حرية التفكير على كوكب شديد التحيز
هل حدث وغيرّت رأيك لأنك استمعت إلى رأي أفضل؟ هل تقهقرت يومًا وسط نقاشٍ حاد واعترفت بالهزيمة؟ كم من الأشياء اقتنيتها دون حاجةٍ لأن الجميع يفعل؟ وكم من الخيارات فضلتها لأنها تضمن لك القبول وتعفيك من الرفض؟ على مقياس واحد لعشرة بكم تقيّم نسبة الحرية الحقيقيّة في قراراتك الحرّة المزعومة؟ كم بابًا مظلمًا فتحت داخل عقلك؟ وكم طعنة غدرٍ وجهها للمنطق السليم فكرك؟ حول أي شمسٍ ستدور وأنت على كوكبٍ شديد الانحياز؟
العقل معالجنا الذي لا يهدأ:
الدماغ هو حجرة القيادة ومركز للجهاز العصبي يقع تشريحياً في الرأس، أما العقل هو الأفعال الإيجابية التي يقوم بها الدماغ من الوعي والمعرفة والتّفكير، فقد نجدُ من يملك الدماغ دون أن يعقل. الوجدان البشري هو نتاجٌ مشترك لحواس نبيهة وتفكير منطقي، فيطيبُ للجميع الاعتقاد بأنهم عقلانيون ومنطقيون، والحقيقة أن الجميع يخضعون لانحيازات معرفية تشوش عملية التعقل واستحضار المنطق.
الدماغ البشري يعامل أي فكرة جديدة كما يستقبل الجسم أي عنصرٍ دخيلٍ عليه “بالرفض”. المثبطات المناعيّة تُعطَى للأشخاص المقبلين على زراعةِ عضو جديد في أجسادهم، ونحتاج اليوم إلى مثبطات استثنائية تردعُ الجانب الانحيازي في عقولنا. التفكير المنطقيّ لا يبرقُ كصاعقة ولا ينبتُ من بذرةٍ مشوهة، والتربة الخصبة غير المحروثة تسمحُ للأشواك والأعشاب الضّارة بالنمو، وإن كنا لا نزرعُ الشّوك لماذا نحصدهُ أحيانًا؟
الانحياز كنمط حياة:
الانحياز هو ميل تلقائي يخلقُ اعوجاجًا فكريًا يؤدي بتراكمه إلى تكون عطب تفكيري، إذا تعاملنا معه كأمر اعتيادي واستندنا عليه في حياتنا اليوميّة. لا شيء يمرّ دون أثر والانحرافات الصغيرة تقودُ إلى منزلقٍ مظلم النهاية. زيادة المعلومات المتاحة لا تقلّ خطرًا عن نقصها إذا كان المعالج الموضوع بين جماجمنا غير مدرب على الانتقائية، التفكير العادي يمارسهُ الجميع لكنّه لا ينتج بالضرورة أفكارًا قويمةً ومفيدة. الإنسان مروض على الانحياز كنوع من الاستسهال والتأقلم، وللانحياز أنواعه المختلفة منها ما نخلقه لأنفسنا ومنها ما يفرضه علينا الآخرون، فالانحيازات تؤمن طرق عقلية مختصرة تلتفُ حول التفكير العقلاني المرهق وتسرع عملية التصرف. الذاكرة ربما تكون متحيزّة أيضاً وتفرض على صاحبها شعورًا معينًا عند استرداد حدثٍ ما، وتوقيت هذا الاسترداد يوجهه نحو سلوكٍ مبتدع فرضتهُ عودة ذكرى كانت قبل أيامٍ طي النسيان.
الانحياز إلى السلطة:
السلطة هي إحدى مفرزات القوة، ومن يملك القوة يملك سطوةً افتراضية على من حوله فكرًا وفعلًا. الانحياز إلى السلطة هو الميل إلى إعطاء مصداقية للآراء الصّادرة عمن يمتلكون النفوذ والمال وحتّى الشّهرة. فالفم الذّي يأكل بملعقةٍ من ذهب ليس من الضّروري أن ينطق بالذّهب، والسّياسون مدربون على حيل الخطابة وآليات تأجيج مشاعر الجماهير، وسائل الإعلام تستغل فهمها لنقاط الضعف البشريّة كي تقوم بتغذيتهم بتحيّز معين، ولا ننسى حمقى وسائل التواصل والذين أصبحوا مشاهيرًا بفضلِ حمقى آخرين.
في داخل كل إنسان تصنيف يوجهه لمن من المتوقع أن ينصاع لهم، وهم الأشخاص الذّين يراهم “متفوقين” عليه حتّى لو كان هذا التفوق ظاهري وغير حقيقي، وبالمقابل يستبعد من يعتبرهم “أدنى منه” من حيز تأثرُه. لذلك تستعين الشّركات بالمشّاهير للترويج لمنتجاتها مستغلةً شعور العامة بتفوق هذه الشّخصيات عليها وتتبعها اختياراتهم.
لا تكن كالببغاء عقله في أذنيّه، يرددُ كالمنوم مغناطيسيًا قناعات من يملكون المنابر، ويسترق النظرَ من ثقب أبوابٍ لا يملك ثمن مفاتيحها.
