وهم الحقيقة
يؤدي تكرار معلومة ما إلى أن يستقبلها الآخرون كحقيقةٍ مسلَّمٍ بها بغض النظر عن مدى صِحتِها؛ ويشير عالم النفس توم ستافورد إلى أن إدراك هذه الحقيقة يساعدك على تجنب الوقوع في فخ البروباغندا – وهي الدعاية الموجّهة التي تهدف إلى التأثير على آراء وسلوك أكبر عدد ممكن من الأشخاص.
“داوم على تكرار كذبة ما لتضرب جذورها عميقاً في عقل الجمهور كحقيقة لا مجال للشك فيها”: يُعزى بقانون البروباغاندا هذا إلى جوزيف جوبلز الذي كان مسؤولاً عن الدعاية السياسية في ألمانيا النازية. أما من وجهة نظر علم النفس، يُطلَقُ على هذا القانون مصطلح “أثر وهم الحقيقة”.
وإليك الآن إحدى التجارب التي بحثت في آلية عمل هذا التأثير؛ طُلِبَ من المشاركين في هذه التجربة أن يقوموا بتقييم صحة بعض العبارات التي تحتوي على معلومات عامة صحيحة؛ كعبارة “القُراصيا هي خوخ مجفف” وبعض العبارات التي تشبه العبارة السابقة ولكنها تحوي معلوماتٍ مغلوطة؛ كعبارة “التمر هو خوخ مجفف” – بدلاً من “التمر هو بلح مجفف”. وبعد إنهاء الجزء الأول من التجربة، طُلِب من المشاركين إجراء التجربة مجدداً بعد انقضاء فترة تراوحت ما بين بضع دقائق إلى عدة أسابيع. إلا أن القائمين على التجربة قاموا بإضافة بعض العبارات الجديدة -لمجموعة العبارات التي سبق أن استعرضها المشاركون- ليقوموا بتقييم مدى صحتها.
وخلصت التجربة إلى أن الأفراد يميلون إلى تقييم العبارات التي سبق أن رأوها على أنها صحيحة بغض النظر عن حقيقة الأمر؛ وذلك لأنهم يشعرون بأنها مألوفة لهم. حيث أثبتت هذه التجربة صحة ادعاء جوزيف جوبلز بأن تكرار كذبة ما يجعلها حقيقة في عقل الجمهور. وإذا نظرت للعالم من حولك ستجد أن الجميع يستغلون نقطة الضعف السيكولوجية هذه -بما في ذلك وكالات الإعلان والسياسيين.
إلا أنّ فعالية هذا التأثير في المختبر لا تعني بالضرورة أنه لا يزال فعالاً على معتقدات الأفراد في الحياة الواقعية خارج جدران المختبر؛ فإن كان ذلك صحيحاً، ستختفي حاجتنا إلى أساليب الإقناع الأخرى. وإحدى العوائق الأخرى التي تقف في وجه فعالية هذا التأثير هي المعرفة الراسخة لديك، فلماذا قد تتخلى عنها لمجرد أنّك قد سمعت -مراراً وتكراراً- كذبة مقنعة.
أعد فريق بحثيّ تترأَسه ليزا فازيو -برتبة أستاذ مساعد في جامعة فاندربيلت- تجربةً تهدف إلى قياس تأثير وهم الحقيقة على المعرفة السابقة. حيث عرض فريق البحث على المشاركين عبارتين؛ إِحداها صحيحة والأخرى خاطئة. فعلى سبيل المثال، عبارة “المحيط الهادئ هو أكبر المحيطات” تمثل معلومة سابقة تطابق الواقع، بينما تمثل عبارة “المحيط الأطلسي هو أكبر المحيطات” معلومة مغلوطة يعرف المشاركون العبارة الصحيحة الموازية لها.
وأسفرت النتائج عن أن تأثير وهم الحقيقة يمتد ليشمل المعرفة السابقة إضافة إلى المعرفة المُكتسبة؛ مما يشير إلى أن المعرفة السابقة لا تشكِّل جداراً يحول دون هيمنة تأثير تكرار المعلومات المغلوطة على آلية حكمنا على المعقول. ففي إحدى الدراسات التابعة للبحث السابق، طلب الباحثون من المشاركين أن يقوموا بتقييم درجة صحة كل جملة على أساس مقياسٍ من ست نقاط؛ وفي دراسة أخرى -تابعة كذلك للبحث السابق- طُلِب من المشاركين أن يصنفوا العبارات تحت تصنيف “صحيح” أو “خاطئ”. وأسفرت النتائج عما يلي:
- أدى تكرار عبارةٍ متوسطة الصحة إلى تقييمها عالياً في مقياس الست نقاط ورفَعَ من احتمالية تقييمها على أنها صحيحة.
