ما وجدنا عليه آباءنا
بينما كان عمرو المصري -الشاب الأُمي العاطل ذو الربع قرن- يقرض أنامله جوعًا، ويدلّك بطنه عساه يحيل بين التهام أحشاءه لنسيجها، تذكّر الكنز الذي كان جده قد تركه له في الخزانة، فأنعشته رائحة الأمل.
قاوم إعياء الجوع وطفق يذرع الغرفة -وهي غرفة سطوح مهترئة كان يسكنها- ذهابًا وإيابًا، معتصرًا ذهنه ليتذكر أين حفِظ محتويات الخزانة القديمة، لم يكن الأمر ليأخذ وقتًا، فغرفته ليس بها إلا سريرٌ ودولاب ملابس متهالك، ولمّا أخرجوه من بيت أبيه عنوةً لم يكن في حاجياته سوى بعض الملابس وصندوقٌ خشبي قديم كأنه منذ الأزل.
ابتسم عمرو في رضا، إذ أعانته ذاكرته بسرعة، لم يعكّر ذهنه آنذاك سوى أنه تذكّر حادثة الطرد المنكوبة، والتي في الواقع لم تكن طردًا غير مشروعًا، إذ كان صاحب البيت يرغب في استرجاع أملاكه، ولم يكن الأخير ليعلم أن أبا عمرو كان قد زيّن لصغيره الأمر، وجرّعه الوهم حتى شبّ الصغير وفي قلبه اعتقاد أنه قد ورِثُ الأرض عن أبيه، وواقع الأمر أن البيت كان إيجارًا من الطراز الكلاسيكي أو ما نسميه نحن “الإيجار القديم”.
نفض عمرو عن رأسه كل ذلك، وهدأ من وطأة الحنق الدفين الذي حمله لصاحب البيت، ثم أقعى يفتش تحت سريره عن الصندوق الخشبي حتى وجده، فالتقطه كمن يلتقط طرف آخر خيطٍ له في الحياة.
مضى يرنو إلى الصندوق في ارتياح، تذكر أن جده كان قد أخبره أنه ما إن يُدرك ما في الصندوق، حتى يصبح أحكم الخلق وأغناهم، فلا يضيره بشرٌ ولا يذلّه مخلوق. فتح الصندوق فألفى به مئات من العملات المعدنية، أخذ يقلب يده بينها، يحملها ثم يشاهدها تنسال من بين أصابعه في فرح، حسبه كنزًا حقيقيًا، كنزًا فعّالًا من العملات الأثرية، وتبدد في قلبه ذلك الخوف من أن يكون جده قد خدعه وأنه لن يجد في الصندوق سوى بضع حكم هزلية.
لمّا طفق يحدق في العملات، ألفى الواحدة تختلف في نقوشها عن الأخرى، فواحدةٌ تحمل نقشًا لملكةٍ ظنّها من آل فرعون، وأخرى تحمل رسومًا لأناس عممّوا رؤوسهم كالشيوخ، وثالثةٌ وُشم عليها وجه رجل بأنف مفلطحة، ومئات من الرسومات والأشكال التي لم يفهم منها شيئًا، ولم يزعجه ذلك بل إنه لم يشغل له بالًا، إذ كان مُنخرطًا في تخيّل المستقبل المشرق الذي ينتظره، والذي انبثق من ماضيه.
مضى يحدق في المرآة الملطخة المُثبتة في الدولاب، نظر إلى ذقنه الشعثاء المتدلية، وإلى جسده الضارع الهزيل: ها أنت ذا يا مصري، قد جار عليك الزمن حتى حوّلك إلى دودة أرض حقيرة، ونخر فيكَ الجوع حتى انسلخت إلى بطنٍ خاوية، وما علم البشر أن أجدادك قد تركوا لك من الكنوز ما يرفعك فوق عروش الكون!
اجتاحه حبورٌ إذ ظنّ أن التنقل بين الحِرف المختلفة لن يكون مصدر كسب رزقه بعد اليوم، وحسِب أنه من الأوفق ألّا يشير أحدًا من أصدقائه في الأمر، تفحّص جيوب بنطاله فلم يجد فيها سوى جُنيهات معدودة، ولم يزعجه ذلك بل إنه لم يشغل له بالًا، أخذ ينهل من عملات الصندوق ويكدّس جيوبه، ثم انطلق إلى متجرٍ قريب ليبتاع موس حلاقة، فما يليق بأرستقراطي مثله أن يملك لحية عفنةً كتلك التي تلُفّ ذقنه.
