبهم النابضة.

فتركز القصيدة بشكلٍ أساسي على العالم الآخر، والحب المثالي، والجمال المثالي وعلاقته بالعاطفة المتقدة. يركز معظمُ القصيدة على الوصول إلى الجمال المثالي واعتبارات الجمال. وتشكل الشخصيات في القصيدة رموزًا لتجسيد المشاعر.
وفي رسالته التي قدمها لجامعة ولاية ميسوري والتي تحمل عنوان “استشراق إدجار آلان بو: سحر الشرق الأوسط في الأعراف” يقول د. صهيب كمال محمود الكمال إن: “الصورة القرآنية هي لب قصيدة الأعراف لدى بو، فاللغة القرآنية الحيوية والرمزية مستخدمة بأكثر من طريقة. إنها تستخدم بشكلٍ أساسي لإثارة مشاعر القارئ باستخدام صور شعرية محفزة للخيال.” وقد فَصَّل د. الكمال في دراسته تلك الصور القرآنية في أربعة من قصائد بو وهي “الأعراف” و”إلى هيلين” و”المدينة المنكوبة” و”إسرافيل”.

والقصيدة حافلة أيضًا بالحديث عن النجوم، وأحد النجوم يحمل اسم الأعراف، وقد استوحى بو الفكرة من اكتشاف الفلكي الدنماركي تيخو براهي لظاهرة المُستَعِر العظيم أو السوبرنوڨا حين رصد ظهور نجم جديد، هذا المستعر الأعظم الذي يحمل الآن الاسم العلمي SN 1572 ولكن بو أطلق على هذا النجم اسم الأعراف، وكان بو مهتمًا للغاية بالفلك والأجرام السماوية ونشأة الكون ومصيره وفنائه.

الفلكي الدنماركي تيخو براهي يرصد المستعر الأعظم سنة 1572
الفلكي الدنماركي تيخو براهي يرصد المستعر الأعظم سنة 1572
المستعر الأعظم SN 1572 كما يراه الآن مرصد تشاندرا الفضائي للأشعة السينية التابع لناسا

إدجار آلان بو الحلقة الواصلة بين القرآن والعلم

ولعل ما كتبه بو في “الأعراف” في مقتبل شبابه عن الكون والخلق والفناء كان نواةً لآخر أعماله وأهمها، وهي القصيدة النثرية الطويلة “يوريكا” والتي تحمل العنوان الفرعي “مقال عن الكون المادي والروحي” وكلمة يوريكا ترمز إلى أداة النداء اليونانية القديمة، وقالها أرخميدس حين اكتشف قانون الطفو الذي يُسمى بقانون أرخميدس. وقد بنا بو كتابه على محاضرة كان قد ألقاها بعنوان “عن كوزموجرافيا الكون”. والكتاب هو محاولة لتفسير نشأة الكون ومصيره ونهايته، وعن علاقة الإنسان بالكون والخالق، وقد عَدَّه بو ذروة سنام أعماله، وقال في خطابه إلى عمته ماريا أم زوجته الراحلة فيرجينيا: “الآن وقد كتبت يوريكا لم يعد لي رغبة في الحياة، لا أستطيع تحقيق شيء آخر”، وبالفعل لم يكتب بو شيئًا آخر ومات بعد نشر الكتاب بعامٍ واحد.

وفي كتاب يوريكا وضع بو نظريته الخاصة لبداية ونهاية الكون، والتي تتلخص فيما يلي:
“كان الكون بأكمله منضغطًا في كتلة واحدة أو جسيم بدائي “Primordial Particle” وما يبقيه متماسكًا هو ما يسمى بالمشيئة الإلهية “Divine Volition”. بتدخل من الرب انفجر هذا الجسيم ليشكل الأجسام الأخرى والسُّدُم والكون الذي يتمدد باستمرار، وأن هذه الاجسام تسعى إلى بعضها البعض بسبب أصلها المشترك مما يؤدي إلى الجاذبية، وأن هذا الانجذاب سيؤدي إلى عودة هذه الأجسام لتصير جسيمًا واحدًا مجددًا، وهو ما يعرف في العلم بنظرية الانسحاق الكبير، وطرح إمكانية تكرر مثل هذه العملية مجددًا”.
بالطبع أفكار مثل الانفجار الكبير Big Bang والانسحاق الكبير Big Crunch وتمدد الكون؛ تعد ثوابت علمية في عصرنا هذا، ولكن في عصر بو كان كلامه يخالف كل ما هو معروف عن العلم، وقد لاقى ما كتبه استهجانًا شديدًا وفسّره البعض بأنه ضعف في حالة بو العقلية بعد تقدمه في السن، ولكن بو نفسه كان يتوقع رد الفعل هذا وقال في مقدمة الكتاب: “إنها قصيدة أتمنى ألا يحكم عليها أحد إلا بعد موتي”.

