سعادة للبيع
وفقًا للأبحاث، قد يكون هوسنا بالمال أعمق مما تعتقد
إن الناس مهووسين بالمال، إذ إننا نقضي ما متوسطه 90،000 ساعة من حياتنا سعيًا لكسبه، ونقضى ما تبقى من عمرنا في صرف ما كسبناه. يتطلب كل ما نقوم به تقريبًا أموالًا، بدءًا من دفع الإيجار وإعداد الطعام، وحتى الذهاب لرحلة سياحية أو شراء نوع نحبه من الأحذية الجديدة.
ليس هناك شك في أن المال يمثل قوة مهمة في حياتنا النفسية. إنها واحدة من أكثر القضايا شيوعًا التي يختلف بشأنها الأزواج، فضلاً عن كونها عاملاً رئيسيًا في الطلاق. إنها أيضًا سبب كبير يجبر الناس على تغيير وظائفهم، وهو بالأصل الاعتبار الأول الذي يؤثر على الوظائف التي يقبلونها في نهاية المطاف.
بالنظر إلى كل هذه الضجة، وعلى الأقل وفق استطلاع واحد غير رسمي، فإن معظم الناس يعبرون عن قوة إعتقادهم بالقول القديم “المال لا يشتري السعادة”.
إذن ما كل ذلك؟ هل المال جانب مهم من رفاهيتنا النفسية أم لا؟ وفقا للبحث، فإن الجواب هو “نعم ولا”.
تظهر عشرات الدراسات أن المال بالفعل يشتري السعادة، ففي مقال نُشر مؤخرًا في مجلة نيتشر، حلل الباحثون بيانات حول الدخل والرفاهية وفق استطلاع الرأي العالمي غالوب، وهو استطلاع تمثيلي لأكثر من 1.7 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، وربما لا يكون غريبًا أنهم وجدوا أن الأشخاص ذوي الدخل المرتفع كانوا أكثر سعادة.
ولكن هذا كان صحيحا فقط إلى حد ما. في نفس الدراسة، يتوقف مستوى الرفاه العاطفي عن الزيادة عندما يكون الدخل من 60.000 دولار إلى 75000 دولار في المتوسط ، وأشار الناس إلى أنهم كانوا راضين إلى أقصى حد عن حياتهم بمجرد جنيهم لحوالي 95000 دولار. وعلى الرغم من اختلاف هذه الأرقام من بلد إلى آخر، كان هناك دائمًا نقطة لم يعد فيها المزيد من المال يمنح المزيد من السعادة.
إننا لا ندعي أن المال غير مهم فهناك الكثير من الناس في عالمنا الذين لا يملكون الأموال الكافية للبقاء على قيد الحياة. يمنحنا المال القدرة على بناء سقف فوق رؤوسنا، والالتحاق بمدرسة للحصول على التعليم، وتوفير السلامة والأمن لعائلاتنا، وتلقي الرعاية الصحية اللازمة، والاستمتاع بوقت فراغنا. ولكن لا يتطلب أي من هذا السعي الجشِع لملايين الدولارات. عندما نكون محظوظين بما يكفي لكسب أموال كافية تجعلنا لا نقلق بشأن الغذاء والصحة والسلامة، فإن التأثير النفسي الإيجابي المتمثل في الرغبة بجني المزيد من الأموال يتوقف، لا سيما إذا كان ذلك يعني المزيد من ضغوط العمل أو ساعات الدوام الطويلة.
