لماذا خلقنا الله؟
لا يوجد إنسان لم يسأل نفسه: أنا.. من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ تلك هي الأسئلة الوجودية التي تطارد كل عقل واعٍ، ونحاول هنا البحث عن إجابة الركن الثالث: لماذا؟
نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام: مقدمات ضرورية، وإجابة السؤال، واعتراضات.
أولًا: مقدمات ضرورية
الله عالم
مقدمة أولى: كل منظَّم له منظِّم ذكي.
مقدمة ثانية: الكون مُنظَّم.
نتيجة: يوجد مُنظِّم ذكي للكون.
إذن فخالق هذا الكون عالم حكيم. وقد أكد القرآن ذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
الله عادل
المراد بوصف الله تعالى بالعدل: أنه سبحانه لا يفعل القبيح، ولا يأمر به، ولا يختاره، وأفعاله كلها حسنة؛ أي يضع الشيء في موضعه.
ودليل ذلك عقلًا: أن ارتكاب القبح سببه: إما للجهل به، أو للافتقار إليه. أما الله تعالى، فلأنه عالم وغني، فلا حاجة لاختياره الظلم.
يقول القاضي عبد الجبار:ا “لله تعالى عالم بقبح القبيح، ومستغنٍ عنه، وعالم باستغنائه عنه، ومن كان هذه حاله، لا يختار القبيح بوجه من الوجوه”(1).
وكما نزَّه القرآن الذات الإلهية عن كل تشبيه، كذلك نزَّه الفعل الإلهي عن أي ظلم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، (وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
الله قديم
المقصود باسم القديم: أنه ليس مخلوقًا، بل قائم بذاته. ودليل ذلك:
مقدمة أولى: لكل حادث سبب.
مقدمة ثانية: يستحيل تسلسل الأسباب إلى ما لا نهاية.
النتيجة: يوجد في أول سلسلة الأسباب خالق غير مخلوق، لا يعتمد على شيء قبله، قديم.
ويلزم عن ذلك أن الله واجب الوجود: أي يستحيل عدم وجوده. وهو أزلي: أي لا بداية له. وهو أبدي: أي لا نهاية له.
وبذلك فالله لا ينفعه شيء ولا يضره شيء، لأنه لا يقوم أو يعتمد على شيء.
وقد أكد القرآن هذه الصفة، فقال: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ).
هل لله أغراض من أفعاله؟
لو عرَّفنا الغرض بأنه الدافع، أي هل يوجد دوافع دفعت الله وجعلته يُقدِم على فعل معين؟ فبالتأكيد لا يوجد دوافع وراء أفعال الله، لأنه سبحانه قديم، لا يحتاج إلى شيء، ولا ينقصه شيء، ولا يفيده ولا يضره شيء، ولا يجبره شيء.
أما لو عرَّفنا الغرض بمعنى: القصد والهدف والغاية.
فوجود هدف ومقصد وراء أفعال الله لا ينتقص من قدر الله، بل هو مقتضى الحكمة الإلهية.
فتعريف الحكمة: وضع الشيء في موضعه. لكن كيف يُقاس وضع الشيء في موضعه أو انحرافه عن موضعه؟
بقياس مدى تحقيق الفعل لمقصده/ غايته على أكمل وجه. أما العبث: فهو العمل الذي لا يعود بفائدة، بلا مقصد.
مثلًا: هل نقل الكوب هو فعل حكيم أم عبثي؟
لا إجابة، لكن إن قلت لك: أنا أنقل الكوب لحمايتها من الكسر، فوجود غرض مفيد وتحقيقه يجعل الفعل حكيمًا، أما لو قلت لك: أنا أنقل الكوب لمجرد أني أريد نقله، بلا هدف ولا غاية، فهو فعل عبثي.
ولأن الله حكيم، فلأفعاله مقاصد وغايات.
وقد أكد الله في آيات عدة وجود غايات ومقاصد لأفعاله:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا).
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).
