هوام الاجتياف وإعادة الإنتاج التدامجي للموضوع المفقود
«إنَّ ما يؤكدُ عليه التحليل النفسي هو أنَّ الأفعال الواعية تظلُّ غير متناسقةٍ وغير قابلةٍ للفهم؛ إذا نحن أصررنا على الزعم بأنَّه يتعيَّن علينا أن ندرك بواسطة الوعي أو الشعور كلَّ ما يحدث فينا من أفعالٍ واندفاعاتٍ نفسية، لكنَّها تنتظم في مجموعٍ يمكن أن نبرز تناسقه إذا ما قمنا باستقطاب الأفعال اللاشعوريَّة المستنتجة.»
كاترين كليمان والتحليل النفسي
الهوام في التحليل النفسيّ هو سيناريو خياليٌّ تكون الذات حاضرةً فيه، ويصوِّر بطريقةٍ تتفاوت في تحويرها تحقيق رغبةٍ ما، وتكون هذه الرغبة لاواعيةً بالضرورة.
أخد فرويد هذا المُصطلح مِن الكلمة الألمانيَّة «Phantasie» ويقصد في دلالته تكوينًا خياليًّا خاصًّا ولا يدلُّ على النشاط التَخيُّليّ بوجهٍ عام؛ يكون الفرد حاضرًا فيه ونشطًا يُراقب إنتاجه الهوامي الذي يُرسم بشكلٍ مشوَّهٍ قليلًا بسبب الديناميَّات الدفاعيَّة التي تَهدفُ إلى تحقيقِ رغباتٍ لاواعيةٍ وإحداث إشباعٍ عن طريق التحقيق الهلوسيّ للرغبة. وكما يرى المُحلِّل النفسيّ الفرنسيّ مورل؛ أنّه في الهوام يكون الفردُ هو المؤلِّف والمُمَثِّل والمُشاهِد في الوقتِ عينه لكن دون أن يتحكَّم في المحتويات الإنتاجيَّة، وأشار فرويد إلى أنَّ الهوامات بوصفها تكويناتٍ بُنيتها مشابهة لبنية الحُلم؛ إلَّا أنَّ الهَيْم تنظيمٌ واعٍ ولا واعٍ في آنٍ واحد، ويستطيع العبور من اللاوعي إلى الوعي دون أن يتعرَّض للكبت إذا لم يحظَ بتوظيفٍ مُفرطٍ للعناصر تجاه الموضوع.
أما الاجتياف هو آليةٌ تتضمَّن قيام الشخص بنقلِ موضوعات علاقةٍ أو شيءٍ أو شخصٍ ما، أو خصائص هذه الموضوعات من الخارج إلى داخل ذاته بحيث تصبح جزءًا من تكوينهِ النفسيّ، وذلك من خلال تمثُّلات خياليَّة لمواضيع وصفاتٍ تابعةٍ لهذه المواضيع تُساهم في تكوين جزءٍ من الأنا أو الأنا الأعلى. والاجتياف وثيق الصلة بالتماهي إذ يُمثِّل مرحلتهُ الأولى؛ فالطفل يجتاف صورة الوالدين وخصائصهما أولًا ثم يصبح متماهيًا بهما، بما يجعله جزءًا من هويَّته النفسيَّة.
وإنَّ هدفهُ الأساسيُّ هو جعل مواضيع العالم الخارجيِّ غير خطيرة، من خلال إدخالها إلى الذات وجعلها جزءًا منها.
لكن يمكنُ تشبيه الاجتياف بالامتصاص، والفرق بينه وبين التماهي هو أنَّ التماهي نوعٌ من التغليف الخارجيِّ لبنيةٍ مزعزعة، أما الاجتياف فهو تشريبٌ هذهِ البنية داخليًّا.
إذ يَدمج الفرد الموضوع المرغوب مع ذاته وذلك بالتِهامه؛ إذًا، هو يُزيله، لكنهُ في الوقتِ ذاته يجتافه. وهكذا يكون الاجتياف تهذيبًا بنيويًّا، وبالنتيجة هو تماهٍ مُستحبٌّ وعذب.
الاجتياف اصطلاحًا هو الدخول في جوفِ الشيء. يأخذُ التحليل النفسي هذا المُصطلح ليُعبِّر فيهِ عَنْ تماهٍ هواميٍّ نحو إعادة الإنتاج التدامُجيّ للموضوعِ الغائب، وكما يقول فرويد؛ فالموضوع المفقود مُعادٌ تكوينه إذن في الأنا التي تتبدَّل على غرار الموضوع المفقود، وهو أيضًا يمُثِّل دفاعًا تحصينيًّا ضدَّ القلق الناشئ من فساد الترسيمة المُتخيَّلة وفشل تحقيقها، ومن خلالِ الانطواءٍ النرجسيٍّ يُسمَح باسترداد الموضوع المفقود هَيْميًّا؛ حيثُّ يجتاف الفرد الموضوع الغائب ويتعامل معهُ على كونهِ داخله وبالتالي يَحدثُ أشباعٌ لرغبتهِ الداخليَّة.
