لما علي اتجوز إنچي
"صراع القلب والعقل"
يقول أفلاطون: “كل إنسان يصبح شاعرًا إذا لامس قلبَه الحبّ.”
حقيقي.. فالحبّ الحقيقيّ إذا دخل قلب إنسان غيّر كلّ شيء في حياته إلى الأفضل، وكأنه عدسة وُضعت فوق حدقتيه، فجعلته يرى الأشياء أجمل والألوان أزهى والأشخاص أنبل. الحبّ من أجمل المشاعر التي تمرّ بالإنسان في حياته، ذلك الشعور الذي يغزو القلب فيميل ويقتحم العقل فيلين، الحبّ هو شغل كلّ الشعراء والأدباء الشاغل منذ قديم الأزل ومحلّ تحليلهم ودراساتهم.
هو ذلك السرّ اللذيذ السّاحر الذي تحتفظ به قلوب الشباب والفتيات، ويلتفّون حوله كالفراشات التي تدور حول ضوء الشموع.
ولكن هل تكفى بضع خفقات في قلبك، تحدث في لحظات قِصار لتؤكّد لك أنّ هذا هو الشخص الذي يصلح أن يكون شريك عُمرك ومصدر قوتك وسعادتك إلى آخر العُمر؟ في الروايات والأفلام التي تتحدّث عن قصص الحبّ هناك نهايتين، إما نهاية سعيدة بزواج المُحبَّين، وإما نهاية حزينة بافتراق المُحبّين وتباعُدهما. ولكننا دائمًا لا نعرف هل زواج الأبطال هو النهاية السعيدة حقًا؟وهل كان فراقهم فعلًا نهاية لأحلامهم؟ أم أنه كان بداية لحبٍّ أجمل وحياة أفضل؟
في السطور التالية سأصحبك صديقي القارئ في رحلة عبر حدود الزمان والمكان، وراء بعض قصص الحُب التي رواها الكُتّاب وخلّدها التاريخ، “إنچي وعلي”، “روميو وجولييت”، وقصة حُب معاصرة تشبه في تفاصيلها تفاصيل حياة كثير من الشباب اليوم “تيمور وشفيقة”..
ومن خلال هذه الحكايات سنُجيب معًا على هذا السؤال: هل كل حبييب يصلُح أن يكون زوجًا؟
معظمنا، أو دعني أقول، كلّنا يعرف قصة حُب “إنچي وعلي” أبطال رواية (رُدّ قلبي) للرائع (يوسف السباعى)؛ إنچي سموّ الأميرة سليلة العائلات الملكية و”علي” ابن الباش جنايني البسيط، والذي نجح بوساطة إنچي في أن يُصبح أحد طلبة الكلية الحربية، كما نجح بوساطة القدر في أن يكون أحد رجال ثورة 23 يوليو، انتهت الرواية بحلول الثورة وانتهاء الملكية والطبقية وكلّ الحدود والفواصل بين البشر (من وجهة نظرالكاتب). وكان المشهد الختاميّ هو اجتماع الحبيبين كزوج وزوجة بعد فِراق وصراع، نهاية سعيدة تقليدية… ولكن هل هي حقًا سعيدة؟ هل ستكون قصة الحبّ هذه بكلّ ما فيها من مشاعر أساسًا متينًا لحياة زوجية سعيدة؟
سيُجيب قلبك فورًا بـ”نعم”، بينما سيطلّ العقل بمنطقه ليُخبرنا أنّه “لا”!
مبرّرات القلب أنّ بالحب يهون كل صعب، وبالحبّ تتزين الحياة وتُجمّل الحقائق وجهها القبيح، بينما سيدحض العقل حُجج القلب وسيُبرر موقفه بعدم التكافؤ بين أبطال الحكاية، فكيف لهذه الأميرة الرقيقة، ربيبة القصورالتي اعتادت ألا تلبس إلا الغالي من الثياب والثمين من المجوهرات، ولا تشعر بالانطلاق والتنزّه إلا إذا خرجت لتقود حصانها؛ كيف تعيش حياة متواضعة بلا خدم ولا مُساعدين؟ كيف سيتسنّى لها أن تُقصر حياتها على عائلة “علي” الريفية البسيطة وترتضي بهم كعائلة عوضًا عن عائلتها التي تمرّدت عليها لتُلبّي نداء الحب؟
وماذا عن “علي” نفسه؟ هذا الضابط المُناضل العاشق. ماذا عساه يفعل ليوفّر لأميرته حياة مُريحة على قدر إمكانياته؟ وكيف سيدعم بيتهم الصغير بمؤونة كافية من المودة والرحمة كي لا يموت حبهم جوعًا ولا تحترق حدائق مشاعرهم بنار الضغوط والاحتياجات والروتين؟
هل سيتقبل أصدقاؤها القُدامى الذين لن تخلو نظراتهم لها من عتاب ولوم، والذين سيُثير ظهورهم أمامها كثيرًا من ذكريات ماضيها وحياتها السابقة بكلّ ما فيها من رغد ورفاهية..
