فلسفة اللغة: اتجاهاتها المعاصرة ونظرة إلى مستقبلها (مترجم) |2|
هذا الجزء الثاني المتمم لمقال فلسفة اللغة يستعرض فيه الكاتب بشيء من التفصيل الاتجاهات المعاصرة في هذا المجال والنظرة الاستشرافية إلى مستقبله.
4- المجالات الرئيسة في فلسفة اللغة المعاصرة:
بعد عَمليّ كواين وويتجيستاين الإبداعيّيَّن في منتصف القرن الماضي، تفرّعت أغلب الآراء في الحقل المعاصر إلى قسمين، وهما: تلك الآراء المؤكدة على شروط الصدق للجمل في نظريّة المعنى، وتلك التي تؤكد على الاستخدام. تُتابع نظريات الصدق الشرطيّ التحليل الذي وضعه كلّ من: فريج، وكارناب، وتارسكي، ضاربةً بعرض الحائط الافتراضات الراديكاليّة للوضعيّة. في حين تأخذ نظريات الاستعمال ونظرية الأفعال الكلاميّة بتأكيد ويتجينستاين على السياق بحذافيره. سنلقي في هذا القسم نظرة على كل من هذه القضايا:
أ. نظريات الصدق الشرطيّة في المعنى:
يشترك معظم فلاسفة اللغة العاملين في المنهج التحليليّ مفهوم فريج وهو أنّنا نعلم معنى كلمة في الجملة إذا علمنا الدور الذي تلعبه في الجملة ونعلم معنى الجملة إذا علمنا الأحوال التي تكون فيها صادقة؛ حيث دافع ديفدسون ولويس عن هذا المنهج ووقفوا بصفتهم نقطة تحوّل في عملية تطوره. تبدأ نظريات الصدق الشرطيّة عامة بافتراض أنّ شيئًا ما هو لغة أو تعبير لغويّ إذا كانت أجزاؤه المهمّة تُمثّل حقائق العالم. فتمثّل الجمل حقائق أو أوضاع شؤون العالم والأسماء تعود على الأشياء، وهكذا دواليك.
ينصبّ التركيز في نظرية المعنى على الجمل، لأنها تضع الوحدات الأساسيّة للمعلومات. فعلى سبيل المثال، إن نطقنا باسم جون كولترين لا يعني شيئًا حتى نشير إلى أحدهم ونقول: “هذا هو جون كولترين” أو نؤكّد قائلين: “ولد جون كولترين في نورث كارولينا”، وهكذا. إنّ النظرة إلى الجمل بوصفها الوحدات الأساسيّة للمعنى تتلاءم مع مبدأ التركيبيّة، وهو المبدأ القائل بأنّ الجمل تتألف من عدد محدود من العناصر البسيطة يمكن إعادة استخدامها وإعادة توفيقها بأساليب جديدة طالما أننا نفهم معاني هذه التعابير الأصغر من الجملة، بوصفها إسهامات لمعاني الجمل. ربما نفهم الأسماء وتعابير الإحالة الأخرى على أنّها محدداتٍ لمراجعها التي تنسب إلى بقيّة الجملة. لقد كانت نظريات الصدق الشرطية جذّابة لأولئك الذين يفضّلون علم الدلالة الطبيعيّ والتبسيطيّ الذي لا يحتكم إلّا إلى العالم الطبيعيّ لتوضيح المعنى. وتم طرح التفسيرات ذات الطابع الواقعيّ في أعمالٍ فلسفيّة مختلفة مثل: إيفانس “Evans 1983″، وديفيت 1981 وديفيت وستارلني 1999.
