ما هو المرض وهل الطب فن؟
مدخلك إلى فلسفة الطب
“أعِن نفسك أيها الطبيب لتتمكن من إعانة مريضك، إن خير ما تبذله من معونة له هو أن يرى بعينه أنك قادر على شفاء نفسك” فريدريك نيتشه
يعرف معجم لاروس الطب كالآتي: “مجموعة المعارف العلمية والوسائل المستعملة للوقاية والعلاج والتسكين لمختلف الأمراض والإصابات والإعاقات”.
إذن مهمة الطبيب الأولى هي علاج الأمراض، لكن هل تسائلت يومًا ما هي الصحة وما هو المرض؟
تُعرف منظمة الصحة العالمية الصحة على أنها “حالة من الرفاه البدني والعقلي والاجتماعي التام وليس مجرد غياب المرض والإعاقة”.
هذا التعريف الواسع الذي يتجنب اختزال الصحة في الطب يؤدي بالأطباء إلى الكثير من المشاكل في تحديد ماهية الصحة والمرض ومعايير تصنيفهما، خاصةً وأن استحقاق الشخص لصفة المريض أو لا مهمٌ أخلاقيًا، و يترتب عنه الكثير؛ كالغياب عن العمل، أو تجنب المسؤوليات، أو الحجر، إلخ.
الحدود بين المرض والصحة مبهمة، وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء عليها.
1-النظرية البيو-إحصائية: bio-statistical theory
أشهر طريقة للتمييز هي البيو-إحصائية للفيلسوف الأمريكي كريستوفر بورز، والتي تعتبر المرض مجرد انزياح كمي عن الوضع الطبيعي إحصائيًا، هذا الوضع العادي معبّر عنه بمنحنى التوزيع الطبيعي لغوص.
للتبسيط نقوم بإحصاء وظيفة ما في الجسم -الكلية مثلاً- لعدد كافٍ من البشر (نفس النوع والجنس)، ثم نرسم النتائج على شكل مخطط بياني (انظر المنحنى)، من كل مئة شخص يوجد 95 أصحاء في منتصف الجرس و5 مرضى على طرفي المنحنى.
سعى بورز إلى إيجاد تعريف موضوعي طبيعاني للمرض بحكم كون الطب علمًا، فهو يهتم بما هو كائن لا ما يجب أن يكون.
يمكن عرض نظرية بورز كالآتي:
1- يعرف مجموعة 95٪ الموجودة داخل الجرس بأنها الفئة المرجعية بشرط انتمائها لنفس النوع والجنس.
2-الوظيفة الفسيولوجية العادية للفئة المرجعية هي المساهمة الفعالة لعضو أو مجموعة أعضاء في الحفاظ على بقاء النوع وتكاثره.
3-المرض 5٪ هو كل اختلال في الوظيفة العادية.
4- الصحة هي غياب المـرض.
هكذا يكون المقياس للفصل وصفيًا، فكل الوظائف الفسيولوجية العادية إحصائيًا -95 تحت جرص غوص- التي تؤدي وظيفة داروينية البقاء والتكاثر هي عين الصحة، أما المرض فهو مجرد اختلال هذه الوظائف.
حاول بورز تجنب أي أحكام قيمية للوصول إلى تعريف كوني للمرض، فنظريته موضوعية طبيعانية (يميل لكواين) حيث يقول “سأكون سعيدًا لو كان الطب خاليًا من القيم مثل الكونيات والكيمياء”.
لكن هل هذه النظرية ناجحة؟
يقول الناقدون أنها ليست ضرورية بوجود أمراض عادية إحصائيًا كتسوس الأسنان، وتصلّب الشرايين وسرطان البروستات للكبار، ولا كافية بوجود حالات صحية غير طبيعية إحصائيًا مثل زمرة o، والشعر الأحمر والذكاء العالي.
يرد بورز بتفريقه بين المرض والاعتلال، المرض فقط غير مطاق ويستوجب العلاج بينما الاعتلالات كالشعر الأحمر والأعين الخضراء لا تزعج عادةً المريض، في نفس الوقت يقر أن التسوس وسرطان البروستات كأمراض طبيعية إحصائيًا تشكل مشكلة تستعصي على نظريته.