بينما كان يسير إلى المتجر، كان منظره يبعث على الضحك: رجلٌ ذو لحيةٍ تغُص بعوالق الطعام، يرتدي أسمالًا باليةً أكسبتها بقع الشحم ألوانًا شتى، يمشي مُتبخترًا مُصعرًّا خده للناس، وكأنه ملكٌ فرعوني، بل وكأنه إله موتٍ مصري، تتصارع العملات المعدنية في جيوبه فتحدث “شخللةُ” مُضحكة، يسب هذا، ويلطم هذا، ويشير برأيه فيما لا دخل فيه ولا يفهمه، كان يسير كنعامة تحسب نفسها طاووس، ولكنها في الآن ذاته نسيت أن تُزيل عوالق التراب عن رأسها إذ ظلّت تدفنها عُمرًا بأكمله، كان كل ذلك يبعث على الضحك، الضحك والأسى معًا.
عندما دخل إلى المتجر، تبضّع ما تبضّع، ثُم أخرج من جيبه عُملاته التاريخية، لكن البائع هزأ منه، وهمّ أن يطرده إلّا أن عمرو أخبره أنه يملك جُنيهاتٍ في جيبه، لكنه آثر أن يختبر فهم البائع، وأن البائع قد خيّب ظنه، ففي هذه العملات ما كان يُمكن أن يجعله أحكم البشر وأغناهم، هكذا قال له جده. لم يبالِ البائع بكل هذا، وحبّذ أن يترك المجنون يهذر مع نفسه، ثم مضى يعيد الحاجيات إلى أماكنها.
كان عمرو لا يزال في المتجر، تفحّص الجُنيهات المعدودة التي يملكها في جيبه، وداهمته الحيرة إذ تبيّن أنها لا تكفي سوى لشراء بعض الجبن أو موس حلاقة، وجوفه لم يذق شيئًا منذ البارحة، ولكن لا يهم، البطن قد اعتادت الجوع لكن لا مناص للمظهر الأرستقراطي من أن يكتمل، أشار للبائع ثم قال بغطرسةٍ كمن يسأل عن شيءٍ يعرفه:
“بكم موس الحلاقة؟”
“ثلاثة جُنيهات.”
رد البائع على مضض، استطرد عمرو في نفس الغطرسة:
“أعطني واحدًا إذًا”
رمق البائع الجنيهات التي أظهرها عمرو، غمغم: بدوٌ همج!
رد عمرو في استعلاء: وما حاجتنا نحن بالحضر؟ أنتم معدومين تمامًا! لا تملكون شيئًا حتى! هيّا ناولني موس الحلاقة فأنا لا أكاد أجده عند أحدٍ سواك!”.
بعدما حلق عمرو ذقنه في غرفته، احتدت غطرسته أكثر إذ رمق وجهه الجديد في المرآة، آنذاك أصدرت بطنه صريرًا مخفوتًا، وكأنها تلعنه وتلعن وجهه على حدٍ السواء.
اشتد الجوع به، فقصد متجرًا آخر كان يعرفه، لكنه في حيٍ أرستقراطي هذه المرة، حيث توّهم أنه ينتمي، فبالتأكيد سيُقدر الأرسقراطيين بعضهم، وسيقبلون العُملة التاريخية التي يقصر عن فهمها أمثال صاحب أمواس الحلاقة من الرعاع!
بينما كان يسير في الحي الأرستقراطي، مضى يرمق البنايات المُشيدة، والثياب الراقية، أحس في قلبه حقدًا، فهو بالتأكيد يستحق عيشةً كريمة، يستحقها أكثر من هؤلاء الأغنياء الذين لا يملكون تاريخًا أو هُويّة! هم يملكون أموالًا طائلة، لكنهم لا يملكون عملاته التاريخية، وكان من الحمق أن يظن أن باستطاعته أن يشتري هذا بذاك، لكنه آمن قطعيًّا بذلك.
دلف المتجر الراقي، مضى يرمق ثلاجةً كانت تغُص بمُختلف أنواع النبيذ يراوده عن نفسه، ثم أرغمت بطنه بصره على أن يُصوَّب ناحية الخبز، تبضع ما تبضع، ثم أخرج من جيبه عُملاته التاريخية، هابه البائع هيبةً تركت في نفس المصري اعتدادًا بنفسه، إذ لم يدرك أن البائع لم يكن ليهابه كما يهاب العبيد الملوك، بل كما يهاب العقلاء المجانين.
“سيدي هذه عُملات قيّمةٌ بلا شك، لكننا نتعامل هنا بالجُنيهات.”