بعد أن طرحت عليكم تساؤلاتي عن مدى إمكانية نجاح هذه العلاقة.. دعوني أخبركم عن رأيي المتواضع والذى كوّنته من خلال قراءتي للرواية ومُشاهدتي للفيلم، يُمكنني القول أنّ ما كان بين بطلَي الرواية كان حُبًّا حقيقياً ومشاعر صادقة استطاعت أن تصمد وتبقي نارها على جذوتها رغم كلّ الرفض والمصاعب التي واجهتهما.
ولكن يظلّ هناك فجوة كبيرة بينهما، عدم تكافؤ بين الأميرة ابنة الأثرياء وبين ابن الجنايني حتى ولو كان ضابطًا ذا شأن، قد يُعينهم حبهم على ملء هذه الفجوة أحيانًا وقد تهزمهم الظروف في أحيان كثيرة بمرور الوقت وتبدُل الأحوال والظروف، بتحوّلهم من مجرد حبيبين إلى حبيبين بدرجة أزواج وآباء، تلك الدرجة التي تجعل سُلطان مسؤوولياتهم وواجباتهم أكثر هيمنة على تصرّفاتهم وقرارارتهم من سُلطان قلوبهم بكلّ ما فيها من حُبّ ومشاعر.
وإذا أتينا إلى الجانب النفسي وفكّرنا فيما يمكن أن يدور داخل نفس كلٍّ منهم، حتى وإن لم يظهره، فقد تدفع الضغوط “إنچي” إلى إعادة التفكير في زيجتها هذه وإلى بعض تساؤلات تطرحها على نفسها عن مدى صحة اختيارها واستحقاقه لكل هذه التضحية، ماذا ستفعل في موجات الحنين التي ستهاجم شطآنها فتشتاق أهلها وحياتها الماضية الموثرة؟ وماذا عن مشاعر الحنق والغضب التي قد تستشعرها كلّما تذكّرت أنّ هذا الضابط “علي” ورفاقه هم من جرّدوها وعائلتها من الألقاب والأملاك وألقوا بهم إلى المجهول؟
وكيف نغفل تلك المرارة التي خلّفها والد “إنچي” في نفسه ونفس أسرته بما فعل فيهم من طرد وإهانة وإذلال، والتى قد تدفع “علي” إلى الجنوح نحو الانتقام عن طريق الزواج بأخرى من بنات بلدته، يشعر معها أنه الأفضل في المستوى والأعلى قدرًا؟ لا يسعنا أن نستبعد أيًّا من تلك الاحتمالات، فالنفس البشرية بنوازعها وأغوارها مليئة بالأسرار التي لا يعلم بها إلا الله.
أسمع شخصًا يتهمني بالطبقية، ولكن دعني أدافع عن وجهة نظري! فأنا لا أقلّل من شأن الفقراء، ولا أمتدح الأغنياء، ولا أقول أنّ الفقير مهما بلغ شأنه من العلم والجاه، فسيظلّ أصله البسيط يلاحقه، ولكنّ مقصدي هو التواؤم، التكافؤ، والانسجام بين طرفي العلاقة. ليس ضمانًا لنجاحها ولكن أخذًا بالأسباب واجتهادًا لمُسببات النجاح والسعادة؛ فالتكافؤ قد يسُدّ بعض الثغرات التي قد يتسرّب منها شيطان الخلافات والنزاعات، ويدعم قوة وتلاحم هذه العلاقة، ويساعد في جعلها ناجحة.
والآن، هيا نُسافر معًا على أجنحة طائر الحب إلى بلاد أخرى وحكاية أخرى، في إيطاليا في العصور الوسطى، أبطال حكايتنا هم “روميو وجوليت” أبطال أشهر مسرحية تراجيدية للأديب العالمي “وليم شكسبير”، الحبيبين الذين جمعت بينهم مشاعر جنونية هوجاء، وكانت كذلك سبب فراقهم.
لمن لا يعرفهم، هم أبناء عائلات ثرية ب “فيرونا”، ولسوء الحظ، جمع الحب بين قلبي شاب وفتاة يُفرّق بين عائلاتهم كراهية عمياء، وعداوة تمتد جذورها إلى سنين وسنين، بينهم ما صنع الحداد كما يقولون، كراهية وأحقاد ودماء.