تم توجيه مزيد من الانتباه في هذا المجال في الخمس وعشرين سنة الأخيرة إلى نظريات الإحالة، وذلك بطرح أهمية توضيح إسهاماتها للتفسيرات النظرية للصدق. ونُسب إلى فريج الرأي القائل بأنّ اسم العلم هو وظيفة مجموعة الأوصاف، إذ يبحث مثل كثير من الفلاسفة عن تفسيرات الصدق الشرطيّة لتضمين مثل هذه الأوصاف في شروط الصدق للجمل، كوسيلة لتوضيح المرجع. وعلى الرغم من ذلك، بدأت موجة جديدة من الاهتمام بالأشكال المباشرة للمرجع بالظهور في السبعينات، واشتعل الحماس لهذا المنهج في أعمال مختلفة مثل: التسمية والضرورة لكريبتك التي نُشرت عام 1980، وسلسلة من المقالات التي نشرها هيلاري باتنوم بين عاميّ 1973 و1975 والتي هاجم فيها المبدأ القائل بأنّ عبارات الهويّة تُعبّر عن المترادفات التي تعرف بالقبليّة في مقدمتها. فإذا قدمنا، نحن أو أيًّا كان، المصطلح [أرسطو] ويشترط أن يكون مؤلف كتاب أخلاق نيكوماشيا ومعلّم الإسكندر الكبير وغيره فإنه يبدو معروفًا قبليًّا أنّ ما ذكرناه صادق بالنسبة لمرجع هذا الاسم، حيث أنّ المرجع هو الشيء الذي يتضمن كافّة أو معظم الأوصاف التي تعبّر عن معنى ذلك الاسم. ولكن إذا اكتشفنا أنّ كل هذا كان كذبًا فيما يتعلق بشخص يُدعى أرسطو فهل هذا يتضمن عدم وجوده أو أنّ شخصًا آخر يُدعى أرسطو؟ وكثير من هذا نفسه قيل في مصطلحات الأنواع الطبيعيّة، فنأخذ الحِيتَان على أنها من الأسماك إلَّا أنّ هذه الحيتان تملك حلمتين لدرِّ الحليب ورئتين، فهل نستطيع القول بعدم وجود الحِيتان؟
أشار بيتنوم وكريبك كبديل إلى أنّ أسماء الأعلام والأنواع الطبيعيّة والأوصاف -كالطريق المربع بطول 289- هي محدّدَات صلبة أو تعابير تعود على الأشياء أو الأنواع نفسها في كلّ الحالات دون تلك العلاقة التي يتوسطها شكل من أشكال المحتوى الوصفيّ. أما الأوصاف الأخرى، فهي مرتبطة بتلك التعابير، فنقول بأنّ أرسطو كتب أخلاق نيكوماشيا أو تلك الحيتان هي ثدييّات وهكذا.. ولكنّ مَرجِعها ثابت وقت مقدّمتها وأنّ استخدامنا هو الذي يحفظ هذا المرجع وليس المحتوى الوصفيّ. إنّ الأوصاف المرتبطة بالمحدّد الصارم مثل مؤلف أخلاق نيكوماشيا وغيرها هي قابلة للمراجعة. ينظر إلى هذه القابليّة للمراجعة بوصفها شكلًا من الخارجيانيّة في علم الدلالة، أي أنّ المعنى لا يتمّ تحديده بالكامل بالحالات السيكولوجيّة للمتكلّمين الذين يستخدمونها وكما قال باتنوم ساخرًا: “المعنى يُعرف فقط داخل الأفهام”. وتتضمن المؤلفات الحديثة الجديرَة بالذكر في هذا المجال، كيتشر وستانفورد [2000]4، وسومز [2002]5، وبيرجر [2002]6. وقد أشارت تفسيرات عديدة إلى أنّه في حين تملك المحدّدات الصلبة شيئًا من المعقوليّة في ذاتها، فإنّ العناصر التبسيطيّة لهذه النظريات تتركنا نتخبّط في تفسير مباشر وغير معقول لابدَّ من تحسينه أو استبداله.
