فيلم parasite “طفيلي” .. العـيشُ في زمـن الـلَّاخُطَّة والـلَّابديل
مضى عامٌ بالتَّمامِ والكمالِ على عرضِ فيلم parasite “طفيلي“ للمخرجِ الكوريِّ “بونج جون هو”
الفيلمُ الذّي صَنعَ إنجازًا تاريخيًا غيرَ مسبوقٍ ويصعبُ تَكرارُهُ، فقد كانَ العرضُ العالميُّ الأوَّلُ لهُ ضمنَ فعاليَّاتِ الدَّورةِ الثَّانيةِ والسبعينَ لمهرجانِ كانَ السِّينمائيَ الدّوليّ، تحديدًا في الحادي والعشرينَ منْ مايو(آيارَ) منَ العامِ الماضي، واستطاعَ أنْ يَحصُدَ جائزةَ السَّعَفةِ الذَّهبيَّةِ بوصفه ِأوَّلَ فيلمٍ كوريٍّ جنوبيٍّ يَحصدُ تلكَ الجائزةَ.
واستطاعَ أيضًا أنْ يحصُدَ العديدَ منَ الجوائزِ العالميَّةِ مثلَ: جائزةِ البافتا وجائزةِ الجولدن جلوب وجائزةِ السيزار وجوائزَ أخرى متنوعةٍ؛ لكنْ يبقى الإنجازُ الأهمُّ هو؛ حصول فيلم parasite على أربعِ جوائزَ أوسكارٍ بوصفهِ أحسنَ فيلمٍ أجنبيٍّ، وأحسنَ سيناريو أصليَّ، وأحسنَ مُخْرِجٍ، وأحسنَ فيلمٍ، في سابقٍة تاريخيَّةٍ لمْ تحدثْ منْ قبلُ، ليصبحَ أوَّلَ فيلمٍ غيرَ ناطقٍ بالإنجليزيَّةِ يَحصدُ جائزةَ أحسنِ فيلمٍ، ويكونَ الفيلمَ الكوريّ الجنوبيّ الأوَّلَ الذَّي يفوزُ بجائزةِ الأوسكارِ لأحسنِ فيلمٍ غيرِ ناطقٍ بالإنجليزيَّةِ.
الفيلمُ منْ إخراجِ بونج جون هو، وبطولةِ سونج كانج هو ،لي سون كيون، تشو يو جونج، وبعيداً عنْ لُغةِ الجوائزِ والأرقامِ فقدْ استطاعَ بونج على مدى عامٍ أنْ يُثيرَ بفيلمهِ العديدَ منَ القضايا والنّقاشاتِ، والتَّي أفرزَتِ المئاتِ منَ المقالاتِ النَّقديَّةِ والتَّحليليَّةِ ما بين مؤيّدٍ لطرحِ بونج ومعارضٍ لرؤيتِهِ النَّقديَّةِ للمجتمعِ الكوريّ الجنوبيّ.
يَحكِي فيلم parasite الذَّي كَتبَهُ بونج جون هو وساعدَهُ في كتابةِ السيناريو هان جين وون؛ حكايةَ عائلتَينِ مُتماثلتَينِ، تتكوَّن كلُّ عائلةٍ منْ أربعةِ أفراد، أبٍ وأمٍّ وابنٍ وابنةٍ. وأرادَ بونج السُّخريَةَ من خلال طرحِ هذا التَّماثُلِ ما بين الأسرتَينِ، فالحياةُ التَّي تحياها كلُّ أسرةٍ منهما بعيدةٌ تمامًا عن حياةِ الأخرى، فلدينا عائلةُ “كيم كي توك” المُعدمَةُ وأفرادُها بلا وظيفةٍ، وتعيشُ في قبو تحتَ الأرضِ، وتقتاتُ منْ طَيّ عُلبِ البيتزا لصالحِ أحدِ المطاعمِ، بينما تعيشُ الأسرةُ الأخرى “أسرة بارك” شديدةُ الثَّراءِ في منزلٍ فَارِهٍ ومُزوَّدٍ بكلِّ وسائلِ الرَّاحةِ.
يَنجَحُ الابنُ في الحُصولِ على وظيفةٍ وهي معلّمُ لغةٍ إنجليزيَّةِ خاصٌ لابنةِ السَّيدِ بارك، وذلكَ بعدَ تَوصيَةٍ منْ أحدِ أصدقائِهِ، ومُجرّدَ دُخُولِهِ تحتَ سَقفِ المنزِلِ يُخطّطُ الابنُ لإيجادِ وظيفةٍ لأختِهِ عنْ طَريقِ إقناعِ السَّيدةِ بارك بتوظيفِ مُعالجٍ نَفسِيّ لابنها الصَّغيْرِ والذَّي يُعانِي منْ نوباتِ صَرَعٍ مُتكّررةٍ، ويُوصِي ب “جيسيكا” – اسمٌ مُستَعارٌ للأخْتِ – وهي تَعملُ معالجةً بالفَنّ Art Therapist، والابنةُ بدورِِهَا تُخطّطُ لإيجادِ عَمَلٍ للوالدِ وهو سائقٌ خاصٌ للأسرةِ بعدَ تَدبيرِ مَكيدةٍ للسَّائقِ السَّابقِ تُؤدّي لفصلهِ منْ عملهِ، وأخيرًا يُخطَطُ الثَّلاثةُ لإحضارِ السَّيدةِ كيم إلى المنزلِ بنفسِ الأسلوبِ المُلتوي؛ لتعملَ مديرةَ منزلِ أُسرةِ بارك.
