ظل يتحرك في الظلام: كيف انبثقت الصهيونية من منظومة الغرب الاستعمارية؟
يتفق المؤرخون على أن بداية العصر الحديث تمت في القرون التي عرفت فيها أوروبا نهضتها وتطلعها إلى استكشاف العالم، ليبدأ بالتالي الاستعمار الذي رسخ “المركزية الأوروبية” أكثر مما عُرفت في العصور الوسطى حيث سيطرة الكنيسة، فصارت الرأسمالية هي محرك الغرب أكثر من الصليبية القديمة، لتنطلق به نحو الهيمنة على العالم بفعل السياسة الاستعمارية والامبريالية. وقد تمخض في ثنايا هذه الفترة مجموعة من الأفكار والأيديولوجيات التي بررت وتماهت مع تصرفات أوروبا حول العالم، فكان من أبرزها: الصهيونية.
عصر الاستعمار
قبل الحديث عن الصهيونية، سنتوقف باختصار شديد على مفهوم “الاستعمار” الذي جاء بعد الثورة الاقتصادية في الغرب، ابتداءً من القرن الخامس عشر الميلادي، وبروز شرَه الأوروبيين نحو الثروات خلف البحار البعيدة؛ فكان الغزو والاحتلال ثم الاسترقاق والاستيطان من وسائل أوروبا لاستدامة استعمارها، عبر ما سمي بالكشوفات الجغرافية أولًا، ثم نشر الحضارة والتنوير بعد ذلك.
نمو الأفكار الصهيونية في الغرب
تعد الصهيونية من الأفكار والفلسفات التي تولدت عن النهضة والحداثة الغربية، فقد انطلق الفكر الصهيوني ضمن أدبيات فترة الإصلاح الديني الأوروبي، وما أعقبها من فترات نمت فيها الصهيونية الأولى المسيحية (غير اليهودية) حتى القرن التاسع عشر الميلادي، لتتبلور كأيديولوجية سياسية استعمارية، تهدف إلى تحقيق “النبوءة التوراتية” بتأسيس دولة لليهود بفلسطين.
فبعد تمكن اليهود أخيرًا من الاندماج في المنظومة الرأسمالية في أوروبا الغربية، بدأت الأفكار الصهيونية تجتاحهم مع الثورة الفرنسية وانتصار العلمانية على الكنيسة، لتبدأ رحلة الصهيونية والشعور القومي اليهودي في القرن التاسع عشر في النضوج، والذي عززته موجات اضطهاد اليهود في أوروبا الشرقية وروسيا، لاسيما بعد حادثة اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني عام 1881م التي اتهم اليهود بتدبيرها (1).
فكان مصطلح “معاداة السامية” قد انتشر في هذه الفترة في الغرب، حتى انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية عام 1897م، وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، التي ستختار بشكل رسمي فلسطين هدفًا لمشروعها، فكان لهذا التأسيس، كما يقول عبد الوهاب المسيري، انتقال الصهيونية من “البداية الجنينية التسللية إلى مرحلة العمل المنظم على الصعيد الغربي”(2).
الصهيونية المسيحية
لم تكن الحركة الصهيونية متركزة على العنصر اليهودي فحسب، فما كان للأفكار الـصهيونية لتنمو وتتشكل لولا الدعم والرعاية الذي قدمه المسيحيون في الغرب، منذ عصر الإصلاح الديني وتوسع مذهب النصرانية البروتستانتية في شمال أوروبا وأمريكا، لتجد المسألة اليهودية مكانا لها في اللاهوت الديني البروتستانتي في القرن السابع عشر، فيما عُرف آنذاك بـ”الصهيونية الألفية” التي تنشد “العصر الألفي السعيد”(3)، لتصير الصهيونية المطالبة بفلسطين امتدادًا للقضية الصليبية القديمة في المخيال المسيحي.
فصارت الكنيسة الأنجليكانية في القرن التاسع عشر أكبر راعٍ للصهيونية، التي أصبحت تنتعش في إنجلترا بصفتها معقلها الأبرز، حتى غدت بريطانيا بعد ذلك الدولة الاستعمارية التي وجهت الصهيونية نحو هدفها المنشود: فلسطين في قلب العالم الإسلامي.
الغرب الاستعماري بوجه الصهيونية نحو العالم الإسلامي
وقد كانت بدايات سعي الاستعمار الغربي إلى توجيه الصهيونية في فترة الحملة الفرنسية على مصر، حيث كان نابليون أول القادة الغربيين الذين أثاروا “المسألة اليهودية”، وسعى إلى استيطان اليهود بفلسطين بعد غزوها.
وخلال عقود القرن التاسع عشر، دأبت الكتابات الصهيونية على وصف فلسطين بأرض قاحلة من دون شعب، نافيةً أي وجود لأهلها العرب المسلمين. وتأتي هذه الكتابات ضمن رحلات الاستشراق والكولونيالية إلى البلاد الإسلامية التي ستمهد استعمارها، وذلك في الوقت الذي يقترب فيه الصهيونيون من دوائر القرار الاستعماري في أوروبا الغربية، والتي كانت تترقب اضمحلال الدولة العثمانية والاستيلاء على أراضيها.