ب. المعنى والاستخدام:
لم تعد نظرية التحقّق مجدية بعد كواين، ولكن عمل مايكل داميت في المعنى والمنطق أعاد إحياءها بالإضافة إلى عمله التفسير لفلسفة فريج. وشارك داميت الاهتمام الوضعيّ مع الأهميّة الإدراكيّة لعبارةٍ ما، والتي فسّرها على أنّها الاهتمام الحقيقيّ لفريج في حديثه عن المعنى في الدرجة الأولى. يَفهم الكثير فريج على أنّه أفلاطونيّ في نظرته إلى المعنى إلّا أنّ داميت تساءل عن الحاجة إلى الامتدادات الأنتولوجيّة ومعقوليّتها كَموضحة للحقائق الدلاليّة. إنّ وضعية داميت أقل إنتاجًا للشحِّ الأنتولوجيّ القبليّ من كونه متابعًا للمواضيع التي تمت بصلة لويتجينستاين. وجادل داميت بأنّ نموذج المعنى هو نموذجٌ لفهمنا عند معرفتنا لهذا المعنى ونستطيع التعبير عن هذا الفهم بوضوح، إلّا أنّه لا يمكن تضمين معيار للوضوح في عناء الانكفَاء المجرّد. انظر مسألة لغة ويتجينستاين الخاصّة في هذا الصدد. وعليه، فلابدّ أن تكون المعرفة التي تُؤسّس فهمًا هي معرفة ضمنيّة ويمكننا أن نَنسِب هذه المعرفة عندما يكون لدينا شيء من المعايير التي يمكن ملاحظتها لفعل ذلك. وستكون هذه المعايير موضع استعمال الجمل والتعابير. ففي حين يمكن لمزيجٍ من الاستخدام والتحقّق أن يكون صَالحًا للجمل والأوضاع التي تحافظ عليها، فإنّ عدم صلاحها لهذه الجمل هو موضوع مختلفٌ تمامًا. يمكننا أن نفهم معنى جملة لا تحافظ على شروط الصدق فيها على معناها أو لا يمكن التحقّق منها عمليًّا مثل قولنا: “كلّ عدد زوجيّ هو مجموع عددين أوليّيّن”. إنّ معرفة شَرط ما للمحافظة على الجُملة ومعرِفة أنّ حالة ما تكون إحدى خصائصها هما أمرين منفصليّن. لذلك فإنّ المعنى لا يمكن التحقق البسيط منه بوضع أحدهم في ظرف معيّن ونرى ما الجمل التي يستطيع نطقها. توسّع داميت في تفسيره عن طريق تضمين الظروف مثل توفير نتائج استدلاليّة صحيحة للجملة واستخدام جديد وصحيح للجملة وأحكام حول الدليل المحتمل أو الكافي على صدق الجملة أو كذبها. ودعم ذلك بأنّ صيغة من الشروحات الموضّحة ذاتيًّا ستدعم هذه المتطلبات وتسمح لنا باستخراج كافّة مميزاتِ الاستخدام اللغويّ والمعنى رغم أنّ هذه تبقى نقطة الخلاف لكثير ممّن يشكُّ في فصول كهذه أو الأساس بشكل عام.
قراءات أخرى لقضيّة المعنى والاستعمال:
لم تكن قراءة داميت لتأكيد ويتجينستاين على قضيّة الاستعمال تعدو وحدها في هذا المضمار؛ إذ سار على نهجهِ سيلارز 1967[1 ومنظّرين مثل: هارمون 1982، و1987[2، وبلوك 1986، و1987[3، وبراندوم 1994[4؛ إذ شارك كُلّ هؤلاء في تحديد دور مفاهيميّ أو استدلاليّ في علم الدلالة الذي يجسّد فهمًا لمعنى الجمل بصفته فهمًا للاستدلالات التي يستشفّها من الجملة أو من خارجها. وقد أخذ بلوك وهارمون هذا كأساس لتفسير وظيفيّ لمحتوى عقليّ في علم النفس. لم يشارك براندوم في استراتيجيات سببيّة توضيحيّة؛ إذ أكدّ بدلًا من ذلك على البعد المنطقيّ للكفاية اللغويّة وأهميّة الاستدلال لتفسير كهذا. إنّنا ندرك معنى جملةٍ ما عند فهمنا لجمل أخرى بصفتها مرتبطة بتلك الجملة، ونستدلّ فيها ومن خلالها في سياق الإجابة وطلب الأسباب للأفكار التي نختلقها. إنّ امتدادًا ملحوظًا لهذا العمل يوفّرُ تفسيرًا معياريًّا قويًّا في المعنى بما يتناقض كليًّا مع التبسيط السببيّ المبيّن أعلاه في عمل لانس وأوليري هوثورن المنشور عام 1987[5.