نقد آخر بخصوص القيمة الذهبية (95٪-5٪) حيث يقول بورز: “غالبًا ما يستعمل الإحصائيون 95٪ كقيمة مركزية، لكن لا يوجد أي تبرير لهكذا اختيار”، إذن يمكن أن نرفع عدد المرضى إلى 10 مقابل 90 أصحاء!
النقد الأخير موجه للموضوعية؛ حيث أن اختيار معيار الفسيولوجية للتصنيف هو عين الذاتية، لأنه اختيار غير مبرر، كذلك فإن معايير البقاء والتكاثر ليست فقط حاملة للقيمة -ألا تعتبر شيئًا جيدًا؟- ولكن لكونها قيّمة تمكن بورز من استعمالها.
هذا النقد يوجهنا إلى المدرسة المعيارية.
2 -المعيارية: Normative
تدّعي هذه المدرسة أنه لا يستقيم تعريف المرض والصحة بدون الرجوع إلى أحكامنا القيمية كبشر، بهذا يعتبر المرض مجرد انحراف عن المعايير الاجتماعية السائدة.
فالاستمناء مثلاً اعتُبر مرضًا لغاية القرن العشرين، وبدون أن يتغير مفهومه بيلولوجيًا أو إحصائيًا تغيّرت نظرة المجتمع إليه، وأصبح ممارسة عادية، المثلية كذلك. إذن أحكامنا الاجتماعية كبشر هي المقياس، فما هو مرغوب قيميًا في المجتمع حاليًا هو الصحة والمرض ما هو منبوذ، وبالتالي لا وجود لمرض عالمي.
لوهلة تبدو هذه النظرية متماسكة، لكنها لا تخلوا من العيوب، أبرزها مرض درابيتومانيا والذي كان يُشخص عند العبيد الأمريكان، وعرَضه الأساسي الرغبة في الهرب والتخلص من الاستعباد، سيقول المعياري أنه لا يعد مرضًا الآن لتغير قيمنا، لكن لا يمكنه أبدًا القول أن الأطباء كانوا مخطئين في تشخيصه، لقبوله قيميًا في ذلك الوقت.
كذلك فإن المعياريين يقبلون بعض الأمراض المزعومة مثل العين والسحر والمس، ويُدخلونها الطب، لا لشيء إلا لأنها تحت غطاء التعريف بكونها غير مرغوبة قيميًا.
3-حلول أخرى:
كل هذه المشاكل في الطرحين أدت إلى محاولة تهجينهما، باعتبار المرض حالة غير طبيعية إحصائيًا وغير مرغوبة قيميًا، رأي آخر حديث يعتبر المرض كل ما هو غير مرغوب ذاتيًا للشخص، أي ما يسبب الانزعاج والاضطراب من منظور الشخص الأول.
مثلاً لا يعتبر شخصٌ متأقلم تمامًا مع إعاقته مريضًا، لكن ماذا عن الأمراض التي تبدأ بدون أعراض! -عدوى أو أمراض مناعية-، هل راحة الشخص حينها تعني أنه غير مريض؟ نفس الأمر بالنسبة للأمراض المزمنة.
يقول آخرون أن البحث عن تعريف محكم للصحة محكوم عليه مسبقًا بالفشل، كما أن هذه النقاشات لا تؤثر غالبًا في القرارات الطبية، لذلك وجب على فلاسفة الطب التركيز على النتائج التطبيقية، كالإجهاض والموت الرحيم بدل التأصيل.
أخيرًا؛ يوجد توجه داعٍ إلى تعديل تعريف الصحة للـ who؛ لأنها حاوية لمفاهيم تتجاوز الطب والتطبيب إلى مستويات أعلى (اجتماعية واقتصادية )، ويُصرون أن الحل هو اختزال الصحة في الطب فقط! صحيح قد يحل هذا بعض المشاكل لكنه يعني مباشرة إلغاء تخصصات كمالية مثل الجراحة التجميلية وعمليات التوقيف القصدي للحمل.
لذلك يمكن اعتبار أن الصحة مفهوم أكبر بكثير من مجرد غياب المرض، ويمكن لشخصٍ يعاني من مرض أن يكون بصحة جيدة.
مع كل هذه المشاكل التي تواجه نظرتنا للطب يجب أن نطرح السؤال التالي: هل الطب علم أم فن؟
“الطبيب هو شخص يصب مخدرات يعرف عنها القليل في جسم يعرف عنه الأقل” فولتير.