وهنا عندما تَجتمِعُ الأسرتانِ تحتَ سَقفٍ واحدٍ، تأخذُ الأحداثُ منحنًى أسرعَ وأعنفَ، ولا سيما عندما تَكتشِفُ أسرةُ كيم أنَّ هناكَ طُفيليًا أكثرُ بؤساً منهم يحيا في قبو سريٍّ تحتَ منزلِ أُسرةِ بارك، وهو زوجُ الخادمةِ السَّابقةِ، التَّي تأتي إلى المنزلِ في ليلةٍ مُمطرةٍ، لتَتصاعدُ الأحداثُ وتصبحَ أكثرَ عنفًا ودمويَّة منذ اكتشافِ الرَّجلِ الشَّبحِ الذَّي يعيشُ في قبو مُحصَّنٍ تحتَ المنزلِ، هذا التَّصاعدُ الدَّراميّ الذَّي يُؤَدّي لنهايةِِ صّادمةِِ ومأساويَّةِِ.
كوميديا بلا مهرجين.. تراجيديا بلا أشرار:
أثارَ فيلم parasite جدلًا كبيرًا حولَ تَنامي الفوارقِ الطَّبقيَّةِ في المُجتمعِ الكوريّ، فقدْ صوَّرَ بونج الهُوَّةَ الواسعةَ بينَ حياةِ طبقتَينِ مُختلفتَينِ دونَ تَجميلٍ أو تَزييفٍ، أو حتّى إدانةٍ لأحدِ الأطرافِ، كما وصفَ بونج نفسُهُ الفيلمَ قائلًا: بأنَّهُ كوميديا بلا مهرجِينَ وتراجيديا بلا أشرار، فهنا الكلُّ يحيا تحتَ سطوةِ اللَّابديلِ، أسرةُ كيم المُضطرّةُ للتَّحايُلِ حتَّى تّجدَ قُوتَ يومِها، وأسرةُ بارك التَّي تحيا حياةً مُرفَّهةً تَتسمُ بالاتكاليَّةِ والاعتمادِ على الأخرينَ، وهنا يبدو مُصطلحُ “طُفيليّ” مناسبًا للطَّرَفَينِ، ففي الوقتِ الذَّي تَجدُ الأسرةُ الفقيرةُ ثَغرةً للدُّخولِ إلى البيتِ ومُمارسةِ نمطِ حياةِ الطُّفيليَّاتِ، فإنَّ الأُسرةَ الغنيَّةَ أيضًا تُمارسُ حياةَ التَّطفُلِ منْ خِلالِ اعتمادِهَا على أُسرةٍ تَعملُ لديها وتَقُومُ بكُلِّ الأعمالِ التَّي تَتأففُ منها أسرةُ بارك وتَنظرُ إليها بدونيَّةٍ.
لذلكَ منَ العدلِ عدمُ اتّهامِ طَرفٍ على حسابِ الآخرَ، الكلُّ طُفيليٌّ بشكلٍ أو بآخرَ، أسرةُ كيم وأسرةُ بارك وحتَّى الخادمةُ السَّابقةُ وزوجُها، وقد صرَّحَ بونج ذاتَ مرَّةٍ في إحدى اللّقاءَاتِ الصَّحفيّةِ قائلاً:
“في خِضمِّ هذا العالمِ، منْ يَستطيعُ أنْ يُوجّهَ إصبعَ الاتِّهامِ إلى عائلةٍ مُكافحةٍ تَخوضُ معركةً منْ أجلِ البقاءِ، ويُطلِقُ عليهم لفظَ طُفيليَّاتٍ؟! ليسَ الأمرُ أنَّهمُ طُفيليّونَ منَ البدايةِ، فهمُ جيرانُنَا وأصدقائُنَا وزملائُنَا الذَّينَ تمَّ دَفعُهُمُ إلى حافَّةِ الهاويةِ”.
