قراءة في كتاب مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي لـ عبد الوهاب المسيري

لا شكّ أنّ الصراع العربي الإسرائيلي يحتل الأهمية الكبرى في عقلية المواطن العربي من الناحية الدينية والثقافية والأمنية، ويحتار المواطن العربي في كيفية إدارة هذا الصراع، وذلك بسبب تفوق الجانب الإسرائيلي علينا، بالرغم من أنه الأحدث عمراً والأقلّ عدداً.
نقرأ كتاب الدكتور عبد الوهاب المسيري المتخصص في دراسة اليهودية و الصهيونية لنعيد تشكيل أفكارنا حتى تنسنى لنا معرفة العدو وكيفية مواجهته، وخصوصاً أن الصهيونية قامت على أساطير تم زرعها في أدمغة بعض دول العالم من جهة، وعلى أفكار نمطية خاطئة من جهة أخرى تم ترسيخها في عقل المواطن العربي.

وفي هذا الكتاب سنعرف إذا ما كان لليهود تاريخ مشترك فعلاً كما يزعمون أم أنهم مجرد جماعات يهودية وأحياناً جماعات وظيفية، وماهي الصهيونية وكيف نشأت، وما هي أزمة الصهيونية.

الفصل الأول: يهود أم جماعات يهودية؟

كي يتيسر لنا فهم موضوع الجماعات اليهودية والصهيونية لابد أن نبتعد تماماً عن التعميمات والقوالب اللفظية الجاهزة. ومن أكثر هذه القوالب شيوعاً كلمة (اليهود) والتي تشير إلى اليهود بشكل مطلق.

وهم التاريخ اليهودي :

إعلان

يتحدث كثيرٌ من الدارسين عن اليهود وكأنهم كتلة واحدة متماسكة ومتجانسة فعلاً، والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان ثمة عناصر مشتركة بين يهود العالم فما هي؟ وهل هذه العناصر المشتركة أكثر تفسيرية وأهمية من العناصر غير المشتركة؟

نأخذ على سبيل المثال فكرة (التاريخ اليهودي) الذي هو مصطلح يفترض وجود تاريخ يهودي مستقل عن تاريخ جميع الأمم والشعوب. مفهوم كلمة “التاريخ اليهودي” يفترض أن لهذا التاريخ مراحله التاريخية وفتراته المستقلة ومعدل تطوره الخاص، بل أيضاً قوانينه الخاصة. وهو تاريخ يضم اليهود أساساً، يتفاعلون داخله مع عناصر مقصورة عليهم من أهمها دينهم وبعض الأشكال الإجتماعية الفريدة، واستقلالية أي بناء تاريخي تعني استقلالية بناه الاقتصادية والاجتماعية وكذلك استقلالية البنى الحضارية والرمزية المرتبطة به وتجانسها النسبي في كل مرحلة من مراحله.

كما يجب أن يضم هذا البناء التاريخي جماعة من الناس لاوجود لهم خارجه، ولا يمكن فهم سلوكها إلا في إطار تفاعلها معه. لكن من الثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم كانت توجد في مجتمعات مختلفة تسودها أنماط إنتاجية وبنى حضارية اختلفت باختلاف الزمان والمكان، فيهود اليمن، في القرن التاسع عشر، كانوا يعيشون في مجتمع صحراوي قبلي عربي، أما يهود هولندا فكانوا في الفترة ذاتها يعيشون في مجتمع صحراوي رأسمالي غربي، ولكل هذا نجد أن سلوك اليهود اليمني ورؤيته للكون تحكمهما إلى حد كبير عناصر البناء التاريخي العربي الذي يعيش فيه، تماما كما تحكم سلوكَ يهود هولندا ورؤيتهم مكوناتُ البناء التاريخي الغربي الهولندي. وإذا افترضنا وجود تاريخ يهودي فعلاً، فما هي أحداث هذا التاريخ؟ هل هي الثورة الصناعية على سبيل المثال؟

سنكتشف أن الثورة الصناعية حدث ضخم في التاريخ الغربي ترك أعمق الأثر في يهود العالم الغربي وأحدث انقلاباً في طريقة عيشهم ورؤيتهم للكون في القرن التاسع عشر. لكن هذا الانقلاب لم يحدث لهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم أقلية توجد داخل التشكيل الحضاري الغربي. فنجد مثلاً أن يهود أثيوبيا لم يتأثروا إلا على نحو سطحي لأن المناطق التي يعيشون فيها ظلت بمنأى عن هذه التحولات الكبرى.