وبخصوص مسألتنا تحديدًا: لماذا خلقنا الله؟ فقد نصَّ الله صراحة أن خلقه للبشر لحكمة وغرض وليس عبثًا بلا فائدة، فقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ).
ثانيًا: إجابة السؤال
لماذا خلقنا؟
لما كان الله حكيمًا، فلا بد أن يكون له غرض من خلق البشر.
هذا الغرض إما أن يعود إلى الله أو البشر.
ولما كان الله قديمًا، فلا يفيده شيء ولا يضره شيء، فيستحيل أن يعود الغرض إليه. قال تعالى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
فلم يبقَ إلا أن غرض الخلق يعود على البشر، فإما أن ينفعهم أو يضرهم.
وخَلْقُ البشر لإضرارهم هو ظلم قبيح، ولما كان الله عادلًا، فيستحيل فعله من الله.
إذن لم يبقَ إلا أن غرض الخلق يعود على البشر بالنفع.
ووجه النفع والسعادة: أن الوجود خير من العدم، والحياة خير من الجمود، والتعقل خير من الجهل، والرغبة خير من اليأس، والجزاء الأخروي المصحوب بتكريم وتعظيم واستحقاق خير من النكران. ولما كان الإنسان موجودًا، حيًّا، عاقلًا، مشتهيًا اللذات، وفي يده فرصة للدخول إلى الجنة، فهو خير له وأسعد.
يقول الخوارزمي: “الله تعالى إما أن يخلق العقلاء لا لغرض، فيكون خلقهم عبثًا قبيحًا، وذلك محال، فلابد أن يخلقهم لغرض، وذلك الغرض لا يجوز أن يرجع إليه تعالى، لأنه تعالى لا يجوز عليه النافع والضار، فلا بد من أن يكون راجعًا إلى العقلاء، ولا يجوز أن يخلقهم للإضرار بهم من غير استحقاق ومنفعة، لأن ذلك ظلم قبيح، فلا بد من أن يخلقهم لينفعهم ويحسن إليهم”(2).
وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، أي للرحمة خلقهم، قال بذلك ابن عباس، ومقاتل، ومجاهد، وعكرمة، والجشمي.
لماذا كلَّفنا؟
طالما غرض الخلق هو إسعاد البشر، فلماذا لم يتفضَّل الله علينا بالنعم في الجنة دون تكليف ومشقة في الدنيا؟
يجب التفريق بين التَفضُّل والثواب، فالتفضل: هو عطاء غير مُستَحَق.
أما الثواب: فهو نفع يستحقه المكلَّف نتيجة التزامه بما كُلِّف به، وهو نفع مُستَحَقٌ على سبيل التعظيم والتكريم.
ومن مقتضى الحكمة ألا يُعظَّم أحد ويُكرَّم ويُثاب إلا إذا كُلِّف بعمل ونجح في التكليف، وإلا على ماذا يُكرَّم ويُعظَّم؟!
وبالتالي لا يصح رفع أحد من مقام التفضل إلى مقام الثواب بدون تكليف والتزام.
مثال ذلك: لو افترضنا وجود شخصين متماثلين تمامًا أمامي، الأول قد كلَّفته بعملٍ، وأدَّاه على وجهه الصحيح، وبذلك يستحق ثوابًا مقابل عمله. والثاني لم ينجز شيئًا، لكن أردتُ أن أتفضَّل عليه لمجرد التفضل، عندئذ لو أعطيتُ الثاني (التفضُّل) مثل الأول (الثواب) لكان هذا منافٍ للحكمة، ومُثبِت لجهلي.
بعد ثبوت هذا المعنى، نقول: قد أراد الله سبحانه، بدلًا من التفضل على البشر بنعمٍ قليلة، أراد أن يزيد من عطاء البشر، لينالوا ثوابًا كبيرًا على سبيل التعظيم والتكريم، لذلك كلَّفهم، ليلتزموا بالتكليف، فيستحقوا درجة الثواب العظيم، ولم يكن للبشر أن يرتقوا إلى مقام الثواب المستحق إلا بالتكليف.