بعد أن وقعت شرارة الحب الأولى في قلبَي العاشقين “روميو وجوليت” أشتعلت أيضًا شرارة الصّراع المرير الذي تجرّعا كؤوسه حتى الثُمالة. وبعد صراعات وصدامات أدّت إلى طرد “روميو” إلى خارج المدينة، اتجهت “جوليت” إلى الحيلة بمساعدة صديق مشترك، على أن تتناول دواءً مُنوّمًا فتروح في سبات عميق يجعل من حولها يظنون أنها ماتت، وعند مقبرتها يأتي “روميو” ليأخذها بعد أن تفيق، ولكن حالت الظروف دون معرفة “روميو” بهذه الخطة، فظنّ أنها ماتت حقًا فقتل نفسه وقتلت نفسها عندما أفاقت ووجدته قتيلًا. نهاية مأساوية مؤسفة لحُبّ جنونيّ غابت عنه رقابة العقل والمنطق.
ولكن دعونا نتخيل في السطور التالية أنّ حيلتهما قد نجحت، وأنّ “روميو” قد حضر إلى مقبرة حبيبته فوجدها قد أفاقت وأخذها على حصانه وفرّا إلى مدينة أخرى بعيدة لا يعرفهما فيها أحد ولا يلومهما فيها لائم.
وها قد نجحت خطّتهما واجتمع الحبيبين فى بيت بسيط فتزوّجا، وأطفأ العاشقان نيران أشواقهما ثمّ مضت أيام العسل وشهوره، وراحت السكرة وجاءت الفكرة، وانقشعت سحابة الأحلام الوردية بروعتها وأطلّ الواقع برأسه وأصبح الحال كالآتي: “روميو” الذي كان من أثرياء قومه مجرّد تاجر بسيط، وتحوّلت “جوليت” الفتاة الرقيقة التي كانت تسكن قصر أبيها وتنعم بالثراء والدعة إلى سيدة منزل تنظف وتطهو، لا ثياب جميلة ولا حفلات ولا رفاهية..
ماذا بوسع الحبّ أن يفعل كي يمنع برودة الوحدة من أن تُجمّد قلبيهما؟ نعم، فقد أصبحا بلا أهل ولا أصدقاء، فرّا من الجميع مُشيعين بلعنات الجميع وغضبهم، أمرهما ليس بالهيّن! صعب للغاية، فقد ضحّيا بكل شيء مقابل الحب الذي حتمًا سيفرّ منهما بمرور الأيام وعلوّ صوت العقل الذي سيجلدهم كلّ يوم وكلّ ليلة إن غيّبوه تمامًا عن اختيارهم وقرارهم.
أرجوك صديقي القارئ، لا تتهمني من جديد بالجمود والسخافة لأنني أُحيل بكلماتى أساطير الحبّ الخالدة صورًا باهتة مُجرّدة من الألوان والجمال، فكلّ ما أُحاول فعله هو ربط هذه القصص بالواقع. أنا فقط (أقصقص) أجنحة هؤلاء المُحبين لينزلوا من سماء خيالهم إلى أرض واقعنا..
حتى وإن حدث التكافؤ الإجتماعي والتآلف العاطفي فإنّ رضا الأهل ومُباركتهم للزيجة عنصر هام لاكتمال السعادة، وتجنب سبب كبير من أسباب الكدر والمُشكلات.
والآن هيا بنا لنعود ثانية إلى أرض الوطن وحكاية حب أخرى، ولكن في الألفية الثانية، قصة حب ألفها السيناريست “تامر حبيب”، أبطال حكايتنا هم “تيمور وشفيقة”..
أسمع من يقول “ما مُشكلتك هذه المرة؟ فالتكافؤ الاجتماعي والثقافي موجود، وقصة الحُب هذه مُكللة برضا الأهل وترحيبهم، ماذا ستقولين هذه المرة؟ دعني أُجيبك عزيزي القارئ، القضية هذه المرة مختلفة، فمُشكلة هذه العلاقة، هي اختلاف وجهات النظر وعد توائم الشخصيات والأهواء.
فالبطل هنا “تيمور” ضابط الشرطة، الرجل الشرقي الذى لا يسمح لفتاته بالحركة أو الانطلاق إلا في إطار مُحدد يرسمه هو لها، يراها كطفلته التي يجب أن تكون دائمًا مُطيعة ووديعة، حتى تنعم بحبه وتدليله لها، وعليها أن تتقبل كل تحكماته لأن كلها –من وجهة نظره- بدافع الحب ليس أكثر. هو “سي السيد تيمور” ولم ولن يستطيع أن يكون غير ذلك!