ومع بداية القرن العشرين، استطاعت المنظمة الصهيونية بقيادة هرتزل الاتصال بالبريطانيين، في وقتٍ كان فيه التنافس الاستعماري في أشده، فانتهز الصهيونيون فرصة اندلاع الحرب العالمية الأولى فدعموا صفوف الحلفاء والإنجليز، نقمةً على العثمانيين الذين منعوهم من الحصول على فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ليحصلوا في النهاية على وعد بلفور البريطاني.
وتقع فلسطين ضمن مركز حيوي في وسط العالم الإسلامي، وللاختيار الصهيوني لها دوافع أهمها ما ذكره هرتزل في كتابه “الدولة اليهودية”؛ بكون فلسطين حائطًا دفاعيًا لأوروبا في آسيا(4)، ليبدأ بالتالي التحالف الصهيوني الاستعماري ينزل على أرض الواقع، لتقوم بريطانيا -التي فرضت الانتداب على فلسطين بعد اندحار الدولة العثمانية، ثم تطبيق معاهدة سايكس بيكو مع فرنسا لتقسيم المشرق- بتسريع الهجرة اليهودية نحو فلسطين، وفرض الاستيطان الصهيوني بها.
كما أن “معاداة السامية” أو “اللاسامية” المنتشرة بأوروبا قد شجعت على الهجرات الكثيفة لليهود من روسيا وشرق أوروبا نحو فلسطين، لتكون بذلك اللاسامية قد قدمت خدمات جليلة للكيان الصهيوني الناشئ؛ حيث شكلت البلاد الأوروبية خزانًا بشريًا هائلًا للدولة اليهودية الوليدة بفلسطين.
أضف إلى ذلك ما قام به النازيون من اضطهادٍ لليهود، جعلهم يهاجرون بوتيرة سريعة حاملين معهم ثرواتهم وإمكانياتهم نحو فلسطين، لتكون بذلك النازية قد ساعدت الصهيونية من جانب اللاسامية؛ حيث إن الصهيونيين يقدرون فضل النظام النازي الألماني في جعل مشروعهم أمرًا ممكنًا في فلسطين عام 1948م (5).
الكيان الصهيوني وإرث الاستعمار التقليدي
في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، اندلعت حركات التحرر في جميع أنحاء العالم المستعمَر، لينتهي بعدها الاستعمار في شكله التقليدي. فكانت جل هذه البلدان قد رحلت عنها الجيوش الأجنبية، ما عدا منطقة واحدة هي فلسطين، التي انتقلت من الاحتلال البريطاني إلى الاحتلال اليهودي-الصهيوني عام 1948م، لتتأسس دولة الكيان الصهيوني تحت مسمى “إسرائيل” بإشراف دولي من قبل الأمم المتحدة.
فبدأت القوى الصهيونية بدعم غربي غير محدود ببناء دولتها المنتظرة، عن طريق الاستيطان والاحتلال والقتل وتهجير العرب المسلمين من أراضيهم، لتكون بذلك قد ورثت أدوات الاحتلال الغربي السابق ومنظومته الاستعمارية، حتى صار النظام العالمي يتركز على الدولة الصهيونية من أجل بسط سيطرته على ما بات يعرف بالشرق الأوسط.
وهو الأمر الذي اعتبره الدكتور أكرم حجازي بمثابة مربطًا للنظام الدولي، فالكيان الصهيوني هو مربط عسكري يهودي من مرابط النظام الدولي، التي يكرس بها هيمنته على قلب العالم الإسلامي(6)، ليكون الاحتلال الصهيوني في فلسطين هو النسخة الجديدة من الممارسات الاستعمارية التقليدية.
حدود السيطرة الصهيونية ضمن المنظومة الإمبريالية
وبعيدًا عن التهويل الذي يمارسه البعض فيما يخص الصهيونية واليهودية العالمية كالبرتوكولات والمؤامرات، فلا شك أن الصهاينة يتآمرون ويخططون دائمًا ضد الأمة بحكم عدائهم لها؛ لكن ليس إلى درجة التدخل ضمن نظرية المؤامرة والتهويل والتضخيم. فالصهيونية حتى الآن لم تستطع بناء دولة “إسرائيل الكبرى” التي تمتد من النيل إلى الفرات، بالرغم من عمالة وتواطؤ الأنظمة العربية معها، بل حتى أنها لن تصمد طويلًا دون دعم وإمدادات الغرب، الذي يعد لها كالأم بالنسبة لصغيرها.
كما أن الكيان الصهيوني ما كان ليقوم أصلًا لولا التشرذم والانقسام الذي طال البلاد الإسلامية بفعل الهيمنة الغربية عليها؛ فأي خلل في المنظومة الامبريالية للغرب، سيؤثر بشكل أو بآخر على الصهيونية وكيانها في فلسطين.
المراجع: 1.محمد خليفة حسن، الحركة الصهيونية: طبيعتها وعلاقتها بالتراث الديني اليهودي، الطبعة الأولى، دار المعارف،1981م، ص 83. 2.عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج6، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة 1999م، ص 323. 3. ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة أحمد عبد العزيز، سلسلة عالم المعرفة، عدد 96، 1985م، ص 60-64. 4. الحركة الصهيونية، ص 166. 5. الصهيونية غير اليهودية، ص 255. 6. أكرم حجازي، مرابط النظام الدولي، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن، 2016م، ص 16.