انفجار الكون من جسيم واحد Credit: GREMLIN/GETTY IMAGES

وبالفعل بعد سنوات طويلة أعاد الباحثون دراسة يوريكا، في منظور العلم الحديث، كما أن معرفة الباحثين بتأثر إدجار آلان بو بالقرآن قد جعلت بعضهم يعيد دراسة القصيدة من منظور القرآن الكريم، ومنهم الباحث الهولندي رينيه فان سلوتين René van Slooten المتخصص في دراسة أعمال بو فقد قال في مقالته “القرآن، وإدجار آلان بو، والعلم” إن يوريكا معتمدة بشكلٍ كبير على القرآن، وخصيصًا الفقرات الرئيسية التي تتعلق بخلق الكون، والجسيم البدائي الموحد، وتوسع الكون، وخلق الأجرام السماوية، ووجود عوالم موازية في الزمان والمكان، كما ربط بين السُدم والدخان المذكور في القرآن.
وقد وضع سلوتين الفقرات التالية من كتاب إدجار آلان بو جنبًا إلى جنب مع الآيات القرآنية التي يرى أنها مستلهمة منها:

فيما يتعلق بالجسيم البدائي:
القرآن: “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ” سورة الأنبياء.
يوريكا: “الوحدة المطلقة هي ما أرى أنه أصل كل المادة المخلوقة. جسيم فريد للغاية، غير منقسم، ولكنه قابل للانقسام، لأن هذا الذي خلقه بمشيئته قادر على قسمه”.
عن توسع الكون وتقسيم المادة:
القرآن: “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” الذاريات.
يوريكا: “ومن هذا الجسيم، كمركز، دعنا نفترض أن عددًا مهولًا لا يحصى من الذرات تتوسع بشكلٍ كروي، إلى مسافات لا يمكن قياسها ولكنها محددة في الفضاء الذي كان شاغرًا قبل ذلك”.

عن تكثيف المادة إلى أجرام سماوية:
القرآن: “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ” فُصِّلَت.
يوريكا: “ومع اندفاع هذه الذرات الأصلية ناحية مراكز التجمع الخاصة بها، صار لدينا ما هو حاضرٌ الآن، حالة الكون الحالية”.
عن الأكوان المتوازية:
القرآن: “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا” فُصِّلَت.
يوريكا: “وهذا يوجد عددًا متواليًا لا يحصى من الأكوان. (…) مادتهم وروحهم تختلف عن مادتنا وروحنا. لا يوجد بينهم وبيننا أي مؤثرات مشتركة. كل واحد فيهم متواجد بشكلٍ مستقل ومنعزل عن الآخر”.

عن الانسحاق العظيم والكون الدوري:
القرآن: “يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ” الأنبياء.
يوريكا: “أما عن تكتل الكون وفنائه، يمكننا بيسرٍ أن نتصور خلقًا آخر وتوسعًا آخر، فعلًا آخر ورد فعل للمشيئة الإلهية”.
ويشير سلوتين إلى أن هذه الفكرة متشابهة أيضًا مع فكرة “العَود الأبدي” Eternal return عند فريدريك نيتشه، والتي تشير إلى أن الكون يمر بدورات من الوجود والفناء، وصار لها أهميتها الكبيرة في الفلسفة، ويقول سلوتين إنه ليس متيقنًا إن كان نيتشه قد استلهم نظرية العَود الأبدي من بو، أم أنه قد استلهمها بدوره من القرآن مباشرةً. وبحسب تعبير بو نفسه في قصيدته فإنه يرى أن الكون ذاته متوسعًا ومنكمشًا بلا نهاية، كنبضات قلبية إلهية متجددة.

