فَنّ اللا شيء (مترجم)
إن فكرة اللا شيء أو العدم واحدة من أكثر الألغاز حيرة التي يواجهها المُفكِّرون، وحاولت أعظم العقول في الفَلْسَفة والدِّين والرياضيَّات والفيزياء الفَلكيَّة أن تشرح هذا المفهوم، وها نحن في القرن الواحد والعشرين ما زلنا لا نعرف أي شيءٍ عن هذا الموضوع كما يبدو، حتى لو أنه يبدو مفتاحًا لفهم بداية ونهاية الكَوْن على سبيل المثال، رغم ذلك فهو يبدو أساسيًا لفهم بداية ونهاية الكَوْن.
ومن مُنْطَلَق أنني فَنَّانة، ولست فيلسوفة أو عَالِمَة، فلدي الحُرِّيَّة للكتابة عن مدى تأثير فِكْرة العدم عليّ وعلى عملي الفَنّيّ، لكنني لست الفَنَّانة الوحيدة التي فكَّرتُ مَلِيًّا في هذا الموضوع، فكثير من الفَنَّانين ومن ضمنهم المُفضَّلون لدي، مثل: كايزمير مالفيتش، ريتشارد بوسيت-دارت، ريتشارد سيرا، وفابيين فيرديير. انخرطوا مع مفاهيم الفراغ أو العدم ومثَّلوها في أعمالهم. إننا نعرف فَنَّهم، لكنني لا أعتقد أن معظمنا يُدرك أن هؤلاء الفَنَّانين وكثيرين آخرين غيرهم أُلهِموا أو عالجوا هذه الموضوعات على مدى سنين.
يُشكِّل اللا شيء محور عملي الفَنّيّ. سأقتصر في نقاشي هنا على مجالين حول كيفية عملي وحول مدى ارتباطه بفِكْرة اللا شيء. في المثال الأوَّل، هناك أوقات أقترب فيها من لوحة الكانفاس دون أن تكون لدي أدنى فِكْرة حول ما الذي أرغب في رسمه. وهناك أوقات حيث تكون لدي رؤيا واضحة وضرورة مُلِحَّة لأرسم، لكن هذه الرؤيا تستمر في التطوُّر حينما أتعمَّق في الفِكْرة التي تَكْمُن وراءها. وعلى ذلك، فإن اللَّوْحَة تختلف حينما تتضح رؤياي فيما بعد.
وقبل الرَّسْم فعليًّا، فعلى جسمي وعقلي أن يكونا مستعدَّيْن لرحلةٍ يُمكن أن تأخذ أسابيع أو أشْهُر. ولأجل ذلك أحتاج التزوّد بطاقةٍ يصعب وصفها، وهذا يتعلَّق بالنوعيَّة لا الكَمِّيَّة. وهي تتعلَّق بما هو عقليّ وعاطفيّ أكثر من الطاقة الجسديةَّ، تلك الطاقة التي ستسمح لي بالمُضي قُدُمًا في كل أشكال مغامرات العقل وفي عملية التنفيذ التقنيَّة للَوْحَة كذلك. أحتاج ذاك النوع من الطاقة الذي يدفعني للاستمرار وعدم الاستسلام في منتصف العملية. ولو توقَّفت عن العمل على اللَّوْحَة قبل إتمامها، فإنه من الصعب جدًا العودة لها وإتمامها بالفعل.
كيف أطلب هذا النوع من الطاقة، وكيف أصل إلى هذه الحالة المميزة من الإبْدَاع بناءً على ما سبق؟ عندما تتملَّكني رغبة في العمل ولا تكون لدي الرؤيا أو حتى النِّيَّة لاكتشاف فِكْرة معينة، أذهب إلى مرسمي وأجلس أمام لَوْحةٍ فارغة بكل بساطة، ثُمَّ أنظر إلى اللَّوْحة وأنا مسترخية ومتيقِّظة في نفس الوقت. أتنفس وأغمض عينيّ ثُمَّ لا أفعل أي شيءٍ، وبعد بضع دقائقٍ بالعادة أستطيع الإحساس باهتزازٍ خفيفٍ في قلبي في قلبي، إحساس كالقشعريرة الخفيفة يسري في جسدي، ثُمَّ يتحوَّل عقلي ويسمو، فأصل إلى إحساسٍ بوضوحٍ عظيم، حيث كل شيءٍ حادٍ وواضحٍ. أجد نفسي في فضاءٍ مضيءٍ لا نهائيٍّ. أشعر بخفةٍ وكأنني حرَّرت جسدي. هذه هي مساحتي من اللا شيء، وأستطيع أن أبقى في هذه الحالة لبضع دقائقٍ أو بضع ساعاتٍ وكأن الزمن لم يعد موجودًا.
