مسلسل “خلي بالك من زيزي” والدعم الغائب في الطفولة
تُفاجأ زيزي أنه لم يعد هناك أحدٌ قادرٌ تحمّل إزعاجها؛ فزيزي (أمينة خليل) ذات التلاثين عامًا لم تتعلم طيلة عمرها كيف تعبّر عن كافّة مشاعرها سوى بالغضب والصوت العالي؛ فهي التي تثير الفوضى من حولها حتى لو كانت تشتري أبسط احتياجاتها .
يبدأ مسلسل خلي بالك من زيزي عندما تتلقّى خبر فشل العملية الرابعة للحقن المجهريّ لتخبر زوجها هشام (علي قاسم) أنها لابد أن تحاول ثانيةً إجراء العملية للمرة الخامسة ليكشف لها هشام أنّه فقد أساسًا رغبته في الاستمرار معها؛ حيث أصبحت قدرته على الصمود أمام ثواراتها وانفعالاتها مستحيلة.
زيزي لديها اضطراب ADHD (اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه) منذ الطفولة، وهو من الأمراض العصبيّة السلوكيّة المنتشرة في فترة الطفولة، وتستمرّ أعراضه عند البالغين في شكل تشتّتٍ وقلّة تركيزٍ واندفاعية، ويأتي ذلك الاضطراب نتيجةً لوجود خللٍ في مستوى الناقلات العصبيّة (الدوبامين والنورأدرينالين) التي تسهّل التواصل بين أطراف الدماغ وأيضًا عوامل أخرى منها وراثية.
وتكون أعراضه ملحوظةً عند الاطفال بشكل كبيرٍ نتيجةً لوجود صعوباتٍ في التعلّم والإنجاز واتّباع المعلومات ولكنّ البعض يعتبره لعبًا زائدًا عن الحد وفرط حركة؛ مما يضعف ثقة الطفل بنفسه مع الوقت لضعف مستواه الدراسي وكثرة نسيانه وأيضا علاقاته المضطربة مع اصدقائه.
كما ان البعض يعتبر ذلك نقصًا في مستوى الذكاء لدي الطفل ويتشككون في مستوى أطفالهم وقداراتهم العقلية كما يحدث مع “عطيات” أو “تيتو” التي تؤدي دورها الطفلة ذات الأداء التلقائي ريم عبد القادر.
تكمن أهمية العمل الذي هو من إخراج كريم الشناوي وإنتاج ورشة كتابة لمريم نعوم ومنى الشيمي بتقديم فكرة المريض بالاضطراب من خلال الدائرة القريبة المحيطة بالمريض وتأثيرها المباشر على محنته من خلال عملٍ دراميٍّ كوميديٍّ، وهذا ليس العمل الأول لمريم نعوم في ذلك الإطار؛ فقد قدّمت مؤخرًا عملًا دراميًّا يتناول مرض الشيزوفيرنيا من خلال المسلسل الدرامي (أنصاف مجانين) المقتبس عن رواية للكاتبة السعودية شيماء الشريف من خلال شخصية “أنس” المريض بالشيزوفرينا، والتأثير المباشر لذلك المرض على علاقته بوالده والاخرين.
يسود الحلقات الاولى من خلي بالك من زيزي جوٌّ من التوتّر والصخب الزائد وأيضًا إطالة المشاهد بشكلٍ كبير؛ مما يخلق عدم التعاطف مع سلوكيات زيزي التي تعمل على استفزاز الآخرين؛ حيث يخرج منها كل شيءٍ بشكلٍ جارحٍ وعلى نحوٍ غير متوقع، ولكن مع تفهّم طبيعة الاضطراب التي تعاني منه تجد أن تلك البعثرة من حولها لأنها فاقدة للدعم والاحتواء منذ الصغر.
حتى زوجها الخلوق الذي لا يعلو صوته قد استنزفت كل قدرته على المساعدة؛ فعندما تشتعل الأزمة بينهما في الحلقة الاولى يجد نفسه مُهانًا أمام الطلاب في الجامعة بعد اكتشافه أن أحد الطلّاب قام بتصويره هو وزوجته أثناء المشادّة التي لم تتمالك زيزي نفسها فيها فتقوم بضربه وتكسير سيارته؛ فكيف اذن سيواجه طلابه ونفسه؟
ولكن هشام الأستاذ الجامعيّ الجادّ أيضا ضعيف الشخصيّة يقنعه أخوه الأكبر وياسمين (جلا هشام) زميلته في العمل أنه عليه أن يلجأ للقضاء لردّ اعتباره؛ فياسمين تجده حبيبًا مستقبليًّا سهل التلاعب به والتحكّم في مساره المهني وظروفه الحياتية؛ لذلك تشجّعه على أن يستمرّ في قضيّته تجاه زيزي وتدفعه للدفاع عن نفسه من أذاها حتى لو تطلّب الأمر بعض الكذب.