ج. نظرية الأفعال الكلامية والبرجماتية:
كانت أعمال ويتجينستاين اللاحقة هي الشرارة التي أشعلت الاهتمام بالأبعاد السياقيّة للاستخدامات اللغويّة من بين الفلاسفة البريطانيين الذين عملوا بعد موته بفترة قصيرة. بيد أنّ العدد ازداد مع مناهج اللغة البسيطة والمضمَحلّة عند أتباع ويتجينستاين الذين لم يروا أيّ دور للتفسيرات النظريّة في وصف اللغة على الإطلاق. واختار البعض الآخر الانخراط فيما أصبح يُعرف لاحقًا بنظريّة الأفعال الكلاميّة التي كان روّادُها، مبدئيًّا، جون أوستن وجرايس وسيرل. بحث هؤلاء الفلاسفة عن تفسير للُّغة تكون فيها الجمل أدوات لعمل الأشياء بما فيها تصنيف للاستعمالات التي تُوضع فيها اللغة. فبينما يبقى المعنى التقليديّ أمرًا مهمًّا، امتدَّ تركيز مُنظري الأفعال الكلاميّة ليشمل اختبارًا للطرق المختلفة التي تلعب فيها التعابير والجمل المختلفة دورًا مهمًّا في تحقيق أهداف متنوّعة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون الجملة 16 تقريرًا:
16) الجوُّ مشمسٌ في الخارج.
أو تذكيرًا بعدم أخذ المظلّة، أو كذبةً إذا لم يكن الجوُّ مشمسًا، أوتهكّمًا، أوالكثير من الأمور اعتمادًا على السيناريو الذي تُستعمل به. وحتى نرى بوضوح طريقة تعامل مُنظّري الأفعال الكلاميّة مع هذه القضايا، لننتبه إلى أحد أهمّ مرتكزاتها وهو الفرق بين علم الدلالة وعلم استعمال اللغة، حيث نقول أنّ المعلومات الدلاليّة متعلّقة بالتعابير اللغوية مثل الكلمات والجمل. وأمّا المعلومات السياقيّة، فهي متعلقة بالتعابير المنطوقة والحقائق المحيطة بها. وعليه، فإن علم استعمال اللغة لا يلتفت إلى خصائص مثل الصدق أو مرجع الكلمات والتعابير وإنّما يلتفت إلى معلومات حول السياق الذي يُنشئ فيه المتكلم ما ينطقه وكيف سمحت هذه الأوضاع للمتكلّم أن يعبّر عن فكرة بدلًا من الأخرى. يؤدّي هذا العنصر السياقيّ في علم استعمال اللغة إلى اهتمام خاصّ بالأهداف التي ربما يحققها متكلّم من نطق جملة بطريقة محدّدة في ذلك السياق ولماذا فعل هذا. وهكذا، فإنّ ما يعنيه متكلم في قول شيءٍ ما يتم توضيحه من خلال التأكيد على نوايا ذلك المتكلّم وهي أن يكشف المتحدّث أنّه يريد من المستمع أن يستجيب له بطريقة معينة فيستجيب المستمع له. وعلى الرغم من ذلك، ربما يكون هناك حالات لا تكون فيها لهذه المقاصد صلة بالجملة. فمثلًا، يمكنني القول: “إنّها تمطر في الخارج” بنيّة أن أجعلك تأخذ مظلّتك ولكن ليس هذا ما تعنيه الجملة. ويمكنني القول كذلك: “تتنبأ النشرة الجويّة بهطول المطر في هذا المساء” بهذا المقصد إلا أنّ هذا لا يقتضي أن يكون للجملتين المعنى ذاته. تسمى المقاصد التي يعتمد نجاحها كليًّا على إدراك المستمع للمقصد الحقيقي ذاته المقاصد التحقيقيّة. وأمّا تلك التي يعتمد نجاحها كليًّا على جعل المستمع يقوم بعمل ما بما يتجاوز المحتوى الدلالة لما تمّ قوله فتسمى بالمقاصد التأثيريّة. ولابدَّ أن يتحقّق المقصد التأثيريّ من خلال المقصد التحقيقيّ. فعلى سبيل المثال، إنّ جعلك واعيًّا بمقصدي وهو أن أجعلك تدركُ شيئًا ما عن الطقس يقودك إلى التفكير بمظلتك وأخذها.