إعلان
حينما توشك هذه الحالة على الانتهاء بشكلٍ طبيعيٍ* أفتح عياني، أحتاج هُنَيْهَة من الزمن للعودة إلى الواقع، وكأنني عُدت من رحلةٍ طويلة. وبالنسبة لي فإن مساحة اللا شيء عبارة عن فضاءٍ مقدَّسٍ، ونوع من حالةٍ إبداعيَّةٍ أعتبرها ضرورية لعملي الفَنّيّ. ومن هذا المُنْطَلق أستطيع الانطلاق إلى عِدَّة اتجاهات. وفي هذه النقطة فإنني أنظر إلى اللَّوْحَة معظم الوقت وأعرف تحديدًا ما أريد فعله، رؤيتي واضحة. ورغم ذلك أحيانًا تكون هناك وَمْضَة لفِكْرة وأحاول بعدها أن أبني ببطء تصوُّرًا للَوْحَةٍ حول هذا المحور.
وأخيرًا لدينا عملية تنفيذ اللَّوْحَة. لدي تقنيتين للعمل: السَّكْب والتَّلْطيخ، لكنني أدمج الأسلوبين معًا أحيانًا. وتَبرُز اللَّوْحَة حينما يتزامن كل شيءٍ معًا: درجة حرارة الغرفة، وحركة الهواء، وتماسك الزيت بالألوان، ونسيج لوحة الكانفاس، وتركيزي الكامل كذلك.
كل شيءٍ يتراكم في لحظةٍ؛ في حركةٍ انفعاليَّةٍ. أبتعد للوراء بعدها وأشاهد، حيث تسيطر الجاذبية وأرى مسارات ذهبيَّة تنبثق كالأشجار أمام عينيّ. هذا الأسلوب المعيَّن أحد أسلوبين مميزين في سلسلتي “الرَّنين والتَّردُّد“. وبحسب اللَّوْحَة فإنني أضع نقاطًا من الألوان وآلافًا أخرى أرُشَّها بالفرشاة أو بيدي، كل واحدةٍ على حِدَةٍ، كما يمكن رؤيتها في سلسلتي “عناصر”، و”حقل”، و”جسيمات”. يمكن أن يستغرق وضع عِدَّة طبقات من اللَّون الزيتيّ أسابيع أو حتى أشهر بحسب حجم اللَّوْحَة. وكل مرحلةٍ من العملية بذاتها خفيَّة، لأنها تستجيب للبيئة ولحالتيّ النَّفسيَّة والجسديَّة.
وبدأت أرى لَوْحَاتي كامتدادٍ لوعيي عند نقطةٍ ما، وكجزءٍ من حلقة تغذية راجعة بيني وبين الموجودات حولي، وهي فِكْرة شرحها كلٌ من توم هانت وجوناثان سكولر في نظرية الرنين للوعي الّتي طوّراها.
استوحيت الصورة أعلاه من فِكْرة العدم. وهي إحدى لَوْحَاتي المُفضَّلة على كونها من أصعب اللَّوْحَات التي عملتُ عليها، وأعتقد أن القصة التي وراءها تستحق أن تُرْوَى.
قبل ست سنواتٍ، جاء “أندريس هيوسر“ -فَنَّان وأمين متحف سويسريّ- إلى العاصمة البولنديَّة “وارسو”، ليحوِّل شاحنته البريديَّة إلى “متحفٍ بلا معرض”، وهو منصة متنقِّلة قدَّمت فَنَّانين ذوي أعمال عالجت مفاهيم العدم بكل ما يحمله المصطلح من معنى. ورجعت بي المحادثات بيننا إلى الفترة التي كنت أكتب فيها أطروحتي للدكتوراة حول حركة الكاثار المسيحيَّة وثُنائيَّة العقل والجسد في العصور الوسطى. حيث إن فهم العدميَّة أساسيٌّ لاستيعاب فِكْرة عِلْم الكَوْنيَّات -الكوزمولوجيا- لدى الكاثار. ولم تَعْد هناك مصادر كثيرة موجودة بعد عن الكاثار. وإن الأُطروحات الكاثارية ضد هذه الهرقطات -كما تفعل سجلات محاكم التفتيش كذلك- تسمح لنا أن نُعيد تصوُّر الأساطير التي تعطينا لمحة بأبسط طريقة حول: كيف فَهَمَ الكاثريون كلًا من أصل العَالَم ونشأته؟
أتذكَّر قبل عشرين عامًا، حيث كنت زميلة أبحاث في أوكسفورد، التقيت بالفيلسوف “ليسزيك كولاكوفسكي”، وأمضينا وقتًا طويلًا نتناقش حول العدم، نظرًا لاهتمامه بحركات الانشقاق الدِّينيَّة. وكنا في الحقيقة مهووسين بها، لكن من منظورٍ مختلفٍ لدى كلينا . فتحدَّث عن أصل الشَرّ ووجود ولا وجود الله. أما أنا فكان اهتمامي ينبع من المنظور العِلْميّ، وفي العدم قبل نظرية الانفجار العظيم وخلق الكَوْن. تخيَّلتُ أن الثقوب السوداء قد تلعب دورًا في خلق أكْوَان مختلفة وأننا نعيش في واقعٍ متعدد الأبعاد والأكْوَان. أفتقد هذه المحادثات حينما كنا نتجوَّل في أرجاء الزمان والمكان وفي النهاية نُقِرُّ أننا لا نعرف شيئًا عن أي شيءٍ بالفعل.