يقول القاضي عبد الجبار: “غرض الله بذلك التكليف أن يعرِّضنا إلى درجة الثواب التي لا تُنال إلا بالتكليف.
والذي يدل على ذلك أن الثواب نفع عظيم يُستحق على طريق التعظيم، وما هذا حاله لا يحسن الابتداء بمثله، ألا ترى أنه لا يحسن من أحدنا أن يُعظِّم أجنبيًا على الحد الذي يُعظِّم والده؟”(3).
ويقول الخوارزمي: “إنما كلَّف الله العقلاء تعريضًا للثواب، ومعنى التعريض لذلك هو أنه تعالى طلب منهم أن يفعلوا الواجبات ويتركوا القبائج، ليستحقوا بذلك المنافع العظيمة الدائمة الواصلة إليهم بطريقة الإكرام والتعظيم”(4).
قال الله تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وتكملة الآيات توضح أن نفع العبادة لا يقع على الله: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، وباقي القرآن يؤكد ويكرر أن نفع العبادة يقع على الإنسان: (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وذلك لأن من أدَّى حق العبادة، استحق ثوابًا عظيمًا على سبيل التكريم.
ثالثًا: اعتراضات
لماذا لم يخيِّرنا؟
لماذا لم يخيِّرنا الله بين الحياة والعدم، ويترك للإنسان حرية الاختيار؟ فربما يرفض إنسان كل هذا الاختبار، وهو حقه، فلماذا أجبره الله على الاختبار؟
طالما ثبت أن الوجود خير من العدم، وفرصة التعرض للثواب والتكريم خير للإنسان، فلا يلزم على المنعِم أن يخيِّر المنعَم عليه؛ ألا ترى أنه لا يلزم على أحد أن يستأذن غيره ليتبرع له أو ينقذه من الغرق؟
بل أكثر من ذلك؛ فإن عَلِمَ المنعِم أن اختيار الآخر خاطيء وناقص، والتزم به، لكان خطأ من المنعِم؛ ألا ترى أن الأب إن خيَّر ابنه فيما فيه صلاح الابن أو هلاكه، واختار الابن هلاكه، وساعده الأب، لكان عيبًا يُلام عليه الأب؟
وقد يتفق البعض أن التكليف الذي يتبعه ثواب خيرٌ، لكن يرى أن آلام مصائبه هو أكبر من لذة أي ثواب، ولا تَنَاسُب بين تكليفه وثوابه، ولو خُيِّر، ما قبل بهذه الفرصة.
لكن الحكم على ألم التكليف بأنه عظيم أو بسيط لا يصح إلا بمقارنته بالثواب، فصيام النهار نظير كوب من المياه هو تكليف قبيح؛ لأن ألم التكليف أكبر من لذة الثواب. أما صيام النهار مقابل سيارة حديثة، فهو تكليف حسن؛ لأن لذة الثواب أعظم من ألم التكليف.
والمشكلة الرئيسة أننا نرى ألم التكليف في حياتنا الدنيا، لكن لم نرَ ثواب الآخرة حتى الآن، ومهما كانت آلام الدنيا فهي محدودة ومنقطعة، أما ثواب الآخرة فهو الأعظم قدرًا؛ فلم يخطر على قلب بشر، والأجل قيمةً؛ إذ هو عطاء الله سبحانه، والأطول مدةً؛ فهو ممتد إلى ما لا نهاية، ورياضيًا أي رقم على ما لا نهاية يساوي صفر.
إذن فالخلق والتكليف خير للبشر، سواء اختاروا أم لا، ولا يلزم استئذانهم.
لماذا خلق الكافر؟
لو كان غرض الحياة التعريض للثواب لكان الأفضل ألا يخلق الله الكافر، لأنه يعلم أنه لن يستفيد بهذا الثواب؟
يقول ابن الروندي: “هل يكون حكيمًا من دعا من يعلم أنه لا يستجيب له؟”(5).
