مقدَّسات تحت مطرقة النَّقد (عن البخاري وصحيحه)
إنَّ النَّقد في باطنه ومدلوله في النَّظر إلى قيمة الأشياء من حيث تركيبها ومحتواها ينقسمُ إلى نوعين رئيسين هما: النَّقد الهدّام والنَّقد البنَّاء، ويختلفُ كلا النَّوعين عن بعضهما؛ في طريقة الطَّرح والتَّفكيك للنّصوص السَّاقطة تحتَ مجهر النَّقد؛ فالنَّقد الهدَّامُ من أهمِّ أغراضِهِ تحطيمُ بنيةِ النُّصوصِ بغرضِ هدمِها ليسَ إلّا، بينما النَّقدُ البنَّاءُ فهو محاولةُ تقويمِ النّص ومهاجمةِ مكامنِ الضَّعف فيه بغرضِ تصحيحه وتقويمه وبناءِ منهجٍ سليمٍ يقوم على أطلالِ ما هُدِمَ في النّص.
وفي طرحنا هذا فإنّ تبني فعل النقد بحدّ ذاته يحوي بين طيّاته على كلا النوعين، فاستخدامُ الّنقد الهَّدام يكون بغرض تحطيمِ الآخر وهدمِهِ بلا أُسسٍ وقواعدَ ثابتةٍ وبراهين ودلائل، بينما النَّقد البنّاء فهو العمودُ الفقريّ لعمليَّةِ النّقد المَطروحةِ ويكونُ بغرضِ تقويمِ هذا النّص التّراثيّ وتنقيته من الشّوائب الممزوجةِ والخُرافاتِ المندسّةِ بين طيَّات النّصوص، وهي فكرةٌ تبنَّاها العديدُ من المفكِّرين السّابقين منذ بدءِ إنتاج هذا التُّراثِ حتّى يومنا هذا، وعلى غرار هؤلاء نسلكُ منهجًا نقديًا في عمليَّة النّظر لنصوصِ وأطروحاتِ تراثنا المَوروث.
إنَّ الاعتمادَ على منتجاتِ التُّراث الفكريَّة النّاشئةِ في العُصور الغابرةِ في تحليلِ عصِرنا الحاليّ يستلزمُ بالضّرورةِ تنسيقًا كاملًا لمنتجاتِ التُّراثِ الموضوعةِ في أوقاتٍ مغايرةٍ ومختلفةٍ أشدَّ الاختلافِ عن واقعنِا الحاليّ، على الأخصِّ حينما تكونُ منتجاتُ التُّراث هذه من إنتاجِ الأفرادِ وليست في جوهرها وحيٌّ مُنزلٌ، وإذْ تكون نصوصُ بعض الأفرادِ هي النُّصوص التّأسيسيّة (أي الأصل) في ثقافةٍ ما، فإنَّ هذه التَّأسيسيّة لا تتأتَّى من كون هذه النّصوص تَخْتَزِل البنيةَ الكاملةَ في الثّقافةِ وتجلّيها في أكثرِ صُورِها شُمولًا وكليّضةً فحسبُ، بلْ كونها تصوغُ هذه البنيةَ وتعيدُ إنتاجها ضمن فضاءاتٍ جديدةٍ. [1]
إنَّ الانتقالَ من الأصلِ يؤسّسُ علومًا ما وهذه العلومُ بجملَتِها تؤسِّس علومًا أُخرى؛ ممّا يُكَوِّن بالضّرورةِ البنيةَ المعرفيّة المُنتِجة للثّقافةِ التّي بدورها تُمثّلُ بنيةَ العقلِ وتفكيرهِ وأيديولوجيّاتِهِ وإنتاجهِ للمعرفةِ، ممَّا يعني أنّ مفهومَ الأصلِ يدخلُ بالضّرورةِ في تركيبِ العقلِ والفِكْرِ حتّى يكادُ يكون من غير المُمكنِ أنْ يُصبحَ العقلُ عقلًا معرفيًا -بمعناه غير البيولوجيّ- إلا ببنيتِهِ الثّقافيَّةِ المُستمدَّةِ من الأصلِ، فتتحدّدُ بذلكَ طبيعُة العقلِ ونظامِه تبعًا لكينونَتِةِ الأصل أو للكيفيّةِ التّي عَمِلَ بها، وبتلك الطّريقةِ يكون الأصلُ بمثابةِ سُلطةٍ مُهيمنةٍ على الوعي ممَّا يؤديّ بالضّرورة إلزامَه بالانصياعِ لسطوتِها، لذلك من الضّروريّ الاهتمامُ بهذا الأصلِ والدّرايةِ التّامَّةِ بكيفيّةِ انبثاقِهِ ومعرفةِ الآليَّةِ التّي عمل بها مؤسّسو الأصولِ الكِبارُ الأوائلُ.