وبعد محادثاتي مع أندريس حول العدم، بزغت رؤيا للَوْحَة. بدأتُ بالعمل باستخدام اللَّوْن الأبيض الزيتيّ مخلوطًا مع اللَّوْن اللؤلؤيّ لإعداد خلفية اللَّوْحَة. لا أستطيع أن أفَكِّر إلا بالعدم ووجدت نفسي مرَّة أخرى أبحث عنه في الوقت الذي كنت أرُشّ فيه آلاف النقاط البيضاء والشَّفَّافة في الأسفل لإعداد لَوْحة أُحادية اللَّوْن الأبيض.
تأمُّلتُ اللا شيء أو العدم لأفهمه بشكلٍ كامل. قرأتُ نظريات فَلْسَفيَّة مختلفة، لكن لم يكن لأيٍ منها وَقْع على أفْكَاري. توقَّفت بعد ثلاثة أسابيعٍ من العمل المكثَّف والبحث، وعلَّقتُ اللَّوْحة على جدارٍ أبيضٍ. لم يكن لأيٍ منها معنى، ثُمَّ مررتُ صدفة بمقالٍ لروبيرت كارتر عن “ميستر إيكارت“، “ونيشيدا كيتارو“. كنت متحمسةً للرجوع إلى كتابات إيكارت، لكن الأهم من ذلك أنني كنت سعيدة لاكتشاف فيلسوفٍ يابانيٍّ، والذي ألهمني للقراءة أكثر عن العدم وعن الوعي فيما بعد.
وفي هذه المرحلة، حيث لا شيء مما قرأته أجاب عن الأسئلة التي لا زالت لدي حول اللا شيء في ذلك الوقت، نزعتُ اللَّوْحَة عن الحائط ورسمتُ حقلًا من النقاط الزرقاء والفِضِّيَّة أسفل اللَّوْحَة، وسميتُ اللَّوْحَة بـ”اللا شيء”، لكن فشلتُ في عقلي أن أفهم هذا المصطلح. ولا تزال اللَّوْحَة كمحاولةٍ لي لاستيعاب هذه الفِكْرة.
يأتي الإلهام عندي من مصادرٍ شتّى، لكن الطبيعة أكبرها، والتي أفهمها أنها كل شيءٍ مع كل قواها وسيرورتها انطلاقًا من أصغر جزيء حتى الكَوْن الفسيح. أعتبر فَنّيّ كنتيجةٍ للعَلاقة مع الطبيعة، حيث أُجسِّد اللا مرئيّ في المرئيّ. وأنا متأثرة كثيرًا بالفَلْسَفة والعلوم. ورغم أنني لست واعية بشكلٍ كاملٍ به، وخبرتي الحياتيَّة والأشياء أو اللَّحظات الصغيرة والأفْكَار التي تبادلتها أحيانًا ما تلعب دورًا كبيرًا في فَنّي، رغم أني لست واعية بذلك تمامًا. غير أن اللا شيء يشغل حيِّزًا مميزًا في عقلي ومجالاته مهمة في عملي الإبداعيّ. وكل لَوْحة بالنسبة لي هي لغز يحتوي على بذرة من عَالَم آخر من السُّطُوع، وارتداد صدى من المنطقة المُقدَّسة للا شيء والتي تضمّ رسالة مُشفَّرة، وقصة سِريَّة متروكة، لنَفُكَّها أنا والنَّاظِرون.
جوانا بوركوفسكا: فَنَّانة تجريديَّة تقطن وتعمل في نيويورك ووارسو. تحمل درجة الدكتوراة في العلوم السياسيَّة من جامعة جاجيلونيان. نشرت كتابها بعُنْوَان "الكاثار: صراع حول ثُنائيَّة الرُّوح والجسد في العصور المتوسطة" عام 2006. تركت منصبها الأكاديميّ عام 2007 لتطوير عملها الفَنّيّ. وتَعْرِض أعمالها دوليًّا منذ عام 2009 وفي العديد من المجموعات الخاصة والمؤسسيَّة. واختتم معرضها الفرديّ الأخير “في عَالَم الرَّسْم البطيء” في المتحف الوطنيّ في شتشتين في بولندا. وكان لديها عرض ثُنائيّ مع "ساندي سلون" في نيويورك في مؤسَّسة كوسيياسكو عام 2021.
إعلان
