عندما تكون الحياة رقصة!
قراءة في لوحة "رقصة الحياة" للنرويجي إدفارد مونش
عند النظر إلى التاريخ نجد أننا كلما اقتربنا من العصر الحديث ازدادت أساليب التعبير الإنسانيّة التي تميل إلى الرمزيّة؛ فالوسائل التقليديّة لم تعد قادرة على احتضان دواخل الإنسان التي باتت أكثر تعقيدًا وأصبح الإفصاح عنها يتخذ أشكالًا جديدة ومتفردة. يُعد الرسام النرويجي “إدفارد مونش” أحد رواد المدرسة الرمزيّة والانطباعيّة في الرسم، وكثيرٌ منّا يعرفه من خلال لوحته الشهيرة، فمثلًا لوحة “الصرخة” التي أصبحت واحدة من الأعمال الخالدة في تاريخ الفن كله. ولكن لدى هذا الفنان أعمالًا أُخرى لا تقل رمزيّة عن لوحته الشهيرة، من بينها اللوحة المعروفة باسم “رقصة الحياة”، وتعد هذه اللوحة جزءً من سلسلة لوحات أسماها مونش بـ “إفريز الحياة“.
تفاصيل لوحة “رقصة الحياة” بسيطة وواضحة للمشاهِد، فنحن نجد في وسط اللوحة رجلًا وامرأةً يرقصان، وبالنظر إلى كيفيّة رسمهما يبدو التفاف ثوب المرأة الأحمر حول أقدام الرجل وكذلك النظرة التي يوجهها كلٌ منهما للآخر أثناء الرقص أنهما يهيمان في عالم خاص بهما بعيدًا عمّا يحدث حولهما.
وعلى جانبيّ هذا الثنائي نرى عنصريّن أنثويّين، إحداهما وهي سيدة كبيرة متشحة بالسواد وتبدو على وجهها علامات الجد والصرامة وربما البؤس، فيما تبدو الأُخرى فتاة يافعة في ثوبها الأبيض كما لو أنها مقبلة باتجاه المشاهِد وتَظهر عليها علامات الإشراق والسعادة. أما تفاصيل المشهد الأُخرى فتتوزع بين مجموعة من الراقصين فنرى الرجال ببذلات سوداء والنساء بأثواب بيضاء، وأكثر هذه الثنائيّات قربًا نجده قُرب السيدة المتشحة بالسواد. أما المكان فهو شاطئ البحر وفي الهواء الطلق وكما يقول إدفارد مونش معلقًا على هذه السمة في سلسلة لوحاته:
“يتخلل هذه اللوحات جميعًا [سلسلة إفريز الحياة] خط الشاطئ المتعرج ومن خلفه البحر، فيما نرى الحياة تحت الأشجار وهي تمضي بكل ما فيها من التعقيد والحزن والفرح”.
ولو أمعنّا النظر قليلًا يمكن أن نلمح وردة بالقرب من الفتاة ذات الثوب الأبيض، وفي الأُفق نرى القمر وضوءه المنعكس والممتد على صفحة الماء. قام إدفارد مونش برسم اللوحة في عام 1899م، ويتضح من عناصرها أنه استلهم الفكرة من مذهب الرمزيّة في التعبير، فترمز الألوان في اللوحة إلى مشاعر مختلفة: الأحمر -مثلًا- يُمثل الحب والجذوة المتقدة للحياة -خاصةً عندما يخوض الإنسان تجارب كثيرة- جعلَ الفنانُ هنا الحبَ ذروتَها، ويمكن القول أن انغماس الثنائي في رقصهما ولامبالاتهما تجاه ما يحيط بهما يمثل أيضًا اندفاع الإنسان وانهماكه فيما تجره إليّه الحياة وما قد ينتج عن هذا الانهماك من الألم الذي قد يتبعه الإدراك.
وقد لا نحتاج إلى كثيرٍ من العناء في تفسير الأبيض الذي ترتديه الفتاة فهو رمز للإنسان في مقتبل العمر وإلى براءته ونقاء سريرته حيث لم يخبُر العالم بعد. يبدو وجه الفتاة مفعمًا بالشباب وعلى شفتيّها ابتسامة مرحة وفي عينيّها نظرة حالمة تجاه الثنائي الراقص، وهو ما يرمز إلى أحلام الصِبا التي تزخر بالخيالات والأوهام، كما ترمُز محاولتُها لالتقاط الزهرة إشارة إلى محاولتِها دخول تجربة الحب.
أما اللون الأسود فهو يرمُز إلى الحزن والوَحدة والموت، وهو ما يبدو واضحًا أيضًا في التعبير الصارم الذي نراه على وجه السيّدة التي ترتدي الفستان الأسود، وكذلك في رجوعها إلى الخلف قليلًا كما لو أنها تنسحب من غمار الحياة.
لا يمكننا أن نغض الطرف عن الثنائي الراقص في الخلف على يمين اللوحة، حيث تظهر لنا بشيءٍ من الوضوح ملامح الرجل الذي يميل بشدة على السيّدة التي تشاركه الرقص، إن معالم وجهه تُوحي بأنه يكاد ينقض عليها كما لو أن العلاقة بيّنهما قائمة على الشهوة، ولعل وجود هذا الثنائي في هذا الموضع من الصورة وبهذا الشكل (بين السيدة ذات الرداء الأسود والثنائي الراقص وسط اللوحة) يشير إلى تفاصيل تتخلل علاقات الرجال والنساء تأخذهم من الحب والعنفوان (الثنائي الراقص في الوسط) إلى الوحدة والعزلة والحزن (السيّدة المتشحة بالسواد).
إن “رقصة الحياة” ببساطة تفاصيلها تستدعي قراءات متعددة، فهناك قراءةٌ تَعد هذه اللوحة تعبيرًا عن تفاصيل من حياة مونش نفسه وتجاربه وعلاقاته مع عدد من النساء في حياته وهو ما قد يفسر كون الأنثى عنصرًا رئيسيًّا في اللوحة، فاللوحة ترمز إلى مراحل في حياة المرأة أكثر منها مراحل حياة الإنسان بصورة عامة.
ويُعزز هذه القراءة وجود صورة القمر وانعكاسه على الماء كرمز للخصوبة، كما لو أن مونش يشير إلى غموض المرأة بالنسبة للرجل في كافةِ أحوالها، وأن تعدد أوجه الحياة وتجاربها ما هي إلا صور لتعدد وجوه التجربة التي يخوضها الرجل مع المرأة وتقلباتها، وهو ما يمثل الحياة بكليّتُها بالنسبة للرجل. فيما لو كان مونش يعبر عن تجربته الشخصية في اللوحة أمرٌ يمكن تتبعه من خلال قراءة يومياته وكتاباته التي تشير إلى الكثير من لوحاته وتضيف إليها فهمًا آخر. إلا أن ما يجعل هذه اللوحة مميزة هو إمكانيّة التعبير عن معانٍ وأفكار تتجاوز التجربة الذاتيّة لتُعبّر عن التجربة الإنسانيّة ككل، وهذا ما يجعل من رقصة الحياة تحفة فنيّة خالدة.