ماهية الإنسان – أن تسأل ما أنا وليس من أنا
بدأ الانسان رحلة المعرفة بسؤال، فكان يلاحظ ويشاهد الموجودات والظواهر الطبيعية من حوله، ثم يسأل عن ماهية ما يلاحظه وعلّة وجُوده وكيفية حدوثه، فكان في البدء يجد تفسيرات محضة نتيجة تأمله في الموجودات فوضع القصص والأساطير، ومع تقدّم الزمن بدأ في التفكير العقلاني فكانت الفلسفة، حتى مارس العلم وطبق المنهج العلمي في اكتشاف ما حوله فكشف غطاء الغموض عن السماء والأرض، النجوم والجبال، فعرف الأشياء وطبيعتها وسبب وجودها وكيفية عملها، ولازال يسأل مستمرًا في اكتشاف المزيد.
سؤال الماهية
صياغة كلمة “ماهية” تأتي من سؤال “ما هو؟”، يجاب على السؤال بطبيعة الشيء وجوهره، وما يجعله موجودًا ومكوناته المادية.
قد يختلف هذا التعريف مع بعض ما قاله الفلاسفة، إذ أننا هنا لسنا بصدد تعريف “الماهية” وإنما “سؤال الماهية” حسب ما قاله ارسطو أو فلاسفة اللاهوت في العصور الوسطى أو وجودية سارتر.
من أنت أم ما أنت؟
عند سؤالي لك “من انت؟” فأنا هنا أسأل عما يجعلك أنت، إنسانًا ووعيًا يفكّر ويتفاعل، أي أنني أسأل عن الهوية التي تميزك، فتجيب أنّ اسمك فلان، ما تحبّ وما تكره، جنسيتك، هواياتك، أحلامك، وأفكارك، وهكذا، لكن بماذا يا ترى سوف تجيبني عند سؤالي لك “ما أنت؟” مع العلم – كما السؤال السابق – أنني هنا لا أسأل عما يجعلك أنت، لكن عن ماهيتك المادية؛ ليس عن المعنويات التي تمثّلك، طبيعيّ أنك جسد موجود ويشغل حيّزًا من فراغ الكون. إذن هل أنت مجرد جسد؟ و”أنت” هنا مقصود بها وعيك الكامل، الإجابة نعم وهذا منطقي تمامًا، لكن لنسأل فرضًا لو قمنا باستبدال أجزاء من جسدك بأجزاء أخرى صناعية تعمل بنفس الكفاءة، مع استمرار عملية الاستبدال، عضو تلو الآخر، فعند أيّ حد لن يكون أنت “أنت”؟!
قد يكون سؤال غير منطقي، لكن دعنا نحاول الإجابة عليه من خلال رحلة نخوضها معًا في جسدك المدهش، ونحاول أن نتعرف على طبيعته المعقدة.
مما نتكون؟
وجودنا الفيزيائي يتحدّد بعدد كبير جدًا من الخلايا المرصوصة والموضوعة بشكلٍ مرتب ومنظم، معروف أنّ أجسامنا تتكون بشكل أساسي منها، وأعداد هذه الخلايا يفوق عشرات الملايين، حيث عدد الخلايا في جسم إنسان بالغ يصل إلى 100 ترليون خلية تقريبًا، أي ما يعادل عشرة أضعاف عدد النجوم في مجرة درب التبانة.
وتعتبر الخلية كائنًا حيًّا حجمه صغير جدًا، تتكون من أجزاء أخرى أصغر حجمًا، لها وظائف حيوية مختلفة ومتعددة، تحوي حوالي 50.000 نوع من البروتينات، الخلية منفردة هي مجرد جسم ليس له وعي أو إرادة أو هدف خلال فترة حياته، لكنّ المجموعات الكبيرة منها يمكن لها أن تشكل أعضاء حيوية لها وظائفها المتخصصة داخل جسدك، وحسب ترتيبها تتحدد وظيفتها؛ فهي تنقل السوائل، تهضم الطعام، وتتخلص من المخلفات وغيرها من الوظائف الحيوية.
لو قمنا بأخذ مجموعة خلايا من جسدك ووضعناها في بيئة مناسبة، سوف تعيش لفترة قصيرة، هنا نصل لنتيجة مهمة وهي من الممكن أن تتواجد خلاياك بدونك لكن لا تستطيع أن تتواجد أنت بدونها. ففرضًا، لو اختفت كلّ خلايا جسدك فلن يكون هناك “أنت” بعد الآن.
بناءً على ما سبق دعنا نطرح تساؤلًا، لو قمت بالتبرع بعضوٍ من جسمك ليتم زراعته في جسم شخصٍ آخر فهذا يعني أنّ الملايين من خلاياك سوف تستمر في العيش وممارسة عملياتها الحيوية بشكل طبيعي في جسمٍ آخر.
