حرية الرأي بين الواقع الافتراضي والمجتمع المصري
في البداية يجب عليّ أن أخبرك أيها القارئ العزيز ماذا أعني بحرية الكلام. أعني بحرية الكلام المعنى الفعليّ والاصطلاحيّ لـ حرية الرأي والتعبير، وتعريفه طبقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948م بالمادة (19) منه، والتي تنصّ على أنّ:
“لكلّ إنسان الحقّ في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحقّ في اعتناق الآراء دون أيّ تدخّل واستقاء الأنباء و الأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّ وسيلة كانت دون التقييد بالحدود الجغرافية”
ولكن للأسف لا يُظهر هذا النصّ القصد من وراء كلمة حريّة الرأي والتعبير بشكل واضح جليّ أكثر ممّا يُظهر أنماطًا تتداخل مع هذا المبدأ الهامّ، لذا فرض علينا الواقع إشكالية من نوعٍ مفرطٍ في الدقة هي تحديد معنى حرية الكلام (حرية الرأي والتعبير) لأنّ في سبر أغوار معنى ومفهوم ذلك المبدأ تبديدًا للكثير من الغموض الذي يدور حوله لدرجةٍ قد تصل في بعض الأحيان إلى تشويه وحجب الفهم السّليم لمضمون مبدأ حرية الكلام عن أذهان الناس. فحريّة الكلام تعني حرية الشخص في قول ما يريد بالصورة التي يرغب فيها، سواء كان بطريقة الكلام همسًا أو جهرًا أو صياحًا أو كتابة أو رسمًا أو غناءً أو بالفنّ بكلّ صوره وأشكاله، سواء بالوسائط العادية أو الإليكترونية، سلكية أو لاسلكية. بالتالي فإنّ إطلاق الحريات للناس في قول ما يشاؤون من أقوال وعبارات قد يعرّضنا لمشكلة أساسية تصاحب ذلك المبدأ وهي: ماذا لو قال الناس أقوالًا وعبارات حملت معاني السّبّ والقذف والتشهير؟
وما أهمية جعل الناس يقولون ما يريدون؟ أليس من الأفضل فرض رقابة عليهم لمنع استخدام ذلك المبدأ؟ لقد دافع أنصار الحرية عن وجهة نظرهم طوال عقود بأنّ حرية الكلام سمة أساسية لكلّ الأنظمة السياسية الديمقراطية في العالم، وأنّ غياب تلك الحرية يضع الدولة والمجتمع على منحدر زلق ينتهي حتمًا بالاستبداد والديكتاتورية، وأنّ ضحايا تلك الممارسات الديكاتورية أفدح بمراحل من ضحايا حرية الكلام والرأي حيث لا شيئ يساوى القتل والسجن والتعذيب.
كما أنّ حرية الرأي والتعبير ينتج عنها فوائد كسعادة شخصية للممارس لذلك الحقّ أو ازدهار المجمتع وانغماسه في نقاشات تسمح للمواطنين بالوصول لأكثر الآراء قربًا للصواب، ولا يجب ألا نشير هنا إلى كتاب المفكّر والفليسوف الإنجليزي جون استيوارت مل عن الحرية وإسهاماته الكبيرة في الدفاع عن مبدأ حرية الرأي والتعبير وطرحه عن سوقٍ حرٍّ للأفكار والآراء.
ولمّا فرض التطوّر التكنولوجي علينا التعامل من خلال هذا المبدأ في إطار من الحرية المطلقة عبر الإنترنت في مصر، وزاد ذلك ارتفاع عدد المصريين المنضمّين حديثًا لشبكات التواصل الاجتماعي خصوصًا بعد ثورة 25 يناير المجيدة، وعقب الدور الهامّ الذي لعبه الفيسبوك في التواصل بين الناس لتقييم تلك الممارسة من خلال الواقع الافتراضي والذي وفّر عدّة مميزات تدعم تلك الحرية بشكل قد يكون غير مقصود.