ويُمثِّل الاجتياف بطورِه المُحبَّب ديناميَّةً شائعةً لدى الفرد في مجرى النموِّ السويِّ لأناه الأعلى؛ فالمرء إذا لم يفتأ يستدخل ويستدمج خصائص وصفات من لهم سلطانٌ عليه؛ فإنَّما يُقدم بذلك بصورةٍ متواصلة للأنا الأعلى المادَّة اللازمة لتطوِّره ونموِّه.
لكن لنستذكر هُنا مثالًا تطرحهُ آنا فرويد من خلال دراساتها لآليات الدِفاع النفسيَّة؛ يُمثل تماهيًا واجتيافًا لموضوعٍ مرهوبٍ لا مرغوب كي نُبيِّن تَمظهراته: وهي حالة بنتٍ صغيرةٍ ما كانت تجرؤ على اجتيازِ الرِواق في العتمة خوفًا من الأشباح، ولكن اهتدت على حينِ فجأة إلى حيلةٍ أتاحت لها أن تُسيطر على قلقها وخوفها؛ فقد صارت حين تجتاز الرواق وتقومُ بطائفةٍ من الحركات الغريبة، وكشفت بعد وقتٍ قصير لأخيها سرَّ انتصارها؛ فقالت له: لا حاجة بك إلى أن تخاف الرِواق، فما عليك إلا أن تتظاهر بأنك أنت الشبح!
إن اصطناع الحركات والايماءات هُنا يمثِّل تسويةً مع الموضوع الخارجيِّ المرهوب من خلال استدماجه، وقد تضمَّن كتاب «ما وراء مبدأ اللذة» وصفًا تفصيليًّا عن هذا الانتقال من دورٍ سالبٍ إلى موجبٍ بغيَّة التوصُّل إلى السيطرة على خبراتٍ مُستكرهة.
وقدَّ ميز فرويد بين الاستدماج الغيريّ؛ الذي ينبعُ من المرحلة الفميّ في حياةِ الطفل، الذي يُريد إدماج موضوع رغبتهِ بهِ، وذلك بالتهامهِ، وبين التماهي المُقلِّد للغير (كما في حالة البنت الصغيرة) المُعتبَر نموذجًا يجبُ التشبُّه بهِ. إنَّ الغيريَّة هي ميلٌ يجبُ الإستحواذ عليه، والتماهي الثاني هو ميلٌ يجب أن نكونه، والاجتياف هو تماهٍ بنيويٌّ يسمحُ للفرد بأن يتشكَّل من خلال علاقته مع الغير أو النموذج المُراد، وأن يذود عن نفسه بالتالي ضدَّ الإذلالات النرجسيَّة والمُنغِّصات.
وأحيانًا كثيرة يجدُ الفرد في الاجتياف إشباع رغبته تجاه الموضوع المُراد، ويتمثَّل ذلك بالعزوفِ عنها لا بتحقيقها؛ فالموضوع أصبح داخل البنية النفسيَّة، وبذلك يمثِّل العزوف وسيلةً للتغلُّب على الإذلال النرجسيِّ والقلق النفسيِّ الذي يُسلِّطه الموضوع.
يَتبينُ هُنا أنَّ هذه العمليَّة التيّ تنطوي على التماهي والاجتياف هي الجدليَّة التي تُبنى عليها الهويَّة، القائمة على التضاد (بين الأنا والآخر)، وهي دائمًا جدليَّةٌ جماعيَّة، لأنَّ الإنسان هوَ جوهريًّا كائنٌ للآخرين، كما هو كائنٌ للعالم.
«ما أحدثهُ التحليل النفسيُّ من انقلابٍ فكريٍّ يعود إلى دعوة الإنسان للتحرُّر من المفاهيم المكبوتة سابقًا، مفتِّشًا عن حقيقةٍ كامنةٍ وراء جموده واستسلامه، لأنَّه بالأساس منذ ولادته، إنسانٌ راغب، دخل عالم الرموز لكي يسبح في بحر اللغة التي تعبِّر عنه وتكوِّنه في آنٍ واحد، يخاطب الآخر ويحاوره، يدفع إليه بطلباته، ويرتبطُ معه بوثاق، بحيث أن تصبح رغبتُه رغبةَ هذا الآخر الكبير، بشكلِ مرسالٍ مرتجع.»
-عدنان حبّ الله، التحليل النفسي للذكورة والأنوثة من فرويد إلى لاكان.
ورأى لاكان أنَّ الأنا تتأسَّس داخل نواتها عَنْ طريق سلسلةٍ من التقمُّصات المغتربة والتماهيات، وهذا جزءٌ مِن معارضته لأيِّ تصوُّرٍ عن الأنا خالٍ من الصراع ومستقلٌّ ذاتيًّا؛حيثُّ يؤكِّد على كونها تركيبًا مُستلبًا ومَسرحًا تمثِّل على خشبته أنساق الجماعة.
- مصادر
- التَّحليل النفسي والسوسيولوجيا/ روجيه باستيد
- كاترين كليمان/ التَّحليلُ النفسي
- التَّحليلُ النفسي علمًا وعلاجًا وقضية/ مصطفى صفوان
- التَّحليل النفسي للذكورة والأنوثة من فرويد إلى لاكان/ عدنان حبّ الله
- الأنا وأواليات الدفاع النفسية/ آنا فرويد
- معجم مصطلحات التحليل النفسي/ جان لابلانش وبونتاليس