ورغم الانتقاد الكبير الذي تعرض له كتاب “يوريكا” في أمريكا إلى حد وصفه بالهرطقة، والتشكك في الحالة العقلية لبو، إلا أن الكتاب لاقى احتفاءً كبيرًا في أوروبا لما حمله من بصيرة وقوةٍ روحية غامرة، رغم أن أحدًا لم يدرك أهميته العلمية آنذاك، ومع ذلك التأثير الجارف للكتاب في أوروبا خافه العديدون، وتعرض الكتاب للمنع في روسيا القيصرية سنة 1871. ورغم ذلك جاء أول أثر لكتاب يوريكا على العلم من داخل روسيا ذاتها، على يد عالم الرياضيات الروسي ألكسندر فريدمان، ففي مقاله الآخر بعنوان “إدجار آلان بو: الحلقة المفقودة بين القرآن والعلم” يقول رينيه فان سلوتين إن العالم الروسي فريدمان استلهم من يوريكا فكرة أن الكون متغير لا ثابت، إما يتمدد أو ينكمش، وإنه قد اتخذ من نظريات أينشتاين قاعدة أساس انطلق منها، وهو ما أغضب أينشتاين الذي كان يعتقد أن الكون ثابت (ككل علماء عصره)، وقد احتاج لسنوات كي يتخطى اعتراضه على أفكار فريدمان (وبالتالي بو) ، ويعترف أنه قد كان مُخطئًا.

بعدها بسنوات يضع عالم الفلك والكاهن الكاثوليكي البلجيكي جورج لومتر حجر الأساس لما سيسمى لاحقًا بالانفجار الكبير، وقد أطلق عليه “افتراض الذرة الأولية” أو “البيضة الكونية”، ويقول سلوتين إن أعمال بو كان لها شعبية طاغية في بلجيكيا وإنه ليس من المستبعد أن يكون لومتر قد تأثر بيوريكا كما تأثر بها فريدمان، ويختم مقاله قائلًا: ” لكن يجب الاعتراف بأن القرآن هو أصل هذه التطورات، وأن الكثير من العلوم الحديثة لا يمكن تصوره دون ذلك!”.

الخط الزمني لبداية الكون وتمدده بحسب نظرية الإنفجار الكبير

ولكن هناك في القصيدة بعض الأشياء التي لا تتفق مع العلم حتى هذا اليوم، بل وتعارضه بشكلٍ صريح، ولكن بو لم يكن يسعى لأن يتحدث بشكلٍ علمي، بل كان معارضًا للقوانين المادية الفيزيائية في زمانه لما تفرضه على الإنسان من قيود، ويرى أن الحقائق العلمية الصارمة الجامدة تتعارض مع مخيلة الشاعر، وقد عبر عن ذلك في قصيدته التي تحمل اسم “سونيته … إلى العلم” ونشرت في كتاب “الأعراف وقصائد أخرى” حيث قال فيها (الأبيات من ترجمتي):

العلم! أنت الأحق بأن تكون ابن الزمن!
يا من تُخضع كل شيء لعينيك المحدقتين!
لماذا تقتات على قلب الشاعر،
أيها النسر، يا من جناحاه حقائق مضجرة؟
كيف يمكن أن يحبك؟ أو يعتبرك حكيمًا،
وأنت لا تتركه في ترحاله
ليبحث عن الكنوز في السماء المرصعة،
حتى وإن كان يحلق بجناحين باسلين؟

وذكر بو معارضته لتلك القوانين العلمية في يوريكا، وذكر على سبيل المثال قوانين نيوتن وكبلر، فتلك القوانين كانت تفترض أن الكون ثابت، لا يتغير، وأن كل شيء فيه يسير بدقة الساعة فتحكمه قوانين أبدية أزلية أو ما يسمى بالكون الميكانيكي “Clockwork Universe”، فسعى بو لخلق عالمٍ أفضل من أجل البشر، عالم يكون فيه الإنسان حرًا ومسؤولًا عن حياته وتصرفاته، ولكن هذا لم يكن ممكنًا من دون معارضة القوانين الفيزيائية في زمانه، فوضع تصورًا آخر للكون، يكون فيه الكون حيًّا نابضًا متغيرًا، وهكذا استطاع بو من خلال يوريكا أن يكسر الصورة النمطية للعالم الميكانيكي الجامد، ليمهد الطريق لعالم حي حيوي متطور.

وكان إدجار آلان بو متأثرًا في نظرته إلى الكون كذلك بالنظرة الصوفية، وأن الكون هو امتداد للصورة الإلهية، أو قلبه النابض، وكذلك العديد من صور بو الجمالية، وحديثه عن الزهور والطيور والندى مستمدة من الأشعار الإسلامية والصوفية، وخصيصًا أشعار سعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي، وقد ذكر ذلك بشكلٍ مفصل د. صهيب كمال محمود الكمال في بحثه “استشراق إدجار آلان بو: سحر الشرق الأوسط في الأعراف” مقارنًا بين صور بو الجمالية في الأعراف ويوريكا وبين الصور الجمالية في أشعار حافظ وسعدي وخصيصًا ديوان گلستان لسعدي الشيرازي والذي يعني اسمه الروضة أو الحديقة.

