الفراشة قصة قصيرة
في أدغال إفريقيا العميقة، كانت هناك بين الأشجار والوديان قرية صغيرة تختبئ دون علم أحد إلا سكانها من الداخل. قرية «الأكوان» كما كانت تسمى، لم تتّصِل بحبل الحضارة أو المجتمعات الخارجية قط، انعزالها في تلك المساحة العميقة من الأشجار والوديان جعلها غير معروفة لأحد من العالمين، ومثل سكان القرية فلم يدرِ أحد من خارجها بوجودها، وفيما يخصّ هذا الشأن كُتبت أسطورة تقول:
“أنّ قرية الأكوان يأتيها رزقها ما لم تُكتَشَف من الخارج فيُفتضح السرّ، حيث كانت تعجّ بمختلف الكائنات من الطّيور والورود والحشرات والحيوانات؛ الطيور تذهب لعرض البحر فتصطاد الأسماك لتأتي به للسكان، والحشرات مثل دودة القزّ تنسج لهم الحرير ليصنعوا منه ملابسهم وحليّهم، أما الحيوانات كالنمور والسّباع فكانت تدافع عنهم ضدّ الضّواري الأخرى من بني جنسهم”.
ليس هذا فقط بل أضيف إليه: قدرة سكان قرية الأكوان على أن يمتلكوا زهورًا لا تنبت إلا في كوكب زحل وصخورًا سابحةً رحالةً لا توجد إلا في الفضاء الفسيح الصامت المظلم، أيضًا لغات ورسوم ونقوش تعود لسنوات الحضارة الأولى للبشر، مع لغات وعادات وقدرات هي من المستقبل البعيد بالنسبة لمن يعيشون خارج قرية الأكوان.
إنّ كلّ فرد من هذه القرية كان له قدرة على تصنيفه في أيّ زمان أو مكان أو حال من الأحوال، كأنّه ابن الأزمنة جميعًا وابن للأمكنة جميعًا وعلى كلّ الأحوال جميعًا، فإذا تحدّث بعضهم بلغة آدم السريانية لم يحتاجوا لترجمان بينهم، وإذا نحت بعضهم تمثالًا أو هيكلًا، كان ذاك التمثال والهيكل ينطق بمعناه من غير لغة، هم لا يجدون حرجًا في فهم رسالة أيّ شيء، بل بلغ بهم الشأن لأن يملكوا أجسادًا أقرب للشفافية الخفيفة الرشيقة كالتي عند الملائكة، فلا يبدو أحد منهم أسودًا أو أبيضًا أو منتسبًا لعائلة دون عائلة أو منطقة دون منطقة، على أنّ لكلّ منهم أفكاره الخاصّة تشعّ بإشعاع في صدره يراه كلّ واحد فيهم..
إلا أنّ السيد “س”، وهو رجل من بينهم أصيب بلعنة لا يدري أحدٌ مصدرَها ففقد الضوء الذي ينبع من صدره، حاوَل بسعيٍ مستفيضٍ أن ينقذ حالَه ليسترجع ضوء صدرِه، غير أنّ محاولاته باءت بالفشل وجاءت بدون جدوى تذكر، فانعزل السيّد “س” عن باقي أهل القرية في جهةٍ نائيةٍ لكنها غير مكشوفةٍ ويمكن للسّكان أن يبلغوها دون أن يهدّدوا حالَهم بوقوعهم في محذور الأسطورة، فكان ينام في كوخٍ منعزلٍ ويقضي أغلب وقته في التفكير، ثم ارتقى التفكير ليخلق مشاعرَ الشكّ والخديعة والمكر، مشاعرٌ تصارعُ الخيرَ والمحبةَ والصدق. أدرك “س” أنه إذا سعى بين قومه فلن يؤثّر عليهم لأنهم لا زالوا يتمتّعون بخواصّهم تلك، فهل يتركهم ويتّجه ليفضح قريتهم عند أهلِ الحضارة الفقيرة من المجتمع البشريّ فيتحقّق محذور الأسطورة ويصيرون بشرًا عاديين.. هكذا فكّر في إحدى الليالي قبل أن يطفئ السراج.. هو يحبّ هذا السراج المضيء لأنه يذكّره بحالِه القديمة.