ونأخذ أيضا مثالاً آخراً، وهو الموروث الثقافي لأعضاء الجماعات اليهودية، إننا سنلاحظ مثلاً أن اللغات التي يتحدثون بها تختلف باختلاف المجتمع الذي ينتمون اليه. فهم يتحدثون الانجليزية في البلاد التي تتحدث الانجليزية والفرنسية في البلاد التي تتحدث الفرنسية والجورجية في جورجيا. وتشير المراجع الصهيونية إلى لغو اللادينو واليديشية باعتبارهما تعبيراً عن الاستقلالية اليهودية. لكن من المعروف أن ظاهرة اللهجة المستقلة ليست مقصورة على اليهود فكثيرٌ من أعضاء الأقليات ممن يضطلعون بوظيفة معينة (كالتجارة والربا) يبقون على لغتهم وسيلة للحديث. ولعلّ من أصدق الأمثلة على ذلك الأرمن في الدولة العثمانية والصينيون في جنوب شرق آسيا. فهؤلاء يتحدثون بلغتهم الأصلية ويحتفظون بتماسكهم، لكن بزوال وظيفتهم يرحلون عن الوطن أو يندمجون فيه.

اليهود من الناحية الإثنية والدينية:

يمكن تصنيف أعضاء الجماعات اليهودية على أساس عرقي أو إثني إلى مجموعات ثلاث كبرى:

1- السفارديم :

وهم اليهود الذين يتحدثون اللادينو، وهم نسل أولئك اليهود الذين عاشوا في شبه جزيرة أيبيريا أصلاً. وحين طرد أعضاء الجماعة اليهودية منها اتجهوا للدولة العثمانية واليونان وشمال أفريقيا ولهم طريقتهم الخاصة في الصلاة والطقوس الدينية كما أن عبريتهم تختلف عن عبرية الإشكناز. وثمة عداء متواصل بين السفارد والإشكناز. فالسفارد كانوا ارستقراطية اليهود، وكان استقرار الاشكناز في أماكن تجمعهم يسبب لهم الحرج وكانوا لايتعبدون معهم ولا يزوجون منهم. وقد انقلب الوضع رأساً على عقب بعد أن تحولوا لأقلية وحقق الإشكناز بروزاً في الحضارة الغربية وبعد إعلان دولة إسرائيل.

2 – يهود الشرق و العالم الاسلامي :

يشار إلى يهود الشرق والعالم الإسلامي بأنهم (سفارد) أيضاً وهذه التسمية مغلوطة، ويعود هذا إلى أنّ كثيراً منهم يتبع النهج السفاردي في العبادة. وبالرغم من ذلك إلا أن تجربتهم الدينية والثقافية والتاريخية منفصلة تماماً. وينقسم يهود العالم الإسلامي إلى عدة أقسام، أهمها يهود البلاد العربية أو اليهود المستعربة والذين استوعبوا التراث العربي وأصبحوا جزءاً لايتجزأ منه.

3 – الإشكناز :

هم أساس يهود شرق أوروبا (روسيا / بولندا) الذين يتحدثون اليديشية ويعود أصلهم إلى ألمانيا (إشكناز بالعبرية). وحينما كان المهاجرون الإشكناز يهاجرون من بولندا إلى بلاد مثل هولندا وانجلترا ثم الولايات المتحدة، كانت المجتمعات المضيفة (بما في ذلك أعضاء الجماعة اليهودية فيها) تعتبرهم متخلفين. ولذا يمكن الحديث أيضاً عن النهج الاشكنازي في العبادة. والمسألة اليهودية أساساً مسألة يهود أشكيناز وقد ظهرت جميع الحركات الفكرية اليهودية الحديثة في صفوفهم أيضاً: حركة الاستنارة اليهودية -اليهودية الإصلاحية- اليهودية المحافظة -قومية الدياسبورا- البوند وأخيراً الصهيونية التي بدأت كحركة اشكنازية تهدف لتأسيس دولة اشكنازية ولكن يهود الشرق والعالم الاسلامي وبقايا السفارد اكتسحوها.

أما من الناحية الدينية، فيمكن تقسيم يهود العالم إلى قسمين أساسين:

1 – يهود اثنيون، وهؤلاء فقدوا كل علاقاتهم بالعقيدة اليهودية والموروث الديني، وكل ما يربطهم باليهودية هو أسلوب الحياة والموروث الثقافي فقط، ويمكن القول إن أكثر من نصف يهود أمريكا يهود بهذا المعنى. أما في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) كان عددهم يزيد عن ذلك بكثير، ويشار إلى هذا الفريق بأنهم اليهود الملحدون أو العلمانيون.