هل هذا يعني أنّ مجرد جزء منك أصبح جزءًا من شخصٍ آخر؟ أم أن هذا الجزء يظل انت لكن موجود بداخل الجسم الآخر ويظل على قيد الحياة؟
لكي نجيب عن تساؤل كهذا دعنا نوضح حقيقة معينة، نحن هنا نفرض أنّ خلاياك تعبّر عنك بشكل مستمر ودائم، ولكن هذا تقريبًا غير صحيح، ذلك لأن الخلايا المكونة لجسمك في الوقت الحالي ليست هي نفسها التي كانت تكوّنه يوم ميلادك، فبشكلٍ مستمر وثابت نسبيًا يموت من واحد لثلاث ملايين خلية في جسمك كلّ ثانية ليتم استبدالها بخلايا جديدة، حتى أنّ خلايا جلدك تموت وتُستبدَل بمرور الوقت، حيث أثبتت دراسة أن – أسبوعيًا- يتخلّص جسمك من 5 جرامات تقريباً من الجلد الميت، أي حوالي 35 كيلوجرام خلال فترة حياة كاملة، حوالي 80% من الغبار الذي يظهر في أشعة الشمس عبارة عن جلد بشري ميت.
خلال مدة 7 سنوات تقريبًا يكون قد تم استبدال جميع خلايا جسمك مرة واحدة على الأقل، إذا عشتَ لسن الثمانين فستكون قد استبدلت تقريبًا مليون مليار خلية. إذَن فالإجابة هي أن الجزء الذي تبرعت به أصبح مجرد جزء من شخص آخر ليس إلا.
الخلية لا تتخذ قرار الموت من تلقاء نفسها، كما ذكرنا، فهي كائن حي لكنّه ليس له هدف أو إرادة. نظرية (موت الخلية المبرمج – Programmed cell death) تشرح لنا سبب موت الخلية والآلية التي تتبعها في هذه العملية: أحد أسباب موت الخلية هو أنها مبرمجة على ذلك في جيناتك، ويتمثل ذلك في عملية انقسام الخلية، حيث لكلّ خلية عدد محدّد من الانقسامات حسب كود في جيناتك، فإنه كلما ازدادت انقسامات الخلية نقص حجم منطقة “التيلوميرات” المسئولة عن إمكانية انقسام الخلية، فنتيجة انفصال جزء من تلك المنطقة في كل مرة تنقسم فيها الخلية ينقص حجمها للحد الذي تكون عنده الخلية غير قادرة على الانقسام أكثر من ذلك فتموت.
الآن، وقد عرفت أنّ خلاياك تُستبدَل بشكل مستمر بمرور الوقت لأنها تموت طبقًا لجيناتك، كيف يمكن أن تكون خلية واحدة منك “أنت” إذا كانت لا تعيش لمدة أطول مثلما تفعل أنت؟
ربما هو الحمض النووي
من المعروف أن خلية واحدة منك تحتوي على الحمض النووي الخاص بك (DNA) والذي يحوي بدوره على معلومات عن كلّ شيء عنك وعن جسمك من صفات مثل الطول ولون العين وهكذا، إذن حمضك النووي هو “أنت”! أليس كذلك؟
دعنا نتعرف أكثر على الحمض النووي DNA:
الحمض النووي هو مخطط جزيئي للكائن الحي أو يمكن القول أنه وصفة كاملة بكل صفاتك التي تميزك دون غيرك، مكوّن بشكل أساسي من أربعة أنواع مختلفة من المواد الكيميائية يرمز إليها بالحروف (T – C – G – A) اختصارًا لأسمائها، تركيبه عبارة عن شريط طويل جدًا موجود داخل نواة الخلية، وهو بمثابة العقل المدبر لها الذي يتخذ القرار بتنفيذ الوظيفة الحيوية المناسبة عن طريق آلية معينة وهي نسخ أجزاء منه تسمى (RNA)، وهو جانب واحد من الشريط بتسلسل كودي محدد والذي يحوّله جسيم “الرايبوسوم” إلى بروتين والذي يقوم بدوره بتنفيذ عملية حيوية مهمة مثل انقسام الخلية أو نقل السوائل وغيرها.
فيما يتعلّق بأنّ حمضك النووي يعبّر عنك بشكل دائم، ظلّ المجتمع العلمي مؤكدًا على هذه الفرضية وأن جميع خلاياك تحوي نفس الحمض النووي بشكل ثابت طوال فترة حياتك، لكن اتضح أنّ ذلك غير صحيح، حيث أنّ حمضك النووي يتغير بشكل مستمر بمرور الوقت بفعل الطفرات والتغيرات البيئية المحيطة والإشعاعات، كما أنّ ذلك يحدث في عقلك أيضًا.. أي في خلاياك العصبية.