إنَّ المنتِجَ والمؤسّس للنّص (أي الأصل) العربيّ الإسلاميّ هو القادرُ على تحديدِ بنيةِ الثَّقافة العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، فالعقلُ المُتشكِّلُ والمُتكوِّنُ بداخلها يؤديّ بالضّرورةِ لاحقًا إلى حدوثِ صدامٍ عند أيّ محاولةٍ لتفكيكِ الثّقافةِ المُهيمنةِ عليهِ، فيكونُ بمثابةِ التّفكيكِ للعقلِ السّائدِ، وقد سعى العديدُ من المُحدّثين والأئمة إلى تقديمِ الأصل بصورةٍ تُحيطُها هالةٌ من التّقديسِ، رافضين بذلك محاولاتِ النّقد أو التّفكيك والتَّحليل لبنيةِ الأصل، أو للثّقافةِ الإسلاميَّةِ السَّائدة. [1]
ولتكوين بنيةٍ ثقافيةٍ وفكريَّةٍ صحيحةٍ، وَجَبَ النّظرُ بتمحيصٍ إلى أصولِ ثقافتنا العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، ولا شيءَ أحقُّ بالبحث والتّفكيك في أصول هذه الثّقافةِ من (الجامع المُسند الصّحيح المُختَصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه) الشَّهير بإسم (صحيح البخاري) الذَّي تمّ اعتباره “أصحّ كتابٍ بعد كتابِ الله”؛ لكثرةِ الاعتماد عليه في تأسيسِ وعي المسلم، ومعرفته الدّينيّة، وكونه أحد أهمِّ المخطوطاتِ في التَّاريخِ الإسلاميّ، وهو كتابٌ كَثُرَ مريدوه ومؤيّدوه وفي نفس الوقت ظهرَ معارضوه، فالاحتكامُ بين أراءِ هؤلاء وهؤلاء ينبغي أن يكون على أُسسٍ منطقيّة خارجةٍ من نقطةِ التقاءِ الفريقين.
حول البخاري :
إنَّ الشّيخ محمد بن إسماعيل البخاري (194 هـ / 256 هـ) من أكثرِ الشّخصياتِ إشكاليةً في تاريخ الثَّقافة العربيّة الإسلاميَّة، فقد نُسِجَت حوله العديدُ من المَرويَّاتِ، وسَمَت به الحكاياتُ فوقَ الطّابعِ البشريّ حتّى يكادُ الباحثُ أو القارئ في التّراثِ الإسلاميّ ليشكُّ قطعيًّا في حقيقة وجود شخص بمثل تلك القُدراتِ أو الصّفاتِ.
فيُقالُ أنَّه في بدايةِ حياته حينما كان طفلًا اُصيب بالعمى، فرأت أمّه رؤيةً يزورها فيها أبو الأنبياء إبراهيم، ويبشّرُها بأنَّ ابنها سيشفى؛ نظرًا لكثرةِ بُكائِها، وفي روايةٍ أُخرى كَثرةِ دُعائها، وتحقَّقَ وعدُ إبراهيم الخليل لأمِّ الإمامِ البخاريّ. وحينما نضجَ وأصبح ابن السَّابعة عشر، كان يحفظ من الحديثِ سبعين ألفًا، وحينما زاد عمرُه بضعة سنين، أصبحَ حافظًا لثلاثمئة حديثٍ، بالإضافةِ إلى جمعِهِ لستمئة ألف حديثٍ خلال ستَّة عشر عامًا، تنقَّل خلالها بين خرسان ومصر والعراق والشّام متتبّعًا رواة الأحاديثِ؛ كي يكتشِفَ أصحَّها نَسبًا، أضف إلى ذلك العديدَ من المرويَّاتِ عن امتحانِهِ الذّي فيه اتَّضحَت قُدراته الهائلة في حفظ مَتْنِ عددٍ كبيرٍ من الأحاديثِ ونسبها بشكلٍ مُفصّل حتّى وإنْ تمَّ خلطُه فسيتمكَّنُ من ردِّهِ لأصلهِ، ذُكِرَ في قصّة قلبِ أهلِ بغدادَ:
«تَذكُر الأحاديثُ عن الإمام البخاريّ أنّه لما دخل بغدادَ أراد أهلُ بغداد أن يمتحنوه، هل هو من الحِفظِ والضَّبطِ والإتقانِ وسعةِ الإطّلاع كما يقالُ عنه؟ فعمدوا إلى مئة حديثٍ، وقسّموها على عشرة أشخاص، لكلّ واحد عشرة أحاديث، وقلّبوا أسانيدَ العشرة الأولى مع متونِها فوضعوا إسناد الحديث الأوَّل لمتنِ الثّاني، وإسناد الثّاني لمتنِ الأوّل، إلى تمامِ العشرة، ثم قلّبوا العشرة الثّانية، وهكذا إلى تمام المئة، فلمَّا استقرّ بهم المجلسُ، وحضر وجوه بغداد وأعيانها وعلماؤها، انتدب الأوّل للبخاريّ وقال: يا أبا عبد الله ما تقول في حديث كذا وكذا، فألقى إليه السّند تامًا والمتنَ غير متنِهِ، قالَ البخاري -رحمه الله-: لا أعرفه، ثمَّ الحديث الثّاني: حدّثنا فلان عن فلان قال: كذا وكذا، قال البخاري: لا أعرفه، وهكذا إلى تمامِ المئة وهو يقولُ: لا أعرفه، فلمّا رأى ذلك عوامُ النّاس ظنُّوا أنّه لا عِلْمَ له بالحديث، أمَّا النُّبلاء منهم فعلموا أنَّ الرّجُل قد فهم، فالتفت البخاري إلى الرّجل الأوّل، وقال: أنت قلت: كذا وكذا، فساقَ الحديث الأوّل بخطئه ثم صحّحه وقال: ولكنّ الصّواب كذا وكذا، وقلت في الحديث الثّاني: كذا ولكنّ الصّواب كذا، وهكذا حتّى أتى على المئة فصوّبها كلَّها، فعجبوا من كونه ردّ المئة على صوابها، لكنْ أعجبُ من ذلك كونه حفظ كلّ المئة بخطئها».