ومن هنا تخرج زيزي من العالم الذي توهّمت أنه سيتقبّل انفعالاتها في أيّ وقت؛ حيث أنّه من الغير منطقي أن يتعامل معها الآخرون في وجود الألم والتوتّر اللذان تدفعهم إليهما باستمرار.
لتوضع لاحقًا في حياةٍ جديدةٍ عليها فيها أن تتعلّم ضبط النفس وتقاوم ألمها النفسيّ في حين تواجه فشلًا وعدم استقرارًا وضياعًا لحلم الامومة التي تأكدت أنّه لا يمكن تحقيقه كذلك العلاقة المتوترة مع والديها؛ كما لكونها تفتقر أبسط المهارات الاجتماعية والمعاملة المتّزنة لذلك فليس لديها اصدقاء.
ولا يقدّم الدعم لزيزي سوى ابنة خالتها نيللي (نهى عابدين) التي يعتريها الخوف والقلق الدائم ولكنها مع ذلك تقدّم صحبة هادئة لزيزي خاصةً أنها ذات طبيعة هادئة متفهّمة وكما أنها اعتادت أن تلك هي زيزي منذ الصغر.
نيللي يسجنها خوفها في ملاحقة مستمرّة لجروب (اعترافات زوجة) على الفيسبوك لتتمكّن من نسج خيالٍ أكبر لمخاوفها، ولكنها مع ذلك عرضت مشكلة زيزي هناك لتجد محاميًا مشهورًا بذلك النوع من القضايا وهو مراد ( محمد ممدوح)
يظهر مراد بشكل الرجل الكلاسيكيّ المظهر الواعي جيدًا والمتزّن الذي لايقبل الفشل؛ فيقترح عليها مراد الذهاب إلى طبيبٍ نفسيٍّ لأنه يعرف ارتباط قضايا الأحوال الشخصية بالمشكلات الاجتماعية والنفسية، كما أنه لا يستطيع أن يواجه قضيةً خاسرة؛ فمن المؤكّد أنّ القاضي سيضعها في السجن بمجرد أن يراها، كما يضع لها خطةً للتغيير في الجانب النفسي مثل ممارسة الفنون القتالية والتقديم في ورشة تمثيل إيمانًا بأنّها ستحدث فارقًا.
الدعم المفقود من الأهل
يقول الدكتور عادل صادق في كتابه (في بيتنا مريض نفسي) أنه بقدر ماتتأثر الأسرة بالمرض النفسي أوالمرض العقلي فإنها أيضًا تؤثّر في مسار المرض ونتائج العلاج ،بل قد تكون كذلك من أسباب المرض أو على الاقلّ من العوامل التي فجّرت ظهور المرض.
تواجه زيزي خوفًا كبيرًا من غرفة الغسيل وهي مجازًا تحمل فكرة العقاب وهو الطريقة الأكثر انتشارًا التي يتعامل بها الأهل نتيجة عدم الفهم لطبيعة الاضطراب؛ وهي اللجوء لمعاقبة الطفل على مايعانيه.
وذلك بالتحديد ماتواجهه زيزي؛ فمنذ البداية ندرك أن الام بعيدة عن التعاطف مع ابنتها في ألمها النفسي لكونها حازمةً لدرجة القسوة ونادرًا ماتراها تحتضن زيزي.
يقدّم مسلسل “خلي بالك من زيزي” كذلك نماذج أخرى للأم مثل الأم هدى (أسماء جلال) التي تواجه مشكلة نفسية حقيقية مع ابنتها ولا تدرك كيف تتعامل معها مع وجود أراء مختلفة حولها، وهو الخط الذي ينسجم مع الخط الرئيسي للعمل في مضمونٍ واضح.