وظيفةُ المكانِ: عَمارةُ الخوفِ مقابلَ عمارةِ الحاجةِ:
ذَكرَ مُحررو مجلَّةِ “هيدجهوج ريفيو” في عددِها الخاصّ عنِ الخوفِ والصَّادرِ في خريف عام 2003:
“في غيابِ الاطمئنانِ الوجوديِّ، صرْنَا نقنعُ بالعيشِ في أمانٍ، أو التَّظاهرِ بالعيشِ في أمانٍ”.
الخوفُ كانَ محركًا رئيسًا للأحداثِ في فيلم parasite ، بدايةً منْ عمارةِ منزلِ أُسرةِ بارك والذَّي بناهُ مُهندسٌ مِعماريُُّ شهيرٌ وكانَ يَسكُنُهُ قبلَ الأسرةِ، ذلكَ المنزلُ الذَّي يشبِهُ القلعةَ والمُؤَمَّنُ جيدًا بالكاميراتِ والأبوابِ الالكترونيَّةِ، والقبو المهيَّئِ للحمايةِ منْ هجماتٍ مُحتملةٍ منْ عدوٍ مَجنونٍ مثلَ كوريا الشَّماليَّةِ، مرورًا بخوفِ الخادمةِ السَّابقةِ منْ انكشافِ سرِّها، أو خوفِ أُسرةِ كيم منْ فَضحِ تَحايُلِهمُ وكذبِهمُ.
استطاعَ بونج توظيفَ المكانِ بشكلٍ مُؤثّرٍ دراميًا ودافعٍ للأحداثِ، كاستخدامِ شكلَينِ مُختلفَينِ منَ العمارةِ الهندسيَّةِ؛ العمارةِ العفويَّةِ أو عمارةِ الحاجةِ والمُمَثَّلةِ في بيتِ أسرةِ كيم التَّي تَسكنُ قبوًا تحتَ الأرضِ وتُعاني منَ الحشراتِ والمُتَطفلِينَ والرّائحةِ التَّي لا تفارقُهُمُ دومًا، والعمارةِ الأُخرى والتَّي يُمكنُ أنْ نُطلقَ عليها مجازًا عمارةَ الخوفِ والتَّرهيبِ، منزلُ أسرةِ بارك المُحصِّنُ ضدَّ السُّرقاتِ والمُعتَدِينَ بأحدث ِوسائلِ المُراقبةِ ومُؤَمَّنٌ كذلكَ بقبوٍ خرسانِيٍّ ضدَّ هجماتٍ نوويَّةٍ مُحتَملةٍ.
المكانُ هُنا عنصرٌ مؤثرٌ في دراما الفيلمِ، فبيتُ الأسرةِ الغنيَّةِ كانَ ملجًأ لطفيليًّ شبحٍ، وأسرةٍ سعيدةٍ، وأسرةٍ مُتطفلةٍ، كلُّ هؤلاء تحتَ سقفٍ واحدٍ، ذلكَ المكانُ الذَّي صوَّرَهُ بونج بحرفيَّةٍ، حيثُ صوّرَ المنزلَ الفخمَ في شارعٍ صاعدٍ وعلى تَبةٍ عاليةٍ، يقابِلُهُ منزلُ أسرةِ كيم، القبوُ المُمتَلِئُ بالرَّوائِحِ الكَريهَةِ وتُغرِقُهُ مياهُ الفَيضَانِ، لأنَّ كلَّ الشَّوارِعِ تَنحدرُ إليهِ، وهو يَقبعُ في القاعِ.
وللحقيقةِ فقدْ بَرعَ بونج في توصيلِ فِكرَتِهِ القائمةِ على نقدِ الرأسماليَّةِ الحديثةِ التَّي تَسحقُ الفردَ والمجموعَ لصالحِ طبقةٍ بِعينِها، طبقةٍ فارغةٍ هَشَّةٍ تُبدي انبهارًا بتوافِهِ الأمورِ، وتَفترِضُ وجودَ عدوٍّ وَهميّ طوالَ الوقتِ، لابدَّ منْ إقصائِهِ بعيدًا والتَّمترُسِ خلفَ أبوابٍ مُحصَّنةٍ، وذلكَ للشُّعورِ بأمانٍ حتَّى لو بصورةٍ زائفةٍ، وفي حالِ غيابِ العدوّ المُحتَملِ، وهو هُنا كوريا الشَّماليَّةِ، نَفتَرِضُ وجودَ عدوٍّ آخرَ منْ نَفسِ الجنسِ ويَسكُنُ نفسَ المدينةِ التَّي نَسكُنُها، لكنَّهُ يَختلِفُ في سماتِهِ ورائِحَتِهِ التَّي تُميِّزُهُ، تلكَ الرَّائحةُ التَّي تَفوحُ منْ عَرباتِ المترو ومنَ الأقبيةِ المَدفُونَةِ تحتَ الأرضِ، والتَّي بدأَ بها الفيلمُ وانتهى أيضًا بتصويرِها غارقةً في الظَّلامِ دونَ أيّ أملٍ في التَّغييرِ.