العناصر الفرعيّة الأربعة للأفعال الكلاميّة:
يميّز منظّرو الأفعال الكلاميّة بوك وهارنيش الأفعالَ الكلاميّة بأربعة عناصر فرعيّة وهي كما يلي:
1 – الأفعال المنطوقة مثل التعابير الصوتيّة أو كتابة الكلمات والجمل المنطوقة.
2 – الأفعال الافتراضيّة وهي الإحالة إلى الأشياء والإخبار بخصائصها والعلاقات فيما بينها.
3 – الأفعال التحقيقيّة والتي يتفاعل بها المتكلّمين مع متكلّمين آخرين فتشكّل التعابير المنطوقة بها حركات في ذلك التفاعل مثل الوعود والأوامر.
4 – الأفعال التأثيريّة وهي التي يُحدِث بها المتكلّمون أو يحققون تأثيرًا معيّنًا في الآخرين كإقناع شخصٍ ما.
ويضيف منظّرون، المقصد المعنويّ والمقصد التواصليّ إلى هذه القائمة لتأكيد فهمٍ مشتركٍ للمعاني التقليديّة المرتبطة بالكلمات والذاتيّة المشتركة للأفعال الكلاميّة. وكما تتضمن هذه الأصناف، فإن نظريّة الأفعال الكلامية تعتبر جزءًا من دراسةٍ أعمق للمميّزات الكلاميّة وجوانب التواصل الاجتماعيّة للخطاب من الفروع الأخرى لفلسفة اللغة. ولهذا السبب، تُوفّر مواضع تواصل بين التفسيرات الدلاليّة المعقّدة والبحث التجريبيّ لعلماء الاجتماع. وأشار جرايس إلى أنّ الفلسفة لابدَّ أن تدرس الأساليب التي يستخدمها المتكلّمون لتجاوز ما تنطقه تعابيرهم بشكل ملحوظٍ إلى ما تتضمّنه سياقيًّا.
التضمينات السياقية:
وعندما ندرس ما تتضمنه التعابير سياقيًّا فإنّنا ندرس الطرق التي تدعو بها الأشياء التي يقولها متحدّث ما متحدّثًا آخر لمجموعة أكبر من النتائج ولكن ليس بالمعنى المنطقيّ للاقتضاء أو بالموضوع الشكلي للمعاني التقليديّة المَحضة. قسّم جرايس هذه المتضمّنات إلى قسمين كبيرين، وهما: التضمينات التقليديّة والتضمينات التحادثيّة. أما التضمينات التقليديّة، فهي التي تختصُّ بالتعابير المنطوقة المعتمدة على المعاني التقليديّة للكلمات المستخدمة ولكن ليس بالطرق المنطقية المألوفة من الاقتضاءات المنطقيّة البسيطة. فعلى سبيل المثال، لنتأمل الجمل الثلاث التالية:
17) مايكل معجب بفريق البيسبول أوريولز ولكنّه لا يقطن في بالتيمور.