جوهر الإجابة هنا في الفصل بين الأحداث؛ فتسلسل الأحداث كالتالي:
- الله كلَّف البشر ليُعرِّضهم للثواب.
هذا الفعل تساوى فيه فعل الله مع المؤمن والكافر، فكلاهما عرَّضه الله إلى الثواب، وهو فعل حسن لذاته، بصرف النظر عن رد فعل العبد.
فإن حاول أحد أن يغوي ويضل نبيًا، فهو فعل قبيح، رغم علمنا أن النبي لن يضل. والعكس صحيح؛ فإن حاول أحد أن يهدي كافرًا، فهو فعل حسن، رغم علمنا أن الكافر لن يهتدي.
ومثلما تمد حبلين لغريقين، فيمسك به أحدهما ويتركه الثاني، فأنت تُشكر على فعلك (مد الحبل)، ولا يجوز أن يُقال: كان يجب ألا تمد حبلًا للغريق الثاني لأنه لن يستفيد.
- المؤمن فَعَلَ الخير واستحق الثواب.
هنا المدح يقع على المؤمن، لذلك استحق الثواب.
- الكافر فَعَلَ الشر فيستحق به العقاب.
هنا الذم يقع على الكافر، وليس الله، فالكافر هو الذي اختار طريق القبح والشر.
- الله سيجازي المؤمن.
هنا جزاء المؤمن حق للمؤمن وواجب على الله، أوجبه بنفسه على نفسه.
- الله سيجازي الكافر.
هنا عقاب الكافر حق، ولا يُعد ظلمًا من الله، إن كان الكافر يعلم بقبح كفره، واستحقاقه للعقاب، وهو مقتضى العدل.
إذن فالله قد وهب نعمه وفرصة استحقاق الثواب للمؤمن والكافر، غير أن الكافر هو الذي رفض الفرصة، فيقع اللوم على الكافر وليس المنعِم، وحتى لو لم يستفد بالفرصة، فتظل حسن من المنعِم.
يقول القاضي عبد الجبار: “قد ثبت حسن تكليف المؤمن، ولا وجه لحسنه إلا أنه تعالى أقدره على ما كلَّفه وقوى دواعيه إليه وأزاح علله فيه، وهذا كله في حق الكافر ثابت ثباته في حق المؤمن، ولا فرق بينهما إلا أن المؤمن أَحسَن الاختيار لنفسه واستعمل عقله فآمن، ولم يُحسِن الكافر الاختيار لنفسه لشقاوته فلم يؤمن، وذلك لا يُخرِج الله تعالى من أن يكون متفضلًا عليهما جميعًا.
والحال في ذلك كالحال في من قدَّم الطعام إلى جائعين قد استولى عليهما الجوع وأشرفا على الهلاك، ثم تناول أحدهما الطعام فلم يمت، ولم يتناول الآخر فمات، فالمقدم للطعام منعمًا عليهما على سواء”(6).
يقول أبو الحسين الخياط: “كفر الكافر ومعصيته وإساءته إلى نفسه لا تغيِّر إحسان الله إليه، بل ترجع باللوم على الإساءة إلى من فعلها، وهو الكافر العاصي، وترجع بالوصف بالإحسان والإنعام إلى فاعله، وهو الله جلَّ ثناؤه”(7).
لماذا يبتلينا؟
إن كان غرض الخلق: إسعاد البشر، فلماذا يبتلينا، ويزيد مصائبنا، ويمرضنا، ولا يرزقنا، ولا ينصرنا، ولا يستجيب دعائنا، ولا يهدينا؟!
أصل المشكلة هنا نابع من تصور أن الله يتدخل في أحداث البشر، فيخرق قوانين الكون ليمرض هذا الطفل، ويحرم هذا من الرزق، وينصر جيشًا، ويضل باحثًا!