- أدى تكرار العبارات على اختلاف طبيعتها -سواء أكانت واقعية أم خيالية، أو معروفة للمشاركين أم جديدة عليهم -إلى جعلها أكثر قابلية للتصديق.
تبدو هذه النتائج للوهلة الأولى وكأنها تنذر بسوء الفأل لعقلانية الجنس البشريّ؛ إلا أنّه يجب علينا الاطلاع على الأعداد الفعلية (بدلاً من النسب المئوية) عندما نحاول تفسير سيكولوجية الإنسان. كما وأن إحدى النتائج المستخلصة من تجربة فازيو وزملاؤها أشارت إلى أن المحدد الرئيسي للحكم على صحة العبارة هو كونها صحيحة على أرض الواقع. فالتكرار لا يحجب الواقع عن أعين البشر؛ وذلك لأنهم يميلون لتصديق الحقائق الواقعية -بلا وعي منهم- بدلاً من الأكاذيب المُختلَقة. مما يعكس جانباً جوهرياً للكيفية التي يتم من خلالها تحديث معتقداتنا؛ فالتكرار لديه القدرة على جعل ما نسمعه يبدو حقيقياً حتى عندما نعلم يقيناً أنه ليس كذلك؛ ولكنه في ذات الوقت لا يطغى على المعرفة السابقة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو “لماذا يحدث ذلك؟”؛ وتكمن الإجابة في الجهد الكبير الذي ينبغي أن يبذله الدماغ ليفكر بصرامةٍ حول منطقية كل معلومة يستقبِلُها. فإذا قضيت وقتك في تقييم كل معلومة تسمعها وفق معايير المعرفة السابقة لديك، سيضيع يومك وأنت تفكر في أول جملة تناهت إلى سمعك. فتدفعنا الحاجة المُلِّحة لإصدار أحكامٍ بلمح البصر إلى اللجوء لطرقٍ مختصرة والتي غالباً ما تكون أنسب الطرق المُتاحة؛ وإحدى هذه الطرق المختصرة هي عدد المرات التي سمعت فيها معلومة ما. فمن المنطقي أن نلجأ لهذا الطريق المختصر للحكم على صحة المعلومات نظراً لأننا نعيش في عالم يتم في تكرار المعلومات الصحيحة بنسبة أكبر من المعلومات المغلوطة -حتى لو كان هذا الفرق متناهي الصغر: %51 لصالح المعلومات الصحيحة و %49 لصالح المعلومات المغلوطة.
وإن كان التكرار هو المؤثر الرئيسي على معتقداتنا سنواجه مشكلة كبيرة؛ حيث يمكننا أن نسخِّر قوىً عقلية أكثر تأثيراً على المنطق من قوة التكرار ولكن لحدٍّ معيّن. فتأثير وهم الحقيقة ينقض بافتراس على الدماغ البشري ليكون ضحيةَ لجوء الحدس الغريزيّ إلى طرق مختصرة في الحكم على منطقية معلومة ما؛ الأمر الذي يصيب معظم الأحيان ويفشل أحياناً أخرى.
ويمكننا أن نحمي أنفسنا من تأثير التكرار على الدماغ بمجرد أن ندرك وجوده؛ وذلك من خلال التحقق من السبب الذي يدفعنا إلى التصديق بِمعتقداتنا. ففكر بالسبب الذي جعل معلومة ما معقولة بالنسبة لك؛ هل كان ذلك لحقيقة المعلومة أم لأنها تناهت لمسمعك مرة تلو الأخرى؟ كما ويفسر هذا التأثيرُ شعورَ الباحثين الأكاديميين بالغضب العارم حول توفير المراجع في أبحاثهم لنتَعقب مصدر ادعاءاتهم بدلاً من التصديق بها اعتباطاً.
وإحدى الاحتياطات التي يجب علينا اتخاذها ضد تأثير وهم الحقيقة هو التوقف عن تكرار الأكاذيب والمغالطات التي لا أساس لها من الصحة. فنحن نعيش في عالم تشكل فيه الحقيقة ركيزة من ركائز المجتمع؛ وتكرار المعلومات دون التأكد من صحتها يساعد في جعل العالم مكاناً يسهل فيه الخلط بين الحقيقة والكذب. لذلك فكّر قبل أن تكرر ما تسمعه من معلومات وتساعد في نشرها.