الاستلاب (alienation)؛ عن أولئك من يَحْكمون عقلَك الحُرَّ
يقول الفيلسوف جان جاك روسو: “من المشكوك فيه أن للإنسان الحق في الاغتراب عن حريته، أو الحق في أن ينفصل عن حريته لمصلحة إنسان آخر مهما كان التعويض في المقابل، لأنه ما من سلعة دنيوية يمكن أن تعوِّضه عنها (عن الحرية”) [1].
اكتسب مفهوم الاغتراب/ الاستلاب (alienation) حقَّ الوجود الفكري الراسخ والمؤثِّر منذ أواخر القرن الثامن عشر ولا يزال حتى يومنا هذا من بين المفاهيم الفكرية البارزة في الفلسفة والعلوم الإنسانية وعلم النفس. ونجد استخدام هذا المفهوم متعددًا على نحو لافت للانتباه، إذ إن توصيف (الاستلاب/الاغتراب) بات يخدم أشد الظواهر تباينًا وتنوعًا في ميدان الوعي والوجود الإنساني [2]، وممّا نتج عن مفهوم الاغتراب/الاستلاب -بحالةٍ تختلف حيثياتُها من واحدة إلى أخرى ولكنها تتفق في الجوهر- تحليلُ حالة إجبار المرء على الانفصال أو التنازل أو استلاب مكنونات النفس التي توفِّر له الانتماء والأمن والاطمئنان، والسماح له باستخدام العقل الحرّ في مجال المعرفة والفكر والإبداع. إذ في حالة الاستلاب الديني تحديدًا، والتي تناولها الفيلسوف فريدريش هيغل والفيلسوف فويرباخ على وجه الخصوص، يمثّل احتجاجًا على سلب الدين لحرية ومعرفة وجوهر الإنسان، يقول هيجل: “لقد وضعت الشعوب في الأديان ما كانت تتصوَّره عن العالم، عن المطلق، عما هو كائن بذاته ولذاته، عما كانوا يتصورونه العلَّة، الجوهر، الجوهري في الطبيعة والروح، وأخيرًا عن رأيهم الخاص بموقف الروح البشري أو الطبيعة البشرية تجاه هذه الأشياء، تجاه الألوهة والحقيقة” [8].
ونلحظ في هذا النوع من الاستلاب في الشريعة/اللاهوت الديني التي ما هي في حاضرنا إلّا مؤسسات سلبَتْ الكيانَ الحرَّ للفرد من أجل إمساك دفّة قيادة الشعوب من قِبَل الشيوخ والكهنة والمؤسسات الدينية المسيَّسة، إذ إن سياسة رجال الدين تقوم عمليَّا على سلب الآخر حريةَ استخدام فكرِه وجسدِه، وبالتالي سلب جوهره الإنساني الحرّ. ويمتد هذا الاستلاب إلى سلب الفرد فرصته في تكوين معرفة منفصلة عن رؤية الدين للكون وفرضية الخلق وغاية الوجود والاتِّجاه الأخلاقي المُتَّبع -بغض النظر عن دقَّة التسمية بـ (أخلاقي) وإذا كان ما يُحدَّد من قبل الدين هو أخلاقي أو لا- وكلَّما زادت سيطرة وسطوة الشريعة، أو اللاهوت، أي الدين عمومًا، على حرية الفكر والمعرفة وتكوين جوهر الإنسان، كلَّما صار المرء كائنًا فارغًا من وجوده المستقل عن توجيه الشيوخ، أو الكنيسة. وكما نرصد هذا الأثر مباشرةً في طريقة