الفوز في اليانصيب قد لا يجعل الناس أكثر سعادة. في دراسة كلاسيكية، أجرى الباحثون مقابلات مع حوالي 200 شخص ربحوا يانصيبًا بمبلغ كبير قبل عام تقريبًا، بالإضافة إلى مجموعة من الأشخاص الذين لم يربحوا شيئًا، وما كان واضحًا هو أن الفائزين في اليانصيب لم يعبروا عن انفسهم بكونهم أكثر سعادة من غير الفائزين إذ اختفت المشاعر الإيجابية التي كانت موجودة بعد فترة وجيزة من الفوز، بالإضافة إلى ذلك، طُلب من المجموعتين تقييم درجة السعادة التي يشعرون بها أثناء القيام بأنشطة يومية مثل التحدث مع الأصدقاء أو مشاهدة التلفزيون أو شراء الملابس. كانت النتائج مذهلة: فالفائزين باليانصيب استمتعوا بهذه الأنشطة أقل من أولئك الذين لم يفوزوا بها. مما يعني أن الفوز في اليانصيب وضع سقف توقعات مرتفعا بشكل مستحيل، مقارنةً بالمتعة العادية التي كانت تبدو قليلة، تماما كما أفصح مغني الراب الراحل الكبير نوتوروس أنه لاحظ بشكل واضح أن الميم في كلمة مال، تعني مزيدًا مش المشاكل لا مزيدًا من السعادة.
ولكن هناك بعض الاستثناءات الهامة لهذه القاعدة، وفقًا للبحث، فإن كسب المزيد من المال يمكن أن يؤدي إلى مزيد من السعادة عندما يُستخدم المال لشراء الخبرات أو لمنفعة الآخرين (أو كليهما). استثمار المال بهذه الطريقة يعني شراء ذكريات تدوم. يتفق معظمنا على أن أسعد لحظاتنا، على سبيل المثال، هي الاوقات الي نقضيها مع الأصدقاء والعائلة في السفر أو تناول الوجبات معًا،. وفي حين تتلاشى المتعة عند الاشخاص الذين يشترون التذاكر باهظة الثمن، تزداد المتعة عند ممارسي أنواع الأنشطة الإعتيادية. بعد وقت طويل من إلقاء أحدث وأغلى هواتفنا الذكية في القمامة، سنظل نعيد سرد ذكريات رحلة الشاطئ مع أطفالنا، هذه السعادة التي لا تنبع من الأموال نفسها، ولكنها بالطبع تأتي من التجارب التي قد يساعدنا المال على الوصول إليها. ولحسن الحظ، لا تتطلب العديد من التجارب الإيجابية مبالغ نقدية هائلة، ويمكنها أن تجعلنا سعداء أيضًا.
لذا، إذا لم يكن جمع الأموال النقدية هو مفتاح الرفاه العاطفي والمتعة، فلماذا لا يزال الكثير من الناس يحاولون القيام بذلك؟
يقدم عالم الأنثروبولوجيا الثقافية العظيم إيرنست بيكر إجابة رائعة – وإن كانت معقدة – على هذا السؤال إذ إنه يعتقد أن المال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسعي للسيطرة النهائية على مصائرنا – حتى على الموت نفسه.
لاحظ بيكر بأننا نحن البشر الحيوانات الوحيدة التي لديها القدرة على إدراك أننا سنموت في النهاية. قد نعيش في سن 80 أو 90، ولكن من الممكن أيضًا أن نموت غدًا أو الأسبوع أو الشهر المقبل. حتى لو كنا محظوظين بما يكفي للحصول على رعاية صحية ممتازة، فليس لدينا بالفعل سيطرة كبيرة وشاملة على هذا الاحتمال المهم للغاية. وإذا توقفنا حقًا عن التفكير في الموت، فإن هذا أمر مخيف كونه قد يسبب الشعور بالراحة والضمان على الحياة خصوصا في مراحل محددة من حياتنا مثل أزمة منتصف العمر، لكن الحياة هي فرصة واحدة يجب أن نعيشها بيما يمضي الوقت بسرعة.
لحسن الحظ، لا نحبذ عادةً التفكير بهذه الأفكار السيئة، ووفقًا لبيكر وعلماء النفس الذين ساندوا أفكاره، فهذا يحصل لأننا طورنا آليات نفسية تمنحنا إحساسًا كبيرًا بالتحكم في مصيرنا. واحد منهم هو المال.