الصوفية والروحانية وإسرافيل

يظهر هذا التضاد بين العالم المادي، والعالم الصوفي الروحاني، في واحدة من أهم قصائد بو، وهي قصيدة إسرافيل، والتي تتحدث عن شاعر ـ لعله بو نفسه ـ ينظر بعين الخيال إلى السماوات ليرى الملاك إسرافيل يغني بصوتٍ عذبٍ فينصت له القمر والنجوم والأفلاك والحور العين، ويقارن في حسرة بين هذا العالم الجميل المثالي وبين عالمه الأرضي المليء بالكدح والألم. ويقول صديق بو الشاعر توماس هولي تشايرس إن قصيدة إسرافيل تقترب كثيرًا من فكرة بو عن الفن والشعر المثالي. وقد ربط الكاتب هيرفي ألِن بين إدجار آلان بو نفسه وبين إسرافيل في السيرة الذاتية التي كتبها عن بو بعنوان: ” إسرافيل: حياة وزمان إدجار آلان بو”.

ويبدو أثر القرآن واضحًا على بو في هذه القصيدة، فالملاك إسرافيل موجود فقط في الثقافة الإسلامية، وليس مذكورًا في الثقافة اليهودية أو المسيحية، على عكس ملائكة آخرين مثل جبريل أو ميكائيل. وإن كان البعض يقول إن إسرافيل في الإسلام هو رافائيل الملاك الرابع في المسيحية، والبعض الآخر يقول إنه يوريئيل الملاك الرابع في كتاب التناخ عند اليهود. ورغم أن إسرافيل لم يذكر بالاسم في القرآن، ولكنه ذكر في أحاديث كثيرة، وذُكِر في القرآن ملاكًا موكَّلًا بنفخ الصور، وهناك إجماع بين العلماء على أن هذا الملاك هو إسرافيل، كما أن بو يبدأ القصيدة باقتباس يزعم أنه من القرآن، ولكنه ليس من القرآن، وعلى الأرجح وصل إليه النص بصورةٍ مغلوطة أو محرفة أو خلط بينه وبين نصٍ آخر.

وتعليقًا على هذا الخلط يقول د. أحمد يسري فُهيد في مقاله “صورة المشرق في أدب إدجار آلان بو”: لقد كان تراثنا القديم أحد مكونات ثقافة «بو» الأساسية، فيلفت انتباه القارئ لأدبه تلك الرموز العربية أحيانًا والإسلامية أحيانًا أخرى، التي تتكرر في قصائد وقصص تثير من كثرتها تساؤلاً هامًّا عن وصول الثقافة العربية والإسلامية لـ «بو»، لنجد أن ثقافتنا قد وصلته من ثلاثة طرق رئيسة، أولها ترجمة القرآن الكريم. فأولى الترجمات التي نرجح اطلاعه عليها صدرت في لندن عام 1734 م؛ لأن هذه الترجمة تحديدًا قد اشتملت على تفسير يختلط في أغلب الأحيان بالترجمة الحرفية للآيات. وهو ما جعله يظن خطأً أنه من القرآن الكريم، عندما أشار في هامش قصيدته «إسرافيل» إلى أن إسرافيل أحسن الملائكة صوتًا، وأن مصدره في ذلك القرآن الكريم، وبالرجوع للترجمة نجد أن تلك المعلومة قد وردت في تفسير الآية الثامنة من سورة الروم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) بأن من نعيم أهل الجنة الاستماع لتسبيح داود وإسرافيل – عليهما السلام– وأن إسرافيل أحسن الملائكة صوتًا.

إسرافيل في الثقافة الإسلامية هو نافخ الصور، أو البوق، الذي ينذر بيوم القيامة ونهاية العالم، فيصعق كل المخلوقات بنفخته، ثم ينفخ في الصور مرةً أخرى لبعث البشر يوم الحساب. وفي أحاديث أخرى يختلف العلماء في صحتها هو من يحمل اللوح المحفوظ حول عنقه، ويحمل العرش على عاتقيه.

أما في التصوف الإسلامي فإن الملائكة الأربعة يمثلون الأقطاب الأربعة، والقطب أو الغوث حسب تعريف ابن عربي هو “مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق، عليه مدار العالم له رقائق ممتدة إلى جميع القلوب الخلائق بالخير والشر على حد واحد، لا يترجح واحد على صاحبه”. ويقول ابن عربي أيضًا إن القطب “على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحامل مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الدافعة فيها”، فلذلك كان الأقطاب الأربعة مثل الملائكة الأربعة.