أما عن البطلة “شفيقة” الفتاة الذكية العنيدة والمتفوقة الطموحة، والتي تسعى بكلّ طاقتها لأن تكون ذات كيان مستقل ناجح، والتي رغم حُبها وتعلُقها ب”تيمور” إلا أن طبيعتها المُتطلعة الطموحة تجعلها ترفض فكرة أن يقتصر نصيبها من الحياة على أن تكون مُجرد دُمية في يد حبيبها يحركها كيفما يشاء، وطوال أحداث الفيلم لا تكف عن المقاومة والتمرد على تسلط “تيمور” عليها. مما يوضح أنها ليست ضعيفة ولا خاضعة، أى أنها لا تصلح أن تلعب دور “أمينة”!
تنتهي أحداث الفيلم بالنهاية السعيدة التقليدية، بأن تتنازل “شفيقة” عن منصبها الوزاري المرموق لتصير زوجة لسي السيد “تيمور”، ترتدي له ثوب الزفاف الأبيض والطرحة، ولكن هل هذه النهاية السعيدة ستكون بداية لحياة زوجية سعيدة ؟؟ الإجابة: لا.
ببساطة لأن هذا الرجل لن تتغير طباعه وسيظل “سي السيد” المُتسلط، وهذه الفتاة لن تتغير لتكون “أمينة” كسيرة الجناح التابعة لأوامر سيدها بلا نقاش أو جدال.
فقد وافقت “شفيقة” في النهاية على الزواج والتنازل عن وظيفتها وهي تحت ضغط، انساقت وراء مشاعرها وخوفها من أن تفقد “تيمور” إلى الأبد، فآثرت السلامة والاستسلام لحبيب تعرفه ولحياة رسمتها في خيالها على التمرد ومواجهة حياة جديدة وحبيب جديد لا تعرف عنهما شيئًا، استسلمت مثلما تستسلم كثير من الفتيات لواقع يعرفونه حتى وإن كرهوه، خوفًا من واقع آخر، وبدايات جديدة لا يعرفون عنها شيئًا.
ولكنها –شفيقة- حتما ستفيق بمرور الوقت، وتُدرك أن هذا الرجل “تيمور” دفعها إلى التنازل عن أحلامها باسم الحب، والحب مما فعل براء، وستحاول مرارًا وتكرارًا أن تتمرد عليه وتقاوم مظاهر تسلطه عليها، وبالطبع لن يلين هو ولن يقبل، ولن تخلو حياتهما من الصدامات والمُشاحنات، والتي ستودي بالضرورة بحياة مشاعرهما الجميلة وحتمًا ستقضي عليها.
فمن هو مثل “تيمور” لا تصلُح له إلا زوجة أكثر هدوءًا واستكانةحتى تستطيع تقبّله واستيعاب طباعه فتنعم بحبه دون كدر. ومن مثل “شفيقة” لن يُسعدها إلا رجل ذو عقلية داعمة، وذو طباع أكثر مرونة، حتى يكون قادرًا على منحها المشاعر التي تحتاجها منه دون شرط أو قيد، ودون أن يقف عائقًا في طريق أحلامها و طموحاتها.
خُلاصة القول أنّ الحب شيء جميل ورائع، ومصدر كبير لسعادة الرجل والمرأة، إلا أنه قد يتسبب في خسائر وتعاسة أبدية إذا لم يُصاحبه العقل والمنطق، فكما تقول المقولة الإنجليزية “اتبع قلبك ولكن خُذ عقلك معك.”
و أنا من أنصار هذه المقولة وبشدة، فاندفاع الإنسان وراء مشاعره دون تعقُل، يكون أحيانًا كاندفاع الصائم بعد آذان المغرب نحو زجاجة ماء فيشرب ويشرب حتى يرتوي ويمتلئ جوفه ولا يترك للطعام مكانًا، ثم يزهد في الماء فلا يقربه ثانية حتى أذان الفجر، أو يشعر بألم في بطنه التي أثقلها بالماء وحرمها الطعام.
كثير منا يُصاب بإحباط وألم كبير إذا فشل في إتمام علاقة حُب حكمت عليها الظروف بالفشل، وكتبت الأقدار فيها كلمة النهاية بنكهة الفراق. فيظل طرفاها يتعذبان باعتقادهما أنهما قد فقدا سعادتهما بنهاية هذه العلاقة، وأنّ الأيام قد حرمتهما السعادة والهناء بحرمانهم من هؤلاء الأحبة، رغم أن كل القصص السابقة أثبتت أن سعادة بعض العلاقات تكون في الفراق وليس في اللقاء، وأن بعض البدايات السعيدة لا تُولد إلا من رحم نهاية حزينة.
فليس كل حبيب اختاره القلب يصلح أن يكون زوجًا وأبًا، ولكن كل زوج أقرّه العقل بموافقة القلب يصلح أن يكون حبيبًا، وإن كان لك عزيزي القارئ رأى آخر فأود أن أعرفه على الرحب والسعة والسلام.
نرشح لك/ أعظم عشر قصص حب في التاريخ