والغريبُ في تلك القصّة وما على شاكلتها بأنّها تخبرنا بأنّ البخاري لا ينسى، بينما يخبروننا في مواضع أُخرى بأنّ الرّسول ينسى ويُسقِطُ آياتٍ من القرآن «ورد في الصّحيحين عن عائشة قالت: سمع النّبي رجلًا يقرأ سورةً في اللّيل، فقال: يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا كنت قد، أنسيتها من سورة كذا وكذا». وفي هذا الصّدد يبين شيوخ الإسلام أنّ نسيانَ الرّسول جائزٌ لأنّه بشر مثلنا ينسى كما ننسى بينما يرفضون نفسَ المَنطق على شخصيّةَ الإمام البخاري. [2] [3]
تلك المروياتُ وغيرها تتنافى ومنطقُ العقلِ إجمالًا، ويناقِضُ الطّبيعة البشريّة لشخص البخاريّ، فذهب العديدُ من الشُّيوخ والأئمّةِ إلى إعلاء منزلتِهِ وتقديسِهِ وإضافتِهِ إلى الأولياء وورثة الرّسول عن طريق الاحتكامِ بأحلامٍ رآها بعضُ تلامذةِ تلامذتِهِ، فأحدهم يرى الرسول يخبره بأنَّ كتابَه (أي كتاب الرسول) هو صحيحُ البخاريّ، ويلومُهُ لدراسةِ الشّافعيّ والانصرافِ عن صحيح البخاريّ، وآخر يرى أنّه رأى الرّسول يسير والبخاري خلفه يسيرُ على خطاه وبهذا تمّ رفعُ البخاريّ من مكانته البشريّة كمجتهدٍ في جمع الحديث إلى منزلةٍ تُقارِبُ النّبي.
ومن الغريب أنَّ البخاريّ في عصره لم يمتلك تلك المنزلة التّي أصبحَ يمتلكُها الآن، ولا هذا التّقديس المطلقَ؛ فعلى سبيلِ المثالِ تمّ طردُه من نيسابور ومن بلدته بخارى لرأيه في قضيَّة خلق القرآن، فقال محمد بن يحيى: «كتب إلينا من بغداد أنّ محمد بن إسماعيل يقولُ بأنّ لفظ القرآن ليس قديمًا، وقد استتبناهُ في هذه ولم ينهِ، فلا يحقُّ لأحدٍ أنْ يحضرَ مجلسه بعد مجلسنا هذا». [3]
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى تكفيرِ من يقول بخلقِ القرآن فقال: «والقرآن كلام الله ليس بمخلوقٍ، فمن زعم أنَّ القرآن مخلوقٌ فهو جهنميّ كافرٌ، ومن زعم أنّ القرأن كلام الله ووقفَ ولم يقل مخلوقٌ ولا غير مخلوق، فهو أخبثُ من الأوّل، ومن زعم أنّ تلفظنا بالقرأن وتلاوتنا له مخلوقٌ والقرآن كلام الله فهو جهنميّ، ومن لم يُكفِّر هؤلاء القوم والقائلين بخلق القرآن وكلام الله فهو مثلهم كافر». [4]
وعلي الرّغم من هذا تمّت إحاطة البخاري بهالةٍ من التّقديس لوضعِ كتابهِ في منزلةِ الوحي الآخر، فرفع قداسة الأشخاص مقاماتٍ تساوي مقامات النّبوة والرّسالة هي بمثابة صناعة الكهنوت كما حدث قبلًا وهذا ممّا يُنافي أحكامَ الإسلام وحول ذلك يُذْكَر في القرآن:
” اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ”.
” اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ”.
حول صحيح البخاري وتدوين الحديث:
(1) التَّدوين(ما بين الرّسول صلى الله عليه وسلّم، والبخاريّ):
إنّ عمليّة تدوين الحديث ليست وليدةَ القرن الثَّالث الهجريّ، إنّما هي عمليّةٌ كَثر حولها النّقاش طوال فترةِ خلافة الصّحابة وفترة وجود الرّسول، لكنّ الرّسول رفض قطعيًا تدوينَ الحديث، حيث روي عن أحمد ومسلم والتّرمزيّ والنّسائيّ والدّراميّ “شيخ البخاري” من حديث عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله قال: «لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». وروي عن مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: «جهدنا بالنّبي أنْ يأذن لنا في الكتابة فأبى».
وقد سلك الخلفاءُ مسلك الرّسول رافضين بذلك تدوين الحديث والاكتفاء بالقرآن الكريم؛ فقد ورد في تذكرة الحافظ الذّهبيّ من مراسيل ابن أبي مليكة، أنّ أبا بكر جمع الناس بعد وفاة الرسول فقال: «إنكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتابُ الله».
وفي رواية عن طريق أنس أنّ عمر قال عندما عَدَلَ عن كتابة السُّنّةِ: «لا كتابَ بعد كتابِ الله». وأخرج الحافظ بن عبد البرّ بثلاثة أسانيدَ في جامع بيان العلم، والحافظ الذّهبيّ في تذكرة الحافظ عن قرظة بن كعب أنّه قال: «لما سيّرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر إلى صرار، ثم قال: أتدرون لمَ شيّعتُكم؟ قلنا: أردت أن تشيّعنا وتكرمنا. قال: إنّ مع ذلك لحاجة، إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النّحل فلا تصدّوهم بالأحاديثّ عن رسول الله، وأنا شريككم. قال قرظة: فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله».
