جاك دريدا يُقابِل السَّيِّد نمش وأشرف يوسف ويمنحهما قُبْلَة/ لـ محمد الغريب
“رؤيَّة متخيَّلة في نصٍ شاعريٍّ”
الشَّاعِر المِصريّ والبوهيميّ “أشرف يوسف” صاحب الدَوَاوين النَّثْريَّة الأكثر شهرة في البعثرة والمجاز التفكيكي الشِّعريّ، والبحث عن الذَّوات المختلفة المُشتَّتة. تغنَّمت دَوَاوينه بالصَخَب الذَّاتيّ والاعتراف الوجوداني، كما يوصفه الناقد العراقي خضير ميري بأنه مَلك الاحتيال على المُسمَّيات ويتميَّز بالاقتصاد الشِّعري وأن النَّثْريّ لديه أكثر شَاعريَّة عندما يقترب من التفاصيل وينافس النَّثْريّ السَرديّ وتخريب الحواس، وشحذ المُخيّلة وحلب الاستعارات البلاغيَّة وعمل حسية لغويَّة خاصة لها أكثر من واقعيتها المقيتة التي تُعرِّض الشِّعريّ إلى الانقراض. هذه التوصيفات التي يذكرها خضير لا تتوقف عن الفهم التفكيكي لدَوَاوين الشَّاعِر أشرف يوسف.
في قصيدته الأولى المُعنوَنة “تلغراف” مُناجاة وجوديَّة للبحث عن الذَّات الحائرة والمساءلة الذاتيَّة للوصول إلى قِبْلَة يُفهم فيها إلى أي مدى وصل به الترحال، ويقول: “هكذا يتحلل سجنك الأبدي إلى معنى يربطني بك، في طرقات الحواري والأزقة”، هذا الديوان المكوَّن من أربع عشرة قصيدة تحت عُنْوَان “حصيلتي اليوم… قبلة”، والصادر عن دار شرقيات في عام 2007، ويحاول المقال الاقتراب من مجاورة نَقديَّة وبحث ذاتيّ على استحياءٍ في عوالِم الديوان وقصائده والاستبصار الشِّعريّ قليلًا.
يبدأ المدعو “أحمد نمش”، البحث عن أصدقاءٍ جُدُد بعد أن أخذ عهدًا على نفسه بمقاطعة أصدقائه القُدَامَى. يجلس السيد نمش على مقهىٍ يشتهر باسم قهوة البيضة في الضواحي الشرقية لشارع القصر العيني بوسط المدينة، يجلس وحيدًا بلا صديق، فسعيه نحو الأصدقاء كان إعلانًا منه دون تنفيذ حتى الآن، يرتشف عِدَّة أكواب من القهوة السادة التي تدعو القهوة الأسكتو موضوعة أمامه في ترابيزة شديدة البياض مثل ألوان حوائط القهوة العتيقة، يرمق السيد “نمش” الجالسون على المقهى والمارة، ويرتدي ملابس غير منظمة، يبحث بكل تحدٍّ عن أصدقائه الجُدُد ليحكي لهم عن قصصه التي يغزلها خياله كل يوم عن تفاصيل مثيرة بالنسبة له، فقد أطلق عليه البعض أنه ديستوفيسكي القصر العيني. نمش يبحث عن ذاته في كل لحظةٍ، يسرد قصصه اليوميَّة بلغة حكي ذاتيَّة وشَّاعريَّة، كأنه كتب إحدى قصائد ديوان أشرف يوسف، أو إحدى دَوَاوينه النَّثْريَّة.
في قصيدته المُعنوَنة “كينونة”، يهدم “أشرف”، بشكلٍ دائم سُّلْطَة الأشياء وسُّلْطَة الوجود، وقبل كل ذلك، يهدم سُّلْطَته الشخصيَّة، لذا صيرورة البحث والتأمُّل لا تتوقف كأننا لدينا فيلسوفًا يتأمَّل مواقفه الفلسفيَّة والفِكْريَّة بجرة قلم شَّاعريَّة، وينتقل الشَّاعِر إلى تفكيك سُّلْطَة الأُنثَى بخطاباتٍ خياليَّة شَّاعريَّة وموجهًا إلى خِطَاب الكتاب، فكأن اللقاء الحميمي مع المحبوبة هو لقاء لحوار الثقافات، وهنا يتجلَّى الرمز الكلي أمام تفاصيل الأيروتيك.
خضير ميري الكاتب الفلسفيّ العراقيّ والأدبيّ المشعوذ يجلس في إحدى مستشفياته النَّفسيَّة كعادته هذا المكير، وفي إحدى محاولاته للهروب من الواقع ومن محاسبة الجميع له يتنكَّر في زي رجل أمن ويجلس في حديقة مستشفى ابن راشد العراقية بسبب معاناته من الأرق الشديد، يقرأ مقاله الذي كتبه في التو عن أشرف يوسف، ويقول: “يا له من رائع، لا أحد يفهم تفكيكاته المستمرة، فأشرف في ديوانه يستعير مفعول صوري وإنساني أكبر مستعيرًا لغة المزامير ومستبدلًا القول المقدَّس المعروف (في البدء كانت الكلمة) إلى مُسمَّاه المقول الخاص (في البدء كانت القُبْلَة)، وبذلك يتمم الانزياح دورته حين يصبح المعنى إعادة لخلق الدلالة وليس استبطانًا لها، قد تفتح لنا الأدوات اللفظيَّة للمرآة اللاكانية آفاقًا أخرى في استنطاق هذه النصوص على ضوء العُقضد أو التراكيب النَّفسيَّة التي تنطق بنفسها من خلال الشَّاعِر (الأم والأب والابن المركب منهما)، وفي غفلةٍ للناقد تضع قوات الأمن يديه على كتفه حتى أنه لم يستطع إكمال أقواله النقديَّة الفلسفيَّة حول ديوان أشرف، ويتعرَّض خضير للاعتقال ويقوم بتمثيل دور المجنون لفترة استمرت ثلاث سنواتٍ في مديرية الأمن العامة قبل أن يتم نقله إلى مستشفى المجانين في (الشماعية) الذي هرب منه في فوضى عام 1991 التي أعقبت حرب الكويت. يا لها من قصة حياة ناقد وفيلسوف مثيرة جدًا تشبه خيالات الشَّاعِر.
