لوحة “قارئ دستويفسكي”: صورة الإنسان الحديث المتعب
يقول الأمير (أودويفسكي) بعد قراءته لرواية (دستويفسكي) الأولى “الفقراء”: “يا لهؤلاء الكُتَّاب القصاصين، إنهم بدلاً من أن يقصوا علينا شيئًا نافعًا مُمتعًا مريحًا، يهتكون جميع أسرار الحياة على هذه الأرض ويزيحون الحُجب عن جميع مبائس الوجود، لو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة. فكروا في النتائج الذي يؤدي إليها هذا، إن المرء يقرأ ما يكتبون فإذا هو على غير إرادةٍ منه يأخذ يتأمل، وإذا بجميع الأفكار العجيبة المستحيلة تغزو رأسه، حقًا لو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة، أو لمنعتهم من نشر ما يكتبون.”
تُرى هل أتيح لهذا الأمير قراءة الأخوة كارمازوف فيما بعد؟ هل استوقفته التركيبة العجيبة التي تتسم بها شخصية (إيفان كارمازوف)؟ هل سحره وقوفه وحواره مع الشيطان؟ هل تعرَّف على شخصية (راسكولنيكوف) الذي جعلنا غير قادرين على إبداء حكم قاطع بحقه؟ هل هو مجرم يستحق العقاب؟ أم أنه إنسان طيب جرته أفكاره بعيداً فلم يستطع أن يتدارك نفسه؟
لا ريب أن (دستويفسكي) يخلق تجربة فكريّة فرديّة ومُختلفة في ذهن قارئه، حتى ردود الأفعال السلبية التي لا تحبذ أسلوبه وتكشف عن وجود مواطن ضعف في البناء القصصي لرواياته لا يمكن أن تخرج عن نطاق هذا التأثير، فقد استطاع (دستويفسكي) على الأقل إزعاجهم على نحو ما! ولا أريد هنا استعراض الآراء الكثيرة جداً والتي قيلت عبر التاريخ من قبل أدباء ومفكرين وحتى علماء بحق (دستويفسكي) وأدبه، فأغلبها معروف، إنما أريد أن أقف عند لوحة فنية بعنوان “قارئ دستويفسكي” للرسام التشيكي إيميل فيلا، قام برسمها في العام 1907.
تذكرنا هذه اللوحة بأسلوب الرسام النرويجي (إدفارد مونش) من حيث ألوانها وخطوطها، ويتضح أن فيلا قد رسمها بعد زيارته لمعرض للوحات مونش أقيم في براغ في العام 1905. فقد يكون ما شاهده قد أثر في أسلوب رسمه.
لا تحتوي اللوحة على الكثير من العناصر والألوان، مع ذلك يمكن قراءتها من نواحي كثيرة. يشغل القارئ الجزء الأكبر من اللوحة، قد رمى بجسده كالمتهالك على الكرسي وهو ما يشير إلى شعوره بالإنهاك، ونستطيع رؤية يده اليمنى مُرتخية وهو لا يزال ممسكًا بالكتاب فيما تعتلي وجهه ملامح بائسة وقاتمة. هذا القارئ ليس منهكًا جسديًا بقدر ما انعكست الحالة النفسية الداخلية على حالته من الخارج، إنه وكما يمكن أن نتخيل، وجد نفسه قد دخل في أعماق نفسيّة سحيقة ربما لم يكن قد همس بها لنفسه قبل أن يجد أن (دستويفسكي) قد عرضها أمامه بكل وضوح ودقة!
في الجهة العُليا وإلى اليسار من اللوحة نجد أيقونة المسيح المصلوب مُعلقة على الحائط، وهي ولا شك تشير إلى الإيمان، في حين نجد أن النافذة على الجهة اليُمنى تطل على مشهد شاحب لا تتضح فيه أي معالم.
قد نزعم هُنا أن تاريخ رسم اللوحة ذو أهمية كبيرة في تفسير معانيها، وهي السنوات الأولى من القرن الجديد -القرن العشرين-، لقد عاش الكثيرون أجواء نهايات القرن المنصرم وبداية اتضاح معالم العصر الحديث التي تكشفت مع بداية القرن الجديد. ومن أكثر هذه المظاهر التي تجلت مع بداية القرن هي اضمحلال الإيمان وشيوع حالة من الشك واليأس التي بدأت تسيطر على أذهان الناس، فبعد الثورة الصناعية وتطور العلم وشيوع نظريات وفلسفات تدعو إلى إعادة النظر في مسلمات كثيرة بدأ الدين بالانحسار، وهو ما تشير إليه أيقونة المسيح المصلوب في اللوحة فهي ترمز إلى القيم الدينية التقليدية التي بدأت بالتراجع، لتحل محلها في المُقابل كما نرى من خلال النافذة على اليمين، مدينة شاحبة قاتمة تخلو من المعنى.
وبين هذه وتلك يجلس الإنسان المنهك. هذا الصراع بين الإيمان وبين القيم الحديثة التي تأخذ بالإنسان إلى اليأس والعدم هو أحد الموضوعات التي تكررت في روايات(دستويفسكي)، “أيها السَّيِّد الكريم، ليس الفقر رذيلة، ولا الإدمان على السكر فضيلة، أنا أعرف ذلك أيضًا. ولكن البؤس رذيلة أيها السَّيِّد الكريم، البؤس رذيلة. يستطيع المرء في الفقر أن يظل محافظًا على نبل عواطفه الفطريّة، أما في البؤس فلا يستطيع ذلك يومًا، وما من أحد يستطيعه قط.” (الجريمة والعقاب).
إنه الإنسان الضائع بين الشك والإيمان (راسكولنيكوف في الجريمة والعقاب) أو حتى الإنسان الذي لا يقوى على تحديد وجهته (ستافروجين في رواية الشياطين). مع ذلك فإن (دستويفسكي) ليس بائسًا أشد البؤس فهو يرى أيضاً أن: ” قوام قانون البشريّة كله أن يكون في وسع الإنسان أن ينحني أمام شيءٍ عظيم عظمة لا نهاية لها. فإذا حُرم البشر من هذا الشيء الذي لا نهاية لعظمته رفضوا أن يعيشوا وماتوا في اليأس.
اللانهاية والمطلق لا غنى للإنسان عنهما، كما لا غنى له عن هذه الأرض التي يعيش عليها.. يا أصدقائي، جميعًا، جميعًز! عاش “الفكر العظيم”! الفكر الأبدي، اللانهائي! لا غنى لكل إنسان، كائنًا من كان، عن الانحناء أمام الفكر العظيم” (من رواية الشياطين).
ترى هل وجد قُراء دستويفسكي أن اللوحة تعبر بالفعل عن حالتهم عند قراءة رواياته؟!