وفي تاريخِ ابن عساكر ورد عن عثمان بن عفّان أنّه قال: «لا يحلّ لأحدٍ أن يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر».
وسلك عمر بن الخطّاب مسلكًا قاسيًا في هذه المسألةِ؛ حيث ورد في طبقاتِ ابن سعد «أنّ الأحاديث كَثُرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشدَ النّاسَ أنْ يأتوه بها، فلمّا أتوه بها، أمرَ بتحريقها». [5]
إنَّ عمليَّة تدوين الحديثِ هي عمليّةٌ تمّ رَفضُها عن طريق الرّسول وتبعه فيها خلفاؤه، فتمَّ منعها في عهدهم، فما نمت هذه إلّا بعد موتِهم، حيثُ اهتمّ التّابعون بها اهتمامًا كبيرًا لأغراضٍ سياسيّةٍ في تسيير الخلافة أولًا، وإحكامِ قبضةِ الحاكِمِ على الشّعبِ ثانيًا وغيرها من الأسباب الأخرى.
استمرَّ نمو هذهِ العمليّةِ حتّى أتى البخاريّ ووصل أوجها وأخرج صحيحَهُ الذّي يحظى في وقتنا الحاضِرِ بمكانةٍ تكاد تكون منافسةً لمنزلةِ القرآن في تقديسِهِ والحفاوةِ بهِ، لذلك وجب معرفةُ ظروف نشأةِ هذا الكتاب، وكيف أتى إلينا.
(2) النشأة:
اختلفتِ الآراءُ حول منشأ هذا الكتابِ فبعضهم ينسبه إلى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري لكنّ هذا النّسب بدون دليلٍ ماديّ، فإلى الآنَ لم توجدْ مخطوطةٌ واحدةٌ كُتبت بخطّ يد الشّيخ البخاريّ في حين وُجِدت ثلاثُ مخطوطاتٍ لصحيحِ البخاريّ؛ الأولى تعود لعام 407هـ أي بعد وفاة الإمام البخاري ب 151 سنة، ولا تشملُ إلَّا على جزءٍ يَسيرٍ من الكتاب. الثّانية تعودُ لعام 424هـ أي بعد وفاة البخاري ب 168 سنةٍ ولا تُمثّل أيضًا الكتاب كلّه. بينما الثّالثة فتعود إلى 495 هـ أي بعد وفاة البخاري ب 239 سنة. [6] وتلك المخطوطاتُ الثَّلاثة لا تمتُ بصلةٍ للشّيخ البخاريّ.
ويتغنَّى الشُّيوخُ بنسخةِ “منجانا” وهي النّسخة التّي تعود لعام 370هـ أي بعد وفاة البخاري ب114 سنة وهي برواية المروزيّ، لكنَّ هذه النّسخة كان هدفُها في المقامِ الأوّل الطَّعن في البخاريّ كما ذكر وكتب الشّيخ “أحمد بن فارس السّلوم” في بحثه (رسالة في الرّد على شبه منجانا حول البخاري). [5]
بينما وُجد ما يقاربُ الثّلاث عشرة نسخة منسوبةً إلى تلاميذ البخاريّ وأقرّ الشّيخ محمود أبو ريّة بقوله: «روايات البخاري تختلف في العدد: فعدد أحاديث البخاريّ يزيدُ في رواية الفربري، عن عدده في رواية إبراهيم بن معقل النّسفي بمئتين، ويزيد عدد النّسفي على عدد حمّاد بن شاكر النّسفي بمئة كما ذكره العراقيّ». [7]
ويقول في ذلك الإمامُ أبو الوليد الباجيّ في مقدّمةِ كتابه في أسماء رجال البخاريّ «أخبرني الحافظ أبو ذر بن أحمد الهرويّ، قال حدّثنا الحافظ أبو إسحق إبراهيم بن أحمد، قال انتسخْتُ كتاب البخاريّ من أصلِه الذّي كان عند صاحبه محمّد بن يوسف الفربريّ فرأيت فيه أشياءَ لم تتمّ وأشياءَ مُبيّضة منها تراجمُ لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض، قال أبو الوليد الباجي: وممّا يدلُّ على صحّة هذا القول أنّ رواية أبي إسحاق المستمليّ ورواية أبي محمّد السّرخسيّ ورواية أبي الهيثم الكشميهنيّ، ورواية أبي زيد المروزيّ مختلفة بالتّقديم والتّأخير مع أنّهم انتسخوا من أصل واحدٍ، وإنّما ذلك بحسب ما قَدِرَ كلّ واحدٍ منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنّه من موضع ما فأضافه إليه، ويبيّن ذلك أنّك قد تجد ترجمتين، وأكثرّ من ذلك متصلةً وليس بينها أحاديث». [8]
أيْ أنّه تمّ انتساخ هذه النّسخ من أصلٍ واحدٍ -مفقود- بالإضافة إلى أنّه كان (ناقصًا) ولم يتم إنهاءه بيدِ مُؤلّفهِ -فقيلَ أنّ الإمامَ البخاريّ وافته المنيّةُ قبل إكمالِهِ، أضف إلى ذلك تصرّف أولئك النّاسخون في نسخِهم بالإضافةِ أو الحذفِ كلٌ حسب تقديره؛ ممّا أدّى إلى اختلاف نسخهم النّاتجة من هذه العمليّة ممّا يعني بصحيحِ العبارةِ فُقدانَ النَّص الأصليّ، على أنّه تمّ الجمعُ بينَ تلك النُّسخِ والتّي في النّهايةِ أنتجَت لنا النّسخة الموجودة إلى الآن.