كذلك نموذج الأم التي غرست الخوف في طفلتها نتيجة تعرضها للاكتئاب؛ فهناك قصصٌ فرعيةٌ مرسومةٌ باتقانٍ وبساطةٍ يظهر فيها نموذج للزوج الغائب أو الغير متفاهم ذو النقد اللاذع أوالمتأثّر بأهله مما يفقد الأزواج القدرة على الاتفاق على أسلوب وشكل لمعاملة الطفل.
فالعمل يقدّم تنوعًا في مناقشة مشكلات أسرية من منظورٍ نفسيٍّ تسير بالتوازي مع مشكلة زيزي الرئيسية؛ فخلي بالك من زيزي على الرغم مما يبدو أنه يتركّز على ADHD إلا أنه يتطرق لمشكلات الطفولة من الناحية النفسية وماذا يحدث اذا تم تجاهلها سواء بالعقاب أو بالتغافل .
ولا يرّكز مسلسل “خلي بالك من زيزي” على الطبيب النفسي كحلٍّ وحيد؛ بل أن الطبيب سامي (صبري فواز) يري أن الأدوية والعلاج النفسي غير كافي لإصلاح المريض وتعافيه فعقدّته وكان يلوم نفسه ان ابنه كان يحتاجه كأبٍ اكثر من كونه طبيب.
عندما تتفهّم زيزي طبيعة مرضها تتعلّم كيف تستجيب للأحداث في حياتها بشكلٍ إيجابيٍّ بعيدًا عن الصدامية؛ فتواجه أهلها للتخلّص من ذكرى الماضي.
كما أن الجميع يجد أنه من المقبول والمهمّ جدًا حل مشكلاتهم النفسية وذلك لدعم أنفسهم والاخرين، لأنه بمجرد التفهّم والتعاطف تُفكَّك كل عقد الطفولة والمخاوف الخاصة، وقد تبدو تلك نظرة مبتغاه وهي أن ندعم الاخرين وأنفسنا بشكلٍ أساسيٍّ وليس هامشي؛ لذلك فالكل هنا مسالمٌ يدرك نفسه ويتقبّل أخطاءه ويتراجع عنها بمجرّد معرفتها.
أمّا مراد فيجد نفسه على الرغم من نجاحه وثقافته والقيم التي ورثها من والدته ذات الأفكارالمختلفة والتي حركت فيه رغبته في احتواء النساء وحمايتهن؛ إلا انه يحتاج إلى مراجعة نفسه في تعاملاته.
كما أن العمل يهتمّ بعدة مشاكل اجتماعية مثل التنمّر بسبب الطبقية الاجتماعية أو الاسم أو المظهر العام؛ فزيزي وتيتو لديهم أسماء زينب وعطيات وهو ما يجلب لهما السخرية، كما أن تيتو تعيش طفولة زيزي لذلك يقترح سامي أن زيزي ستكون الافضل لمساعدة تيتو دراسيًّا.
وبالفعل تنشأ بينهما علاقةٌ قويّةٌ محببّةٌ تعوّض فيها زيزي إحساس الأمومة وتعالج نفسها من خلال تيتو، كما أنها تعلّم تيتو وتعزّز سلوكها الإيجابي والمرغوب من خلال اللعب وممارسة نشاط حركي أثناء المذاكرة والأغاني التي تناسب مزاجهما الصاخب مثل أغاني شارموفرز الغير تقليدية.
تخلّت أمينة خليل عن استخدام المكياج وظهرت بشكلٍ عفويٍّ، والأداء التمثيلي في العمل صادقٌ وعفوي، وقُدِّمت فيه نماذج حقيقية بكل ماتعيشه من مواقف وأحداث متأثّرة بالطفولة والعائلة.
ولكنّ هناك إغراقًا في استخدام الإرشادات النفسية وتوكيدًا مستمرًّا بغرض تصحيح المفاهيم الخاطئة للمرض واختزالًا لالمرض النفسي في ارتباطه بالطفولة فقط حتى لو كان بغرض أنّ الاخرين وبالأخص الوالدين قد يساعدون على تفاقم المشكلة إذا كانوا هم يعانون أيضًا، ولكن ذلك كان مؤثّرًا على إيقاع الحلقات الاخيرة.
ولكن يبقى مسلسل “خلي بالك من زيزي” بعيدًا عن التدنّي ويخلق تجربةً هامّةً لإدراك مشاعر الطفولة.