18) مايكل معجب بفريق البيسبول أوريولز ولا يقطن في بالتيمور.
19) إنّ كون مايكل معجب بفريق البيسبول أوريولز أمر غير متوقع بسبب عدم إقامته في بالتيمور.
إنّ الجملة 19 متضمّنة في الجملة 17 وليس في الجملة 18. إنّ الفشل ليس فرقًا فيما يجعل الجملتين 17 و18 صادقتين وإنما في الطريقة التي تسمح التقاليد والمبادئ الكلاميّة بها للمتحدث بحمل معلومات كهذه؛ إذ يستعمل المتحدّثون كلمة “لكن” للتأكيد على التناقض والمفاجأة كما فعل المتكلّم في الجملة 17. وأمّا التضمينات التحادثية، فيشار إليها اعتمادًا على المعايير والافتراضات التي يتعاون المتكلّمون في المحادثة معًا، وفقًا لجرايس؛ إذ يقترح أربعة معايير لهذا وهي: معيار الكميّة، بأن تجعل مساهمتك غنيّة بالمعلومات بحيث لا تتجاوز الحد المعقول؛ ومعيار الجودة، بأن تجعل مساهمتك صحيحة؛ ومعيار الارتباط وهو بأن تكون مساهمتك متعلّقة بموضوع الحديث؛ وأخيرًا معيار الأسلوب وهو بأن تكون مساهمتك واضحة غير عصيّة على الأفهام. ولنفهم كيفية تطبيق هذه المعايير لنتأمل أحد أمثلة جرايس:
20) لا يبدو بأنّ سميث لديه صديقة.
21) لقد كان يتردّد على نيويورك في الآونة الأخيرة.
لنتخيّل محادثة بين شخصين؛ حيث يقول أ الجملة 20 ويقول ب الجملة 21. فإذا افترضّنا أنّ ب يتّبع المعايير المذكورة أعلاه، فإنّ ذلك يتضمن أنّ سميث لديه صديقة في نيويورك. أمّا إذا لم يكن الأمر كذلك، فلا يمكن للمتكلّمين أن يتعاونوا فيتفكّك التواصل؛ لأنّ ب يقول جملة خاطئة أو غير متعلّقة بالموضوع. وأكّد جرايس على أن التضمينات التحادثية يمكن دراستها بتوفر المعلومات السياقية وخلفية عن موضوع الحوار بالتزامن مع المعنى اللغويّ لما قد قيل واتّباع المتكلّمين للمعايير التعاونيّة الموضّحة أعلاه. إن كثيرّا مما كُتب في التضمينات التحادثيّة يحتوي محاولات لتقديم شيءٍ جيّد لهذا المفهوم؛ فكثير من الفلاسفة العاملين في هذه الجوانب من علم استعمال اللغة يتوجّسون من أنّ هذه المعايير لا تكفي كتفسيرٍ لهذا التضمين. ورغم ذلك، ننصح القرّاء بالرجوع إلى ديفيس 1998 Davis 1998 لمعرفة آخر الاعتراضات على تفسيرات جرايس الكلاسيكيّة. إنّ الاهتمام بشكليّ التضمّن لفت انتباه الفلاسفة إلى قضايا الاستلزام أيضّا؛ إذ كما يشير الاسم، فإنّ مناقشة هذا الموضوع تَركّز على المعلومات المطلوبة كخلفيّة للوصول إلى أشكال متنوعة من الخصائص المنطقيّة والكلاميّة. والمثال شائع الاستخدام على هذا الموضوع هو: “هّلا توقفت عن نهبِ متاجر الخمور؟” يستلزم أنّك كنت تنهب متاجر الخمور. إنّ التضمينات في كلا الشكلين تتضمن أشكالًا عِدّة من الاستلزام مثل التضمّن التقليديّ لكلمة لكن في الجملة 17 يستلزم قضية مكان إقامة المعجبين بفريق أوريولز. كما أنّ كثيرًا من العمل في علم استعمال اللغة قد تمّ استخدامه لوضع نماذج الاستلزام في المحادثة. ويبقى السؤالان اللّذان يفرضان نفسهما بقوّة في هذا الصدد هما:
1) كيف تم تقديم أو إطلاق الاستلزام في الجملة بحيث تلعب دورًا فيها؟
2) كيف امتدّ الاستلزام من عبارات أو أجزاء من الجملة إلى جمل ذات مستوى أعلى؟
إنّ منشأ هذا العمل هو لانجيندوين وسافين (1971 Langendoen and Savin (1971 وأُلّفت الكثير من الكتابات على ضوئه في علم اللغة وعلم الدلالة الصوريّ.