لوحة مستوحاة من قصيدة إسرافيل لإدجار آلان بو Credit: Peter Mohrbacher

وبسبب ربط اسم إسرافيل بالبوق وهي آلة موسيقية، ربطه العديدون بالموسيقى والغناء، وقد نال إسرافيل شهرة في القرن التاسع عشر على يد الكابالا والطوائف الباطنية الغامضة وعلى رأسها الوحش ألستر كراولي الذي أسس ديانة الثيليما بعد زيارته للقاهرة وقد ذكر كراولي اسمه في طقس يدعى “سفر إسرافيل” وكان هذا الطقس يحمل قبلها اسم “سفر أنوبيس” وقد كتب النص الأصلي أعضاء جماعة ” الفجر الذهبي الهرمسية” واستخدموه للابتهال إلى الإله تحوت إله الحكمة والسحر والخيمياء عند القدماء المصريين، والذي يحمل بدوره مكانة كبيرة عند الطوائف الباطنية السحرية، ويرتبط اسمه باسم الإله الاغريقي هرمس والذي يعده البعض الشخص ذاته.
وهذا الربط بين إسرافيل وبين الموسيقى والغناء والصوفية يظهر واضحًا في قصيدة إدجار آلان بو، فيصف إسرافيل بأن أوتار قلبه كأوتار العود، وأنه يمسك بعود أو قيثارة، وأنه يغني وأن صوته لا مثيل له، حتى إن النجوم والأفلاك والحوريات تصمت لتصغي السمع حين يغني. وقد استخدم إدجار آلان بو كلمة Houri وهي نقل حرف لكلمة الحوريّ بالعربية وتعني الحور العين.
ولا أجد ما أختم به أفضل من قصيدة إسرافيل ذاتها (الأبيات من ترجمتي):

“والملاك إسرافيل، أوتار قلبه كأوتار عودٍ، وصوته أجمل الأصوات من بين كل خلائق الله”.

هنالك يقطن رُوحٌ في السماء
“أوتار قلبه كأوتار عود”؛
فليس ثمة من يحسن الغناء
مثل الملاك إسرافيل،
والنجوم السابحة في أفلاكها (كما تروي الأساطير)،
تُقلع عن ترانيمها، مأسورة بسحر صوته،
وتصغي في صمتٍ جليل.

متبخترًا في العلياء،
في ذروة الأنواء،
القمر المتيم عشقًا،
يتورد خداه حبًّا،
والبرق لكي يستمع
بصحبة الكويكبات السبع
يُحجم الخطى في السماء.

وهم يقولون (جوقة النجوم
والأشياء الأخرى المنصتة)
إن إسرافيل يدين بتأجج ترانيمه
إلى نيران تلك القيثارة
التي لا تفارقه؛
والحركة المتناغمة الناعمة
لتلك الأوتار النادرة.

ولكن تلك السماوات التي يجوبها الملاك،
هنالك حيث ترفع الصلوات،
حيث يتجلى الحب،
حيث تكون نظرات الحوريات
مُكللة بكل البهاء
الذي نبجّله في النجوم.

لذا، معك كل الحق
يا إسرافيل، عندما تنظر بازدراء
لكل غناء لا ينبع من القلب؛
من أجلك حِيكتْ كل أكاليل الغار،
يا أبرع الشعراء، وأحكم الحكماء!
بمرح تعيش، إلى آخر الزمان!

النشوةٍ الصوفيةٍ في عليائك
بقوافيك المتقدة تتناغم
مع حزنك، فرحك، مقتك، حبك،
مع اتّقاد أوتار العود،
لذا فالأحرى أن تصمت النجوم!

أجل، السماوات لك والنعيم،
ولكننا نحيا ما بين الحزن والحبور؛
زهور عالمنا مجرد … زهور،
وظلال عالمك الكامل البديع،
هي لدنيانا كضوء الشروق.

لو استطعتُ أن أقطن،
حيث يقطن إسرافيل،
وعاش هو حيث أعيش
ربما لم يكن ليتقن الغناء
حين يغني أغنية بشرية،
بينما ينبعث لحنٌ غاية البهاء
من قيثارتي في السماء.

المصادر:
The Orientalism of Edgar Allan Poe: The Allure of the Middle East in Al-Aaraaf, by: Sohaib Kamal Al-Kamal.
The Koran, Edgar Allan Poe and Science, By René van Slooten.
Edgar Allan Poe: the missing link between Qur'an and science By René van Slooten.
صورة المشرق في أدب بو لأحمد يسري فُهيد.
الموقع الرسمي للكاتب أحمد صلاح المهدي

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد المهدي

اترك تعليقا