بدأ “س” يغطّ في نوم عميق، حتى دخلت فراشة كثيرة الألوان صغيرة الحجم. إنّ مثل هذه الفراشة لا يوجد من بقاع العالم إلا في قرية الأكوان، وهي كأخواتها الحشرات لها قدرة تخدم بها السكان، فكما تمنح دودة القزّ الحرير، كانت هذه الفراشة تستطيع كشفَ حقيقةِ أعماق الإنسان، فهي تدخُلُ عبر فَمِه وصولًا إلى صدره دون أن تؤثّر على العروق أو الأعضاء أو الأنسجة، لا يكاد يحسّ المرء بأثرها البتّة. الفراشة قد تعاهَدَ استعمالُها حينما يريد أحدُ السكّان أن يعرف شيئًا من عميق نفسيّته يجهلُه، فيسعَدُ به إذا كان في صالحه، أو يصلحُه إذا كان يخفّف من قوة توهّج ضوء صدره. يريد بذلك أن يمنع عن نفسه إصابتَة بلعنةٍ كالتي حلّت بالسيد “س”. إنّ سبب دخول الفراشة لكوخ “س” مرجِعُه فضولٌ شديدٌ من بعض أطفال القرية، فقد كانوا معجبين جدًّا بصدورهم المشعّة وشفافيّتهم النقية، فأدهشهم “س” بحاله تلك، خصوصًا أنّ الحديث عنه قد كثُر في القرية وصار موضوعًا بالغ الأهمية والخطورة، تساءل بعضهم: هل اللعنة تنتقل بالعدوى؟ وتساءل آخرون: هل يهدّد سعادتَهم وجودُ كائنٍ منهم انحطّ لدرجة البشر العاديين؟ تسلّل الأطفال بجانب كوخ السيّد “س” ينتظرون عودة الفراشة حتى يكتشفوا سرّ اللعنة التي أصابته.
عبرت الفراشة من فم السيد “س” ومضت تنزل نحو صدره، إنها لا تجد الرئة أو القلب أو المعدة، بل تجد عالمًا مظلمًا بشدّة لا سبيل في المشي فيه، أشبه ما يكون بمتاهةٍ عسيرةٌ معرفةُ المخرج منها، سوى أنّ الفراشة لمّا دخلت صدر “س”، ولقوّة بصرها استطاعت، أن ترى قليلًا داخل كلّ تلك الظلمة.. رأت الفراشة آلاف الأبواب في صدر السيد “س” لكنها في مكان مظلم لا نور فيه البتة، كلّ تلك الآلاف من الأبواب كانت مغلقة موصدة بسلاسل ضخمة لا تفتح بسهولة. في آخر تلك الآلاف من الأبواب المغلقة القابعة في الظلام، في آخرها مساحة ضيقة جدًّا تمثّل بابًا يبزغ منه نور هافت جدًّا لا يكاد يكون نورًا. نسبة هذا الباب المضيء إلى الأبواب الموصدة في الظلمة كنسبة شعرةٍ بيضاء في جاموس ذي شعر أسود.. دخلت الفراشة الصغيرة إلى ذلك الباب المضيء الصغير فوجدت أفرادًا كثيرين بأعدادٍ يقفون أمام مرآة كبيرةٍ بحجم السماء، تستطيع أن تعكس صورهم جميعًا. كان السيد “س” من بين أولئك الأفراد الكثيرين، كان ينظر للمرآة بحجم السماء ويرى انعكاسه هو فقط. كان الناس بجانبه -كما رأت الفراشة- لكن في المرآة لم يكن يرى السيد “س” إلا نفسه، اختفى من نظره في المرآة العاكسة بقية الأفراد. كان هذا الباب الوحيد المفتوح، أما بقية الأبواب فموصدة مخفية في الظلام.
صحيح أنّ جميع الأبواب كانت موصدة مختفية في الظلام، لكن ليس بالنسبة لتلك الفراشة الصغيرة؛ فهي ترى الأبواب وتستطيع العبور عبرها دون أن تمنعها تلك السلاسل الضخمة. حينذاك شرعت الفراشة في العبور وراء كلّ باب تنظر ما يكون داخله، تنظر ما يكون الذي ليس من السيد “س”.. أوّل باب موصد في الظلمة عبرته، وجدت داخله السيد “س” يمسك يد طفل صغير ويسيران معًا نحو الغروب، باب ثانٍ كان فيه “س” فنّانًا يسرق لحظة الغروب من الزمن فيجعلها في لوحة، باب ثالث كان “س” يعزف مقطوعة موسيقية يلحّنها مع عصافير شجيّة الصوت، باب رابع كان يساعد أحد الفيلة المجروحة في الغابة، باب خامس فيه يسافر قصيًّا ليتعرّف على أحد الأزهار النادرة في جبل عالٍ، باب سادس يصلّي فيه صلاة طويلة مغمض العينين يخاطب الله في صميم قلبه بعد صيام طويل عن الشهوات، باب سابع يرقص فيه رقصًا دائريًا بملابس رشيقة ناصعة البياض، باب ثامن يعلّم شلّة من أصدقائه بعض العلوم الأدبية والعلمية واللغات، باب تاسع هو عاكف على الكتب في مكتبات تضمّ كلّ صنوف المقالات، باب عاشر يبكي فيه بكاءًا هادئًا في حالة روحانية عظيمة.. إلخ إلخ.
أقام الأطفال ينتظرون الفراشة لتخرج من صدر السيد “س” حتى يكتشفوا سرّ اللعنة، لكن ولأنها بقيت تجرّب كلّ الأبواب، استمرّ الأمر للأبد. فالإنسان الحقيقي يحوي عوالم لا نهائية وأبوابًا لا تكتمل، عوالمًا لانهائية تستغرق الأبد السرمديّ بالنسبة للفراشة.
قصة صيقع سيف الإسلام