5- اتجاهات مستقبليّة وجدالات مُحتدِمة:
رغم أنّ التحليل اللغويّ لا يقود الفكر في الفلسفة التحليليّة كما كان في القرن العشرين إلا أنّ سقفه يظلُّ عاليًا بوصفه مجاًلا مستمرًا في تطوره. وهناك اهتمام كبير بالتوازي بين محتوى التعابير المنطوقة ومساهمة هذا المحتوى للحالات العقليّة كما كان الحال في بواكير الفلسفة التحليلية لكن كثيرًا من علماء الإدراك خرجوا عن المعتقد التحليليّ الكلاسيكيّ القائل بأنّ للاعتقادات جملًا رمزيّة كالمحتوى، وحذَوا حذو رومل هارت وماكليلاند في اتجاهاتهما؛ حيث تبنّى كثير منهم “الروابطيّة” وهو اتجاه يؤكد على التفاعل الديناميكي بين مجموعاتٍ ضخمة من الإشارات تمامًا مثل الخلايا العصبية في الدماغ كنموذجٍ للإدراك. وعليه، فإنّ التفكير لن يكون عمليّة رمزيّة شبيهة بالمونولوج الداخلي، وإنّما سيتم هدم مجال التفسيرات التقليديّة للغة والمعنى. ننصح القارئ بالرجوع إلى تامبرلين (1995 Tomberlin 1995) لأخذ فكرة عن هذا المجال وإلى تشيرشلاند (1995 Churchland 1995) للقراءة عن الاعتراضات عليه. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الدّفاع عن مناهج العمليّات الرمزيّة الأكثر تقليديّة تم تطويره بشكل ملحوظ في عمل فودور ولابوري الذي نُشر عام 1999، وإتمامها بتحدّيات أكثر راديكاليّة للعمليات الرمزيّة على شكل نظريّة الأنظمة الديناميكيّة. لقد اهتمت معظم الأعمال المؤخّرة في فلسفة اللغة بحساسيّة السياق في التعابير والجمل؛ حيث تمّت قيادة هذا بدور ليس بسيطًا بتأكيد متزايدٍ على حساسيّة السياق في الإيبيستمولوجيا. وقد تمّ التأكيد بشكل أكبر على السياق في الخمسين سنة الأخيرة من خلال الاستخدام ونظرية الأفعال الكلاميّة؛ حيث ظهر البعض مؤخرًا في صفّ تأثير السياق بصفته المهيّمن في اللغات الطبيعيّة. لم يجادل كابيلين ولابوري في تأثير بعض الكلمات والجمل سياقيًّا وإنَّما جادلا بدلًا من ذلك بفكرة الحدّ الأدنى وهو الرأي القائل بأنّ هذه الكلمات والجمل قليلة نسبيًّا وهي أصناف مألوفة مثل الضمائر والكلمات التأشيريّة؛ إذ يوفّقون بين هذا وبين عمل جديد في محتوى الأفعال الكلاميّة ليدعم تحدّيًا ماديًّا لكثير من كبار الفلاسفة المعاصرين. إنّ هذا الحوار بين مناصري فكرة الحدّ الأدنى ومناصري السياق سيحيا في فلسفة اللغة خلال السنوات القليلة المقبلة.