لكن السؤال الأولى والأهم: من قال أن هذه الأفعال تُنسب لله؟
إن الله لم يقتل الأطفال الجوعى، وإنما قتلهم الطغاة والبغاة، والله لم يمرض ذاك، بل الطعام الملوث هو الذي أمرضه، والله لم يهزم ذاك الجيش، وإنما هُزم لعدم استعداده الكافي، وهكذا حين نتتبع كل مصائب الدنيا نجدها تحدث نتاج أسباب دنيوية ومادية وبشرية.
وقد صرَّح الله تعالى بأن شرور الأرض ليست من فعل الله، بل هي فعل البشر نتيجة اختياراتهم هم، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
لماذا لا يتدخل الله ليمنع الشر؟
شاءت حكمته تعالى أن يخلق كونًا بنواميس صارمة، وضوابط حاسمة، ويخلق بشرًا بإرادة حرة، ليكتمل الاختبار الدنيوي. ومن يضع يده في الكهرباء سيموت بالتأكيد، ولا يعد هذا عقابًا أو ابتلاءً أو جزاءً خاصًا من الله، بل هو نتيجة لناموس كوني. وإن نزل مؤمن وكافر البحر، سيغرق من لا يعرف العوم، دون أدنى التفات لتقواه، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).
ولولا انتظام الكون وثبات قوانينه، ما تحقق الاختبار الدنيوي؛ فالاختبار الدنيوي قائم على حرية الإرادة وثبات نواميس الكون، فتخيل لو اختار إنسان ارتكاب الشر، فتدخل الله ليمنع شره! ما بات للكون ولا للحياة معنى ولا وظيفة، ولم تعد الحياة كاشفة عن الأشرار والأخيار.
يقول علي شريعتي: “الإنسان، بمعنى البدن والروح، وبمعنى المجتمع والتاريخ، يخضع لسلسلة قوانين محددة تأبى التبدل والتغير”(8).
ويقول محمد كامل حسين:” الشر الذي يصيب الإنسان نوعان:
– نوع يأتيه من حيث هو حيوان، كالمرض، وهو في هذا لا يختلف عن غيره، وليس ما يصيبنا من أذى بأكثر دلالة على الظلم من الداء يصيب الحيوان، والصاعقة تصيب الشجرة، وليس هذ ظلمًا يُنسب إلى الله، فإن الله لم يجعل سننه الطبيعية متعلقة بما ينفع الإنسان وحده.
– النوع الآخر يصيب الإنسان من عمل غيره من البشر، وهذا تركه الله لنا، وجعلنا عنه مسئولين.
ولن يحدث أبدًا أن يقع حجر على الأرض ثم ينحرف عن طريقه لئلا يقع على رأس مؤمن أو طفل بريء؛ لأن مثل هذا الانحراف عن سنن الطبيعة يقضي على نظام العالم كله”(9).
ويقول محمد رشيد رضا: “إن الأصل فى كل ما يحدث فى العالم أن يكون جاريًا على نظام الأسباب والمسببات، وسنن الله التى دلَّ عليها العلم، وأخبرنا الوحى بأنه لا تغيير فيها ولا تبديل لها ولا تحويل”(10).
هل يرضى الله بالشر ويسكت عليه؟
اقتضى الاختبار الدنيوي ألا يتدخل الله في الدنيا، أما عن إقامة العدل، فيوم الحساب يعود العدل الغائب والحق المنتهَك، فهو يوم استحقاق وعِوض؛ استحقاق الصالحين العابدين الخيرين لثوابهم، واستحقاق الظالمين لعقابهم. وعِوض الجميع عن آلامهم.
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
المصادر: ١. (شرح الأصول الخمسة) ص292 ٢. (تحفة المتكلمين) ص136 ٣. (شرح الأصول الخمسة) ص499 ٤. (تحفة المتكلمين) ص135 ٥. (الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد) ص117 ٦. (شرح الأصول الخمسة) ص501 ٧. (الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد) ص118 ٨. (معرفة الإسلام) ص87 ٩. (قرية ظالمة) ص145 ١٠. (الوحي المحمدي) ص200