الانحياز للجماعة وأثر عربة الموسيقا:
شيوع الخطأ لا يعني صوابه ولكن لا ينفي كثرة ممارسيه، فاحتمالية اقتناع شخص بفكرةٍ معينةٍ تزداد بازدياد عدد أتباعها، المعتقدات الشّخصية تُركَن على جنب في سبيل الانصهار في بوتقة الجماعة، فتجدّ الإنسان يقوم بسلوك يعتقد أنه “حر” دون أن يؤمن به أو يرتكز على قناعة داخلية فقط مسايرةٍ للموجة.
في القرن الثامن عشر كانت العربات الموسيقية تجوب الشوارع، وكان على الناس السّير خلفها لاستمرار الاستماع لألحانها، ومن لا يدرك العربة أو يختار البقاء في موضعه يخسرُ ما كسبهُ الآخرون من متعةٍ وتسلية. وأصبح مصطلح “أثر عربة الموسيقا” مصطلح يستخدمه علماء النفس لوصف الانجراف اللا واعي للفرد مع الجماعة قبلَ أن تتطورَ وتصبح “عقلية القطيع“.
لا تفقد جوهرك لتصبحَ نسخةً مكررةً كالجميع، ولا تتبع عربة الموسيقا الضالة، وتغفل لحنك الذاتي حتّى يخفت ويضيع.
الانحياز التأكيدي أنا على حق بالدليل:
مخادعة عقلية خطيرة نقوم بها في عملية البحث عن الحقيقة، عندما تكون عملية البحث عن معلومة هو مجرد بحث عن دليل لإثبات صحة فرضية مسبقة وتجاهل أي أدلة تخالفها، حيث تُفسَر البيانات بطريقة تدعم التوقعات المسبقة سواء بقصدٍ أوغير قصد.
طمسُ الحقيقة لا يكون دومًا بنقصانها، بل بإمساك مقص توجهاتنا واقتطاع الجزء الذّي سيشعلُ ثورةً في أفكارنا، ما اعتادناه هو دومًا الأسهل والأقل صرفًا للطاقة، والبحث عن أدلة لإثباته يضمنُ نومًا لذيذًا في مساحة أماننا الشّخصية.
نخلق فقاعةَ تأييدٍ حولنا، ونملك دومًا البراهين التّي تبرر سلوكياتنا، نقرأ لمن يناسبُ أهواءنا ونستمعُ لمن يمنحنا خدر الرّضا الناعم، وبعد فترة نعتقدُ أن هذه الفقاعة هي الواقع بكل ما فيّه وأننا بلغنا أعتى درجات فهمه، ثمّ نتعجب لسقوطنا مع كلّ ضربة ونحنُ نقف على قدمٍ واحدة.
الحقيقة أنك لن تنضج حتى تختبرك الحيّاة بكل ما تؤمن به، ولن تصلَ لبناء فكرٍ منطقي سليم حتى تستفزَ منطقة راحتك وتغادر متعمدًا فقاعتك.
خوارزميات الانحياز التأكيدي:
المواقع الإخباريّة ومنصات التواصل الاجتماعي تسعى دوماً -عن طريق خوارزمياتها الذكية- إلى تقديم تجربة ممتعة لروادها تضمنُ عودتهم المستمرة، تقدمُ هذه المواقع اختيارات للمحتوى مبنية على سجل تصفحك وعمرك وجنسك وموقعك الجغرافي، فتغرقك بسيلٍ من المقالات والمرئيات التّي تدعم وجهات نظرك الحاليّة كي لا تخسرَ عميلًا موجودًا. قد لا يبدو هذا الأمرُ سيئا للوهلة الأولى لكنهُ يعزز فقاعة واقعنا الافتراضي، مما يغير الطريقة التي نواجه بها الأفكار والمعلومات ونفترض أن الجميع يفكر مثلنا ونتناسى وجود وجهات نظر أخرى. هذه الخوارزميات تقوم بجمع نشاطاتنا وتتبع أكثر كلماتنا استخدامًا، بل حتى مدة توقفنا لمتابعة فيديو مقترح، ثمّ تحصرنا في جزيرة فكرية منعزلة أو ما يعرف ب”غرف الصدى”، حيث ترتدُ علامات الموافقة مؤيدةً لأصواتنا عن جردانها، نعيشُ في فراغٍ يتكرر فيه طرح وسماع المعتقدات نفسها.
الأرض الهشة لا تصلحُ للبناء:
ليست كل الأراضي صالحة للبناء، ولا يمكنك أن ترفع العمد دون أن تغرس الأساسات، فصناعة أرضية عقلانية نقدية هو الخطوة الأولى لتشييد صروح التفكير المنطقي، العقل لا يمكن حمايته من الانحيازات بتعليق التمائم وإشعال أعواد بخور، ومعاملتها كأرواحٍ شريرة تحوم، يجب مواجهتها بالحجة والتحليل الناقد لجميع الخيارات، ورسم خطة للخروج من سجن الفكر الضيق إلى رحاب الاستنارة.