تبددت ابتسامة عمرو، قال في حنق:
“ماذا تعني؟”
قال البائع في توتر:
“أعني أنه ينبغي عليك أن تدفع نقودًا حقيقية، لا أعني أن نقودك هذه مزورةٌ بالطبع، ولكننا فقط لا نتعامل بها، يمكنك أن تذهب بها إلى بائع قطعٍ أثرية أو ما شابه، نتعامل أيضًا بالـ “فيزا”، هل تملك “كريديت كارد”؟”
“أنا لا أعلم ما تتحدث عنه! أنا لا أملك شيئًا سوى هذه القطع التاريخيةّ! وأنتم تملكون كل شيء! ولكنني أغناكم وأحكمكم إذ أملك هذه القطع، هكذا أخبرني جدي! كيف يُمكن لأغنى الناس وأحكمهم أن يتضور جوعًا هكذا؟ سآخذ هذه الحاجيات، وأنت لن تأخذ شيئًا!”
أمسك صاحب الخبز والنبيذ بالأكياس في هلع، آنذاك أخرج المصري موس حلاقته الذي كان قد ادّخره لمرة ثانية ودفع به في عنقه، انسالت الدماء وعمّ الهلع المكان، وفي خضِم الذعر لم يُدرك المصري أن صاحب الخبز والنبيذ الذي اعتدى عليه، كان يعلق خلفه لوحةً تحمل نفس نُقوش ملكة آل فرعون التي تُزيّن عُملاته التاريخية.
أطلق المصري ساقه للريح، وحينما تأكد أنه أضاع من لحقوه، انزوى في رُكنٍ بجوار صندوق قمامة، وأخذ يأكل في نهم.
سكن صريرُ بطنه وداهمته ضوضاء قلبه، أكان حشرةً فعلًا وزيّن له جدّه الأمر كما اتّبع نهجه أباه؟ أم أن أحكم الخلق وأغناهم لا يلقى تقديرًا من رُعاعٍ بلا تاريخ؟
تذكّر أن صاحب الخبز والنبيذ كان قد أوصاه بأن يذهب إلى محل قطعٍ أثرية، فقصد في الحال واحدًا كان يعرف مكانه، وعندما دلف المتجر لم يتبضع، لكنه أخرج كل ما في جيبه من عملات تاريخية، رمق صاحب المتجر القطع، ثُم سأله من أين حصل عليها، فأخبره بما قال له جده، طفق صاحب المتجر يفحص العُملات في فتور، قال:
“هي ليست أصلية، ولا أظن أن لي حاجةً بها، أحسبك تحتاجها أكثر مني، لكن إن كُنت مصممًا، فسأدفع عشرين جُنيهًا.”
“ليست أصلية؟ كيف وقد قال لي جدي …”
“أعلم ما قال جدك يا صبي، هوّن على نفسك، أنت تؤمن بما قال جدّك الذي تحللت عظامه، وتُكذب رجلًا قد زاول المهنة لسنوات، بل أقسم أنك لا تعرف وجهًا من الوجوه المنقوشة على العملات أصلًا، لكنك فقط تؤمن بها لأن جدّك أخبرك بذلك”
“نعم نعم، أخبرني جدّي أنني…”
كاد صدر الرجل يضيق، فتركه يقص عليه القصة مرة أخرى متحاشيًا الجنون البادي عليه، أخذ نفسًا عميقًا ثم قال:
“اسمع يا بني، كان بودّي لو أستطيع مساعدتك، لكنني أراك مُنغمسًا في تقديس كلمات جدّك إلى الحد الذي يسد أُذنيك، انظر إلى كل هذه القطع التاريخية، أتحسبها كُلها أصلية؟ بل أتحسب أن وجوه المنقوشين عليها هي ذاتها وجوههم الحقيقية؟ لا، ليست كل القطع أصلية، بل إن وجوه المنقوشين عليها مُعظمها بدعٌ ابتدعها الفنانون تزلفًا وتملقًا لأصحاب الوجوه آنذاك، لا نملك سوى أن نفتش عن شيءٍ من عبق الأصل وسط روائح زيفٍ شتى، بل إن حتى ذلك لا نملكه، جُلّ ما نملكه هو أن نطالع روايات الفنانين في عجب، نسكر بإبداعها وننهل من عِبراتها، ربما كان ذلك ما قصده جدّك، لكني أراك تحاول شراء الحاضر بالماضي، بل إني أراك، يا مصري، منغمسًا في ماضيك حتى ليكاد يقتلك.”
أخذ المصري الثمن البخس ثم عاد إلى غرفته، تكوّر على سريره كقطٍ يلعق جروحه، كان ظنّه بأن ماضيه كافٍ لجعله أحكم الناس وأغناهم هو ما يملؤه، وعندما تبدد ذلك الظن، أدرك أنه فارغٌ تمامًا.