نجد ان القدرة على اخفاء هوية المستخدم قد اعطا بعض من الاشخاص قدرا كبير من الحرية في التعبير عن ارائهم و التواصل مع بعضهم البعض و نشر ارائهم سواء كان فكريا او سياسيا او حتى ميول جنسية معينة من التعبير عن ذواتهم من خلال استخدام اسماء مستعارة و قد وفر لهم هذا قدرا من الامن لهم بل وصل الامر ان حاول بعض اصحاب تلك الاراء البحث عن اعتراف بحقوقهم في ارض الواقع داخل المجتمع المصري الحالى في محاولات اقل ما يوصف بها انها محاولات يائسة باسة الا ان مناخ الحرية في الواقع الافتراضي يجعل الاشخاص من الاراء المختلفة يطمحون في نقل ذلك الى الواقع الفعلى في المجتمع
بالرّغم من عدم نجاح ذلك إلا أنّ هذا يعود لقناع صار مهترئًا، ما زال المجتمع يحاول أن يتمسّك به وما يحمله من عادات وتقاليد ريفية وحضرية على حدّ السواء، والتي برغمٍ من انبهارها يوميًا على شبكات التواصل الاجتماعي في محاولة لممارسة حرية الكلام كوسيلة للتغيير إلا أنّه ما زال الواقع المجتمعيّ في مصر أسيرًا لدى فئة لا تتعامل مع الانترنت، وإن تعاملت معه فستوجّه نحو: إما أنّ هذا الاختراع المستحدث هو مؤامرة من الغرب لتدمير مجتمعنا الجميل أو أنّ كلّ ما يحدث على الانترنت مجرّد سخافة ستوأد سريعًا تحت التراب.
أما عن التعامل مع المستخدمين فإنّ في انتظارهم ترسانة غاضبة على الدوام من القوانيين التي تقيّد حقّ الرأي والتعبير، وتلجأ لهم فئات تخوّل نفسها سلطة الوصاية على المجتمع، مثل 102 مكرّر، 188 عقوبات وغيرهم… وكلٌّ يتساقط ضحايا لتلك الترسانة القانونية، على الرغم من أمرين غاية في الغرابة هو نصّ المادة (65) من الدستور الحالي والتي تنصّ على أنّ:
“حرية الفكر والرأي مكفولة ولكلّ إنسان حقّ التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر”
فبالرّغم من إطلاق الدستور حريّة الرأي والتعبير وتوقيع مصر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتزاماتها الدولية تجاه نصوص معاهدات دولية أخرى تنصّ على الحقّ في الرأي والتعبير إلا أننا ما زالنا نجد ضحايا لنصوص قانونية لا ترحم أحدًا، سواء كان معبّرًا عن رأيه بصورة أو بالقول أو بالكتابة.. وذلك بالرغم من تعامل المصريين المنفتح نوعًا ما على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
يمكن أن نضرب مثلًا على ذلك بأحد المنشورات التي أخذت شهرة نسبية، وكان قد كتبه شخص ادّعى أنه باحث، وشرح فيه أصول حضارة الفراعنة إلى قوم عاد ودلّل على رأيه بأسانيد متعددة يرى فيها صحة ومصادرَ موثوقة، وقام فريق آخر بالرّدّ على هذا الشخص بشكل شخصي من خلال حساباتهم الشخصية، وجاء ردّ من حسابات للصفحات العامة على الفيس بوك والتي تتولى التحقّق مما ينشر المستخدمون من معلومات على مواقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”، وكان هناك جدل واسع وصحّي لا يهمّني كيف انتهى أو من كان على صواب ومن أخطأ أكثر من أنّ هذا كان مثالًا وصورة لانفتاح في مجتمع منغلق أمام الآراء والنزعات المختلفة معه، بل ويعصف بها معرّضًا أصحابها لأخطار لا تتناسب أبدًا مع كونهم مجرّد أصحاب آراء مختلفة لا يعتنقها الأغلبية.
وسيظلّ حلم العديد من مستخدمين الواقع الافتراضي نقل تلك الحرية المنفتحة نسبيًا من الواقع الافتراضي إلى المجتمع المصري شبه المنغلق على نفسه في أتون عالم متغيّر متجدّد لا يرضى بالثبات والانغلاق.