1-الطب فن:
ينطلق أنصار فنية الطب من كون كل مريض كيان مختلف، كل طبيب وكل تخصص كذلك، فكيف ندّعي وجود منهج واحد عالمي للتشخيص والعلاج؟
ثراء وتنوع التجربة البشرية يسمح لطبيبين أن يشخصا ويعالجا بكفاءة نفس المريض بطرق مختلفة، خاصةً الأطباء العامّين، لأنهم يتعاملون مع مختلف الأمراض، وغالبًا ما يثقون في الحدس ويخرجون عن البروتوكولات، بل حتى الدجالون وبدون أدنى تكوين طبي يقومون بعلاج نسبة لا بأس بها من المرضى ويحظون بقبول واسع، فقط لأنهم فنانون بارعون، بينما ينتقد المرضى الأطباء لا لقلة معرفتهم بل لجمودهم الأكاديمي.
هذه النظرة القارية للطب تؤكد أننا لا نتعامل في مخبر مع مواد كيميائية! بل نتعامل مع كيان مقدس اسمه الإنسان، كذلك فإن الطب كعلم يعاني من نفس مشاكل العلوم الأخرى -نقص التحديد مثلاً-، فنصف عمر الحقائق الطبية قصير جدًا (أكثر من نصف ما كان صحيحًا قبل مئتي عام غير مقبول اليوم)، بدون نسيان تغير معايير وتعريفات الأمراض وبروتوكولات الرعاية كل سنة على غرار ارتفاع ضغط الدم والسكري، يقول أبو حامد الغزالي في نفس السياق: “لو عالج الطبيب جميع المرضى بنفس الدواء لمات معظمهم”.
2- الطب علم:
من الطبيعي أن يرفض البشر تلقي الأوامر خاصة أصحاب الخبرة، هكذا يرد الأكاديميون التحليليون الذين يرفضون بشكل قاطع حصر الطب في الفن، الطب نوع من العلم نعم، لقد كان الاختلاف في طرق التشخيص والعلاج مبررًا قبل قرون، لأن التأصيل العلمي للطب حديث جدًا، أما الآن مع التقدم التكنولوجي فلا مجال للحدس؛ يجب أن نحتكم إلى نفس البروتوكول العلمي العالمي الصادر عن المنظمات الموثوقة التي توصلت إلى هذه النتائج عن طريق الكثير من التجارب على مر السنين، بينما الخروج عنه غالبًا ما يؤدي إلى نتائج كارثية، بل يمكن أن يصل الأمر إلى العقاب القانوني.
حينما نقارن نتائج المستشفيات الملتزمة بالبروتوكولات العالمية بالأخرى فإن النتائج واضحة؛ زيادة في السرعة والفعالية ونقصان في الأخطاء والمضاعفات والآثار الجانبية، إذن مرة أخرى ينتصر العلم على الحدس.
3-نحو علم طب فني:
الطبيب هو شخص يحارب مصدر رزقه، لذلك لا يمكن أن تخلوا هذه المهنة تمامًا من الفن، الحوار بين الطبيب والمريض وتوطيد الثقة بينهما ليس علمًا صرفًا! الأطباء والمرضى في الأخير بشر، واللمسة الفنية من تعاطف ورحمة وثقة أساسية.
توجد كذلك فروع طبية فنية بشكل كبير مثل الجراحة التجميلية، لأن معايير الجمال تتغير بتغير البيئة، علم النفس أيضًا مجال خصب للفن، فالطبيب النفسي فنان أكثر من كونه طبيب لتشعب النفس البشرية وتعقدها، إذن لكي تكون طبيبًا جيدًا لابد أن تكون فنانًا.
نختم مقالنا بمقولة الطبيب الفرنسي الشهير تروسو:
“أسوأ رجل علوم هو الذي لم يكن فنانًا أبدًا، وأسوأ فنان هو الذي لم يكن أبدًا رجل علم، في القديم كان الطب فنًا يقف مع الشعر والرسم، اليوم هو علم يقف بجانب الرياضيات والفيزياء، هذا يعني أنه مع التقدم العلمي هنالك انخفاض في اللمسة البشرية للأطباء مما يضعف علاقتهم مع المريض”.