طبقًا لدراسة حديثة تمّت في 2017، أجرت مجموعة من الباحثين اختبارًا على أحماض نووية لعدد من الخلايا العصبية الخاصة بأدمغة 15 فرد، ما بين عمر 4 سنوات إلى 82 سنة والمحفوظة كعينات في بنك حفظ الأدمغة الخاص بالمعهد الوطني للصحة العقلية، وتوصل الباحثون إلى دلائل على حدوث الطفرات والتغيرات في الحمض النووي بشكل مستمر خلال تقدمنا في العمر؛ فإن خلية عصبية واحدة لإنسانٍ بالغ تحتوي تقريبًا على ألف تغيّر في الكود الجيني الخاص بها، كما أنّ كل خلية عصبية واحدة تملك تغيّرات مختلفة عن زميلاتها المحيطات بها.
يقودنا ذلك إلى تساؤل آخر، إذا كان حمضك النووي يتغير باستمرار بتقدّمك في العمر، سواء في خلاياك الجسدية أو العصبية، أيبقى شيء بين تلك التغيرات يعبّر عنك؟ بصيغة أخرى، بالنسبة المئوية، كم تمثّل “أنت” من حمضك النووي؟
حسب دراسة علمية في جامعة تكساس في 2010، حوالي 8% من الأحماض النووية الخاصة بالثدييات ومنها الإنسان عبارة عن جينات فيروسات أصابت أجدادنا من آلاف السنين واندمجت معنا حتى أصبحت جزءًا منّا، فمثلاً “الميتوكوندريا” وهي جسيم موجود داخل الخلية ومسئول عن إنتاج مركّب ” أدينوسين ثلاثي الفوسفات ” والذي يعتبر مصدر طاقة للخلية، كانت في الأصل فيروس واندمجت مع أسلاف خلاياك ثم أصبح حمضها النووي جزءًا منك، وهناك من الأجسام الموجودة في الخلية الحيوانية ما هو غير بشريّ الأصل لكنها اندمجت مع أجداد خلايانا وبمرور مئات القرون من الزمن أصبحت نوعًا ما جزءًا منّا.
لكن بين كلّ تلك الاجسام غير البشرية أصلًا ومنها الفيروسات التي اندمجت معنا، أين أنت؟ ما الذي يمثلك؟
فلننظر للأمر من منظور مختلف، بشكل أساسي أنت مكوَّن من أعداد هائلة جدًا من الأجسام الصغيرة المعقدة التي تتكون بدورها من مركبات كيميائية أصغر وأكثر تعقيدًا، كلّ تلك الأجسام غير حية لكنها عندما تتجمّع بشكل معين تكون ديناميكية نوعًا ما، تركيباتها وحالاتها تتغير باستمرار، ملايين المليارات منها متجمعة مع بعضها في أشكال وأنماط تجعل منها مملكة حيوية متكاملة، نظام حيّ متمثل في جسد يمارس عمليات حيوية مثل الغذاء والنوم، تلك الأنماط المعقدة جدًا تطورت كفاية لتكون واعية بنفسها وبالعالم من حولها، وبالتالي ذلك الوعي بدأ يتخذ طرقًا أكثر تعقيدًا؛ حيث أنه في مرحلة ما بدأ يَعِي العالم والموجودات من حوله، يطرح أسئلة ويأخذ قرارات، يتعلم ويخترع، يتقدم ويبني حضارات ويتكاثر ويبتكر أدوية، في سبيل الحفاظ على وجوده وضمان استمراره.
هل توهمك تلك الأنماط الديناميكية المعقدة بالغرائر التي تضمن استمرارك، مثل الغذاء، لكي تعيش هي وتستمر أم أنّ كل ذلك بإرادتك أنت؟ هل تستطيع الحسم؟ أتعرف متى بدأت تلك الأنماط في التواجد؟ هل من لحظة ميلادك؟ أم من لحظة تواجد أول إنسان على الأرض؟ أم من لحظة ظهور أول أشكال الحياة على الكوكب؟
ما زالت هناك حدود كثيرة غامضة جدًا بيننا وبين فهم الواقع والعالم المادي الذي نعيش فيه، حتى لو اقتصر الأمر على سؤال مثل “ما أنا؟”. نملك أفكارًا كثيرة ليست لها مقاييس كونية متواجدة في مكان ما في الكون، أفكار مثل البداية والنهاية، الحياة والموت، الخير والشر، أنا وأنت، كلها معانٍ نحن من أنتجها، أو تلك الأنماط الحيوية المعقدة الواعية بنفسها التي تشكّلنا، فما نحن إلا جزء واعٍ منتمٍ لكون عظيم وجميل لا يسعنا إلا أن نتأمّله ونحاول أن نفهمه بأدواتنا البسيطة.