في كتابه، الهروب من الشر، كتب بيكر أن المال “يشتري الحراس الشخصيين، الزجاج المضاد للرصاص، والرعاية الطبية الأفضل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن توريث المال، وبالتالي تستمر سلطتها حتى بعد الموت، مما يعطي المرء ما يشبه الخلود.” المال يمنحنا السيطرة على الكثير من الأشياء في حياتنا، لذلك نظرية بيكر تقول أن تراكم الثروة قد يضفي أيضا شعور زائف بالأمان عند الأشخاص عندما يتعلق الأمر بموتنا الوشيك.
إذا كان كلام بيكر يبدو بعيد المنال، فكّر في الرسالة التي بعث بها الرئيس جورج بوش بعد هجمات 11 سبتمبر، وربما كانت المواجهة الأكثر أهمية للشعب الأمريكي مع الموت في التاريخ الحديث. قد تتوقع من الرئيس أن يشجع الناس على الاعتناء ببعضهم البعض أو الحفاظ على ثقتهم في حكومتهم. ومع ذلك، قد يبدو من المفاجئ أنه سيحثهم على التسوق إذ حث الرئيس بوش الشعب قائلا “لا يمكننا السماح للإرهابيين بتحقيق هدف تخويف أمتنا إلى الحد الذي نوقف التجارة فيه ونمنع الناس من التسوق.. أنا والسيدة. بوش نريد أن نشجع الأميركيين على الخروج للتسوق . وهذا بالضبط ما فعله الأمريكيون، مما أدى إلى زيادة في إنفاق المستهلكين بأكثر من 6 في المائة من أكتوبر إلى ديسمبر 2001، ليسجل أعلى المستويات منذ سنوات.
تدعم الأبحاث أيضًا أفكار بيكر عن سبب اهتمامنا بالمال. في إحدى الدراسات، طلب الباحثون من طلاب الجامعات التحدث عن وضعهم المالي لمدة 15 عامًا في المستقبل، من خلال تخمين أشياء مثل رواتبهم وقيمة منازلهم ومقدار الأموال التي يرغبون في إنفاقها على الأنشطة الترفيهية. قبل إجابة هذا السؤال بفترة وجيزة، طلب الباحثون من نصف الطلاب كتابة فقرة حول أفكارهم ومشاعرهم فيما يتعلق بوفاتهم في نهاية المطاف. وكانت النتائج بالضبط تماما كما توقعه بيكر: قال الطلبة الذين طُلب منهم الكتابة عن وفاتهم أنهم يريدون أن يكونوا أكثر قدرة مالياً من أولئك الذين لم يتم الطلب منهم أن يكتبوا أو يفكروا بشأن موتهم.
وعلى الرغم من أن الطلاب لم يدركوا ذلك بوعي، إلا أنهم ربما استخدموا خططهم فيما يتعلق بثروتهم للدفاع ضد المشاعر والأحداث غير السارة الناتجة عن الكتابة عن وفاتهم. يذهب المنطق اللاشعوري إلى شيء من هذا القبيل: “إذا كنت غنيًا، فلا داعي للقلق حيال أي أمر”. قد تكون الأموال وسيلة لخداع أنفسنا في التفكير بأننا نسيطر على حياتنا عندما لا نكون كذلك في الحقيقة.
بالطبع، إنه مجرد وهم في نهاية المطاف. بينما قد يكون من المريح استخدام هذه الاستراتيجيات والمزايا العقلية، سواء بإرادتنا أو لاشعوريًا، فإن كسب المزيد من الأموال لن يؤدي إلى منع وفاتنا، وفي شأن آخر، ربما لن يجعلنا أكثر سعادة أيضًا.
ربما يكون أهم درس في هذا البحث هو أن المال مهم بشكل واضح، لكن يجب ألا يكون مركز ومحور حياتنا. بمجرد أن يتوفر لدينا ما يكفي من المال للبقاء على قيد الحياة ونشعر بالراحة، قد تكون وصفة السعادة هي إثراء أنفسنا بتجارب ذات معنى وروابط بشرية ذات قيمة، وليس إثراء حساباتنا المصرفية. وبعد كل شيء، يجب ألا ننسى قولًا مشهورًا آخر: “لا يمكنك أن تأخذ شيئًا معك”.