يجلس على مقهى البيضة رجل يقرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا “في علم الكتابة”، الذي صدر في عام 1967، ويناقش فيه الكاتب كُتَّاب مثل كلود ليفي ستروس، وفرديناند دو سوسور، وجان جاك روسو، وإيتين بونوت دي كوندياك، ولويس هجيلمسليف، ومارتن هايدجر، وإدموند هوسرل، ورومان ياكوبسون، وجوتفريد لايبنتس، وأندريه لوري-جورهان، وويليام واربورتون.
يُعتبر الكتاب نصًا تأسيسيًّا لفلسفة التفكيك النقديَّة. كاتب المقال أسهب قليلًا في الكتاب الذي اهتم بهم دريدا، محمد الغريب كاتب يُحِبّ الفلسفة والجماليَّات ويعمل فرد أمن متميزًا بشهادة بعض الأقران في العمل، وذلك في فندق جراند بيرامدز بجوار مطعم وكباريه صهللة في شارع الهرم ناحية المريوطية، يشتهر عنه أن البعض يقول إن كتاباته بِنيَويَّة أو ما بعد بِنيَويَّة، ولكن أغلبها مدعية لا فائدة منها حال كتاب ما بعد الحداثة في أي مكان في العالم، في الليل يقرأ قصائد أشرف يوسف ويندهش من قدرته التفكيكيَّة في ديوان المقال “حصيلتي اليوم قُبْلَة”، وأنه ينافس جاك دريدا في كتابه “في علم الكتابة”.
السيد نمش هذا البهلوان، رائد تفكيك عَلاقاته النِسَائيَّة فكان من ثُوَّار التحرير وناقمًا على آبانا الذي حكم ورفض توزيع الثَّرْوَة على المهمشين والغلابة، يجلس الآن ويعلن ثَّوْرته ضد الجميع من أجل هذه الأُنثَى التي تُدعَى منى، أو كما يطلق البعض عليها محبوبته الجديدة، يحاور نمش شاعرنا أشرف يوسف ويقول له: “أفْتح دفتي إحدى الكُتُب لديك وأحلم خلالها بلقاءك الحميميّ القادم، أعْطِ لها جائزة المرأة الأيروتيكية، قف قليلًا عن تفكيك خِطابات السُّلْطَة المجتمعيَّة ضد محبوبتك المنتظرة والتي يُشاع عنها أنها ثائرة، أو أعْطِ لنفسك مهلة عن الوقت واقْفِل دائرتك الصاخبة”.
يرفض أشرف يوسف الصُّوَر البلاغيَّة والنواحي الشَّاعريَّة البيانيَّة، ويتجه إلى نواحٍ أسلوبيَّة ما بعد بِنيَويَّة، في تشريح أنطولوجيّ غرائبي لموضوعات ديوانه، كأن الكلام مسموع وليس مكتوبًا، كأن الأمر تلاقي للأذن وليس لقراءة الأعين، أصوات الديوان حية مليئة بالحيويَّة والتفاعل الشَّاعريّ والحسيّ مع القارئ. في كتابه يطرح دريدا فكرته عن اعتبار الكتابة مجرَّد نوع مشتق من الحديث المنطوق عبر التراث الفلسفيّ الغربيّ كله، وبالتالي اعتبار الكتابة مجرَّد إسقاط للحضور الكامل للحديث المنطوق.
في قصيدته “صانعة الأكفان” يقول: “أياديهِم مجتمعةٌ/جَرَّت الجدرانَ الوقحةَ بجانبِ بعضِها/ ورسمتْ بلداً يكلِّمُ الموتَ داخلَ سفينةِ نوح/موتٌ، يا موتُ!!/ اصعدْ لنا معَ الهواءِ”. ينفتح أشرف على الثَّوْرَة بحماسيَّة شديدة، ويلاحظ الروح اليساريَّة الهائلة في كتاباته والانتصار لقيم الحق والعدالة والأُنثَى وضدية الأفكار السُّلْطَويَّة، ويستخدم طرق تفكيكيَّة جديدة في شحذ همم القارئ في الانتصار للمعنى والجميل في الحياة، فكتاباته هي إشراقات صُوفيَّة ونورانيَّة، وتأتي باقية قصائد الديوان في مناحٍ ثَّوْريَّة تفكيكيَّة ذاتيَّة، ورغم بعض العبوس أو النواح العدميَّة التي قد تتسم بها التفكيكيَّة أو الرؤيَّة أو القراءة الأولى لكتابات أشرف بأنها ذَّاتيَّة حزينة، إلا أنها في جوهرها شَّاعريَّة انفتاحيَّة متفائلة تُحمِّس للحياة، وكان يجلس أشرف يوسف مع محمد الغريب، كاتب المقال، يقول له: “أنا منفتح على الحياة سأسعى غدًا في البحث عن محبوبة جديدة مثل صديقنا الجميل أحمد نمش وأحْتَسي النبيذ بين أحضانها، رغم أني فحل شعري ولدي ذاتيَّة وحضور في الكتابة لا أرى مثله”. الشَّاعِر دائمًا يحتفي بنفسه كما هي كتابته تحتفي بنفسها.