2 – يهود يؤمنون بصيغة ما من صيغ العقيدة اليهودية وهؤلاء ينقسمون لعدة أقسام:
أ ) اليهودية الأرثوذكسية: هي الصيغة التي سادت بين الجماعة اليهودية الاساسية في الغرب في العصور الوسطى وحتى نهاية القرن التاسع عشر، ويؤمن اليهود الأرثوذكس بأن التوراة مرسلة من عند الإله وبأن كل ماجاء فيها ملزم.
ب ) اليهودية الإصلاحية: ظهرت في ألمانيا (مهد الإصلاح الديني المسيحي) وتعد ترجمة لفكر عصر الاستنارة وتحكم العقل في كل شيء. وتحاول أن تفصل المكون الديني عن المكون العرقي أو القومي في العقيدة اليهودية وتحاول أن تجعل اليهودي مواطناً في الشارع ويهودياً في منزله.
ج ) اليهودية المحافظة: هي مجموعة من التيارات الفكرية تصدر عن الإيمان بأن العقيدة اليهودية ليست مجموعة عقائد ثابتة وإنما هي تراث آخذ في التطور التاريخي الدائم.

ونجد أنّ الإصلاحيين والمحافظين لايلتزمون بالوصايا والنواهي ولايقيمون شعائر السبت أو الطعام الشرعي إلا على نحو جزئي من قبيل الحفاظ على الفلكلور.

وقد أباحت اليهودية الإصلاحية والمحافظة ترسيم النساء حاخامات كما أباحت الشذوذ الجنسي بين الذكور والإناث، بل ويرسم الآن الشواذ والسحاقيات حاخاميين، والأغلبية الساحقة من يهود العالم الغربي إثنية أو محافظة وإصلاحية، ولايشكل الأرثوذكس سوى أقلية لاتزيد عن 5%.

كما توجد بعض الجماعات اليهودية الهامشية التي لا حصر لها مثل السامريين الذين يؤمنون بالتلمود، وهناك القراؤون الذين تمردوا على التلمود (بتأثير الفكر المعتزلي الإسلامي) لكن لم يبق منهم سوى بضعة آلاف في كاليفورنيا وبعض مناطق روسيا وإسرائيل. وهناك بقايا يهود كايفنج في الصين، ويمكن أن نشير ليهوديتهم بأنها يهودية كونفوشيوسية تماماً كما نجد أن يهودية بني إسرائيل في الهند يهودية هندوكية.

ونلحظ مظاهر اندماج اليهود في مجتمعاتهم مثل تصاعد معدلات الزواج المختلط بين اليهود ومجتمع الأغلبية. مع أن الصهاينة يسمحون بالزواج المختلط (الهولوكوست الصامت) أي أنها إبادة لليهود.

هل كل اليهود صهاينة وكل الصهاينة يهود؟

لايوجد سند بين العبارتين في الواقع، لم تنشأ الصهيونية في الأوساط اليهودية وإنما نشأت في الأوساط الاستعمارية الغربية، وقد اكتمل الفكر الصهيوني في كتابات لورد شافتسبري وسير لورانس أوليفانت. مما يعني أن هناك صهاينة غير يهود.

أما الادعاء الثاني أن كل اليهود صهاينة، فيمكننا تقويضه إن تبنينا نموذجاً تحليلياً مركباً لايكتفي بطرح بديلين اثنين: مؤيداً للصهيونية أو رافضاً لها.

من الملاحظ أن حركة الجماعات اليهودية وهجرتهم كانتا مرتبطتين تماماً بحركات الاستعمار الاستيطاني الغربي، والصهيونية ليست استثناءً من هذه القاعدة، فوعد بلفور هو بمثابة العقد الذي تم توقيعه بين التشكيل الاستعماري الغربي والحركة الصهيونية، تقوم بمقتضاه بتحويل الفائض اليهودي المتدفق من شرق أوروبا إلى غربها إلى فلسطين، وبالتالي تحويله لمادة استيطانية توظف في خدمة الاستعمار الغربي والدفاع عن مصالحه، وفي المقابل، تقوم القوى الإمبريالية راعية المشروع بحماية الجيب الاستيطاني ودعمه مالياً وتوفير الأمان له. فالحل الصهيوني هو في الواقع حل لمشكلة كثير من يهود العالم الغربي الذين يرغبون في الإنتماء إلى الحضارة الغربية لكنهم أخفقوا في ذلك (لمركب من الأسباب).

ولذا، وعدت الصهيونية بنقلهم خارج أوروبا حيث يحققونه من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي.

نرشح لك/
إسرائيل الأخرى “أولى الفرص الضائعة لتفادى نكبة الشعب الفلسطيني”

خمس كتب قدمت تاريخ فلسطين بأسلوب روائي

إعلان

اترك تعليقا