(3) الإشكاليات:
1- إشكاليَّةُ الإجماع
إنَّ فكرة إجماعِ الأُمَّةِ على صحّة صحيحيّ البخاريّ ومسلم هي كذبةٌ تغنّى بها شيوخ المسلمين وأئمّتهم، فالتّاريخ الإسلاميّ يثبت خطأ أقوالهم، فيقولُ الألبانيّ عن الصّحيحين: «إنّ الأمّة لم تضلّ بإذن الله، وإنّما ضلّ من افترى عليها ونسب الاتّفاق إليها في أمرٍ فيه مُختلفون». ويقولُ الإمام أحمد في مساءلة “رواية عبد الله ابنه”: «ما يدّعي الرّجل فيه الإجماع، هذا الكذب. ومن ادّعى الإجماعَ فهو كاذبٌ». ويقول أبو الوليد الباجي في كتابه “التّعديل والتّجريح”: «وقد أخرج البخاريّ أحاديث اعتقد صحّتها تركها مسلم لمّا اعتقدَ فيها غير ذلك، وأخرج مسلم أحاديثَ اعتقد صحّتها تركها البخاريّ لما اعتقد فيها غير مُعتقَدِه، وهو يدلّ على أنّ الأمر طريقةُ الاجتهاد بمن كان من أهل العلْمِ بهذا الشّأن وقليٌل ما هم».
وبالنّسبة لعلماء المسلمين فقد اختلفوا حول الصّحيحين وانتقدوا بعض أحاديثهما، فانتقد هذه الأحاديث: أحمد بن حنبل وعلي بن المدينيّ ويحيي بن معين وأبو داود السّجستاني والبخاريّ نفسه ضعف حديثًا عند مسلم، ومسلم رفض أحاديثًا عند البخاري، وأبو حاتم ، وأبو زرعة الرّازيان وأبو عيسي التّرمذيّ، والعقيليّ، والنّسّائيّ، وأبو علي النّيسابوريّ، وأبو بكر الإسماعيليّ، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو الحسن الدّارقطني وأبو مندة، والبهيقيّ، والعَطّار، والغّسانيّ الجيانيّ، وأبو الفضل الهروي بن عمار الشّهيد، وابن الجوزي، وابن حزم، وابن عبد البر والألبانيّ، وانتقد بن تيمية، وابن القيم، وحكمًا على لفظ “ينشئ لهما خلقًا فيسكنوهما” بالنّكارة وتبعهم بن جبيرين وبن عثيميين. [5]
ويقول ابن برهان في كتابه “الوصول إلى الأصول”: «خبر الواحد لا يفيد العلم، خلافا لبعض أصحاب الحديث فإنّهم زعموا أنّ ما رواه مسلم والبخاري مقطوعٌ بصحّته. وعمدتنا أنّ العلم لو حصل بذلك لحصل لكافَّةِ النّاس كالعلم بالأخبار المُتواتِرةِ. ولأنّ البخاريّ ليس مَعصومًا عن الخطأ، فلا نقطعُ بقوله. لأنّ أهلَ الحديث وأهلَ العلم غلّطوا مسلمًا والبخاري وثبّتوا أوهامهما. ولو كانَ قولُهما مقطوعًا به، لاستحالَ عليهما ذلك». ويقول أحمد بن الصّديق الغماريّ في كتابه “المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصحيح”: «فكم من حديثٍ صحّحه الحُفاظ، وهو باطل بالنّظر إلى معناه ومعارضته للقرآن أو السُّنَّة الصّحيحةِ أو مخالفة الواقعِ والتّاريخِ؛ وذلك لدخولِ الوهم والغلط فيه على المعروفِ بالعدالة، بل قد يتعمّد الكذب! فإنّ الشُّهرة بالعدالة لا تفيدُ القطعَ في الواقعِ. ومنها أحاديث الصّحيحين: فإنّ فيها ما هو مقطوعٌ ببطلانه، فلا تغتر بذلك ولا تتهيّب الحُكم عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماعِ علي صحّة ما فيهما؛ فإنّها دعوةٌ فارغةٌ لا تثبت عند البحث والتّمحيصِ، فإنّ الإجماعَ على صحّة جميع ِأحاديث الصّحيحين غير معقول ولا واقع». [5]
مما سبق ذكره، يبدو أن هناك شبهُ إجماع على استحالة الإجماع وكذبه؛ مما يؤدّي بنا إلى أنّ تقديس صحيحيّ البخاري ومسلم واعتبارهما كتابين خارجين عن دائرة النّقد باعتبارهما الأصح بعد القرآن بإجماع العلماء أو المسلمين على ذلك، هي فكرةٌ حداثيّة تعلّقت بالعقلِ العربيّ وثقافتِهِ بعد انحدارِهِ وانحلالِهِ، وروّجَ لها شيوخٌ وأئمةُ هذا المنهجِ في النّقل، وهي فكرةٌ خاطئةٌ بشهادة التّراثِ ذاتِهِ.
2- رد الأحاديث
بالإضافة إلى عدم إجماع علماء المسلمين أو مؤرخيهم أو باحثيهم على إجمال صحّة صحيحيّ البخاريّ ومسلم، فإنّ بعض الأحاديث المذكورة في صحيح البخاريّ تمّ ردُّها ولم يُتّفق عليها، حيث تمّ تكذيبها من الصّحابه ذاتهم.
فعن محمود بن الرّبيع -وكان ممّن عقل عن رسول الله وهو صغير- أنّه سمع عتبان بن مالك الأنصاريّ وكان ممّن شَهِدَ بدرًا، أنَّ رسول الله قال: إنّ الله حرّم النّار على من قال لا إله إلا الله يبغي بها وجه الله -وكان رسول الله في دار عتبان فحدّثها قومًا فيهم أبو أيّوب صاحب الرسول- فأنكرها علي أبو أيوب وقال: والله ما أظنُ رسول الله قد قال ما قلت.
وردَّت عائشة حديثين أحدهما عمر وابن عمر: «إنّ الميّت يُعذّبُ ببكاء أهله عليه»، فقالت: إنّكم لتحدّثون عن غير كاذبين ولكنّ السّمع يخطئ والله ما حدّث رسول الله أنّ الله يُعذِّبُ المؤمن ببكاء أهله عليه. وفي رواية أخرى أنّها قالت: وهل قال: إنّه ليعذّبُ بخطيئتِهِ وذنبه، وإنَّ أهله ليبكون عليه. والآخر حديث رؤية النّبي لربّه ليلة الإسراء الذّي رواه الشّيخان عن عامر بن مسروق، الذّي قال لعائشة: يا أمتاه. هل رأى محمّد ربّه؟ فقالت: لقد وقف شعري ممّا قلت! أين أنت من ثلاث من حدّثكم فقد كذب: من حدّثك أنّ محمّد رأى ربّه فقد كذب، ثم قرأت «لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» و «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ» ومن حدَّثك أنّه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا» ومن حدّثك أنّه كتم شيئًا فقد كذب.
3- إشكاليّة النّسخ
«الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ».
« ِإنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * َلا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».
« وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا».
إنّ الآيات السّابقة توضّح بشكلٍ جليّ أنّ القرآن نصٌ محفوظٌ وثابتٌ ولا تغيير يمكنُ أن يصيب نصوصَه، وعلى ذلك فإنّ الاعتماد على فكرة إعلاء منزلةِ السُّنًّة فوق القرأن لهو تقليلٌ من شأن القرآن وتقليلٌ لمكانتِهِ المعرفيّةِ والتّقديسيّةِ لدى المسلم، فالقرآن هو الكتابُ الأوحد الذّي نزل به الوحي، لذلك إنّ إلغاءَ حُكم آيات من القرآن وإبدال أحكامها من السُّنَّة لهو أمرٌ شائنٌ، بالإضافة إلى محاولة إثباتِ أنَّ القرآن نصٌ ناقصٌ لهو تَعارُضٌ مع نصوص القرآن ذاته « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، فقد ثبتَ في صحيحيّ البخاريّ ومسلم وفي الموطأ والسُّنن الكُبرى أنّ الله أنزل آية الرّجم «والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله واللهُ عزيزٌ حكيم» ثمّ رفعها -حيث أكلتها داجنٌ قبل تدوين القرآن -فرفع النّص وبقي الحُكم، فقد روي أنّ عمر بن الخطّاب قال: «إنّ الله تعالى بعث مُحمدًا بالحقّ وأنزل عليه الكتابَ، فكان ممّا أنزل الله عليه آيه الرّجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، والذّي نفسي بيده لولا أنيّ أخشى أن يقول النّاس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله، لكتبتها بيدي». [9]
وعلى هذا فإنَّ فكرة النّسخ هي فكرةٌ في مجملها تعارض نصوص القرآن وتعارض حفظ الكتاب، بالإضافة إلى إلغائها حريَّة العقيدة ممّا يُناقض تعاليمَ الإسلامِ فآية السّيف نُسخَت جلّ آيات الرّحمة قبلها، وقد روي عن عمر أنّ رسول الله قال: «أُمرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاس حتّى يشهدوا أنّ لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصمُوا منّي دمائهم وأموالهم، إلّا بحق الإسلام» وهذا الحديث يُخالِف جملةً وتفصيلًا الآيات القرآنية التّي تقول:
«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم» و«فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» و«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» و«وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ» و«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».
وفي مسألةِ نسخِ السُّنّةِ للقرآن اختلف علماء المسلمين على قولين:
الأوّل: لا يجوز نسخُ السُّنَّة الآحادية لنصوص القرآن واتّفق مع هذا الشّافعي وأحمد وابن قدامة وابن تيمية.
الثّاني: يجوزُ نسخ السُّنَّة الآحادية للقرآن وإليه ذهب بعض الأصوليّين الحنفية أمثال السبكي والشنقيطي.
4- السُّنّة قاضية على القرآن
روي عن الدّرامي في سُنَنه عن يحيى بن أبي كثير أنّه قال: «السُّنّة قاضيةٌ على القرآن وليس القرآن بقاضٍ على السُّنَّة». و قال الزّركشي في كتابه البحر المحيط مسألة حاجة الكتاب إلى السُّنَّة قال الأوزاعيّ: «الكتاب أحوجُ إلى السُّنَّة من السُّنَّة إلى الكتاب. قال أبو عمر: إنّها تقضي عليه، وتبّين المُراد منه».
إنَّ إشكاليّة تفضيلِ السُّنَّة على القرآن وفي الأحكامِ والتّشريعاتِ تُبيّن وبشكلٍ ما اختزالَ الإسلامِ وأحكامَه وأخلاقيّاتِهِ في منهجِ السُّنّة بالتّغاضي الجزئيّ أو الكُليّ للقرآن؛ مما يؤديّ إلى أنّ المرجعيّة المعرفيّة، أو التّشريعيّة لدى المسلم تحوّلت بشكلٍ ما من مركزيّتها بداخل القرآن ونصوصه إلى السُّنّة، فأصبحت بذلك حاجةُ القرآن للسُّنَّة ضروريَّةً لإكمال إسلام المرء بينما السُّنَّةُ لا تحتاج بشكلٍ كليّ أو جزئيّ للقرآن وفي ذلك هجرٌ للقرآن فكما قال ابن القيم عن ” وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا”: «إنَّ هجر القرآن أنواع، أحدُها: هجر سماعِهِ والإيمان به والإصغاء إليه. والثَّاني: هجرُ العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإنْ قرأه وآمن به. والثّالث: هجر تحكيمه والتّحاكُم إليه في أصول الدّين وفروعه، واعتقادِ أنّه لا يفيدُ اليقين، وأنّ أدلّته لفظيةٌ لا تحصل العلم. والرّابع: هجر تدبُّره وتفهّمه، ومعرفه ما أراد المُتكلم منه».[5]
(4) التّناقضات والإساءات:
بالاعتماد على ما ذُكِر سابقًا، فإنَّ صحيح البخاري هو كتابٌ يعجُّ بالتّناقضات لنفسه أولًا وللقرآن ثانيًا وللأمور المخالفة للمنهج السّليم أو لعصرنا الحاضر.
1-أوّل أيات التّنزيل: وللبخاريّ حديثان صحيحان في هذا الصّدد كلاهما يختلف في ذكره لأوّل الآيات التّي نزل بها الوحي على الرّسول، فأولُّهما عن أنّ أوّل آيات التّنزيل هي «اقرأ» والآخر عن أنّ أوّل آيات التّنزيل هي «يا أيّها المُدّثر» وكلا الحديثان صحيحان ودار حولهما خلافٌ كبيرٌ فرجّح ابن القيّم وابن تيمية في حديث «اقرأ» وقالَ النّوويّ في شرح صحيح مسلم عن حديث “المُدّثر” أنّه باطل.
2- أخر آيات التّنزيل: كمثل حظّ أوّل آيات التّنزيل فقد كان لآخر آيات التّنزيل أيضًا ثلاتة أحاديث صحيحةٌ أوّلها أنّ آخر الآيات هي «اليومُ أكملت عليكم دينكم وأتتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» والثّاني أنّ آخر الآيات هي «ومن يقتل مؤمنا متعمّدًا فجزاءه جهنّم» والثّالث أنّ آخر الآيات هي «يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة».
3-الإساءة للمرأة: عن أسامة عن النّبي قال: «قمت على باب الجنّة فكان عامّة من دخلها المساكين وأصحاب الجدّ محبوسون، غير أنّ أصحابَ النَّار قد أُمِرَ بهم إلى النّار، فإذا عامّة من دخلها النِّساء»، وعن عبد الله بن عمر، قال: «سمعت النّبي يقول: إنّما الشّؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدّار»، وحديث أسامة بن زيد عن النّبي قال: «ما تركت بعدي فتنةً أضرُّ على الرّجال من النّساء»
ففي الأحاديث السابقة تقليل واضحٌ من شأن النّساء، فهنّ غالبيّة أهل النّار، وثانيَا شؤم وفتنةٌ للرّجال وفي ذلك عدم اتّساقٍ مع تصرُّفات الرّسول مع نسائه ومع تعاليمه.
4-خرافات: عن أبي هريرة، أنّ الرّسول قال: «إذا وقع الذّباب في إناء أحدكم فليغمسه كلّه ثم ليطرحه، فإنّ في أحد جناحيه شفاءٌ وفي الآخرِ داء»، وروى البخاريّ في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «أنّ ناسًا كان بهم هزلٌ شديدٌ، اجتووا في المدينة فأمرهم النّبي أنْ يلحقوا براعيه _يعني الإبل_ فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا براعيه فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتّى صَلُحت أبدانُهم»
وفي كلا الحديثين تعارضٌ مع العلِمِ الحديث حيثُ أنّ بول الإبل وغمس الذّبابة في الطّعام هي من التّصرّفات المنافيةِ، والمُعارضةِ للصّحةِ السّليمة فهي عاداتٌ قبيليّة قديمة يكاد يستحيل توافُقُها مع نصّ العلِمِ أو الطّبِ الحديث.
5-التّبرك بنخامةِ الرّسول وجوازُ البصق في المسجد: روى أنّ عروة بن مسعود قال لقريش: «أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنّجاشي، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّدٍ محمّدًا، والله إن تنخّم نخامًة إلا وقعت في كفِ رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده».
وروي أنّ الصّحابة كانوا يزدحمون على ماءِ وضوءِ سيّدنا ونبيّنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام يتبرّكون به، وإذا تنخّم أو بصق يأخذون ذلك ويتمسّحون به، وازدحموا على الحلّاق عند حلقِ رأسه، واقتسموا شعره يتبرّكون به، وشرب عبد الله بن الزّبير دمه لما احتجمَ، وشربت أمّ أيمن بولَه، فقال لها: “صحّة يا أمّ أيمن”.
وحديث أبي هريرة، أنَّ رسول الله رأى نخامًة في جدار المسجد فتناول حصاه فحكّها فقال: «إذا تنخّم أحدكم فلا يتنخّمن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى».
بالإضافة إلى وجود العديد من الأحاديث الأُخرى التّي يظهر جليًا فيها التّعارضُ مع المنطقِ والتّصرُّفِ السّليم كحديث إرضاعِ الكبير، وأحاديث أخُرى تُسيءُ إلى الرسول كحديث نومه عند إمرأةٍ متزوجةٍ وحديث أمره، بالقتلِ والتّمثيلِ بجثث بعض الأشخاص.
إنَّ اعتمادنا المُطلقَ على تراث الأقدمين، والاتّباع المُطلق لكلّ ما كتبوه وكأنّهم وحدهم حاملو شعلة العلم الوضّاءة، يسري بنا إلى إلغاء إعمال عقلنا، وتقديم الموروثاتِ -فالخيرُ في اتّباع من سلف، والشّر في اتّباع من خلف- وفي ذلك الاعتماد على ينبوع القدامى في ريّ ظمئنا تاركين نهر الحاضر، غاضّيْن أبصارَنا عامدين مُعتمدِين أنّ التُّراث هو العلم والمعرفة المُطلقة، بينما جلّ ما في التّراث هو إجتهادات وأراء -ليست شخصيّة- إلى حدٍ كبير، وليست من المعرفة في شيءٍ، لذا فإنّ إدراجها في صفّ المعرفةِ أو العلم المُطلق خاطئ إجمالًا.
بالإضافة إلى أنّ هذا التّقديس المُطلقَ للتّراث يؤديّ تباعًا إلى ركودٍ في التّفكيرِ المُعاصر، وانسياقٍ تامٍ خلف رواياتٍ تاريخيَّةٍ ما قبل حداثيَّةٍ، فالرّفضُ التّامّ أو القطيعةُ المعرفيّة للتُّراثِ إجمالًا هو فعلٌ أهوج، لكنّ التّسليم المُطلقَ بكلّ ما جاء به هو لبُّ الحماقةِ بعينها. إنّ إعمال العقل هبةٌ تميّزَ بها البشرُ عن غيرهم « إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، لكنّ اتّباع النّقل يؤديّ بنا إلى مصافِ الكائناتِ غير العاقلة، فما بين النّقل والعقل، ما بين الاتّباع والابتداع، ما بين تبنيّ تراث الأقدمين جملةً وتفصيلًا أو محاولةِ تفكيكِهِ وتحليلهِ بحسٍّ نقديّ كي تسمو بذلك ثقافتنا العربيّة، وينهضَ العقلُ العربيّ من سباتِهِ الذّي دام نحو أكثر من ألف عام.
فالنّهضة العربيّة لا تتحقّق إلّا بالعودةِ إلى الأصولِ، والوقوف على كيفيّة تشكُّلِها والتّمييزِ بين المعقولِ واللّامعقولِ منها بهدف بناء الذّات العربيَّةِ وتطويرها بالشّكلِ الذّي يسمح لها بالوجود على ساحة الفِكْرِ الإنسانيّ المُعاصِرِ، فالتُّراث يمثِّلُ عنصرًا أساسيًّا في عمليّةِ تكوين وتشكيلِ العقلِ العربيّ الإسلاميّ معرفيًا وسُلوكيًا. فالإنسانُ العربيّ مُؤطّرٌ بتراثه، أيْ أنّ التُّراث يعتريه ما يعتريه ممّا يفقدهُ إستقلاليّته وحريّته، فهو يتلقّى تراثه منذ ميلاده ككلماتٍ ومفاهيمَ، كلغةٍ وتفكيرٍ، كحكايات وخرافاتٍ وخيالٍ، كطريقةٍ في التّعامل مع الأشياء، كأسلوبٍ في التّفكير، كمعارف وحقائق.[10] لذا فمن الضّرورةِ العودة إلى التّراث ولكن ليس بغرضِ تقديسهِ جُملةً وتفصيلًا ولكن لنقدهِ وإختبار مصداقيَّته كي نصبو إلى مصيرنا ومصير ثقافتِنا المرجوّةِ.
المراجع [1]. ما وراء تأسيس الأصول –د.علي مبروك. [2]. سير أعلام النبلاء – شمس الدين الذهبي. [3]. تاريخ بغداد – الخطيب البغدادي. [4]. أصول السنة –للإمام أحمد بن حنبل. [5]. صحيح البخاري نهاية أسطورة –رشيد إيلال. [6]. أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم المكتوبة منذ صدر الاسلام حتى 500 هـ -كوركيس عواد. [7]. أضواء على السنة المحمدية – محمود ابو رية. [8]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري – لابي حجر العسقلاني. [9]. جناية البخاري: إنقاذ الدين من إمام المحدثين – زكريا أوزون. [10]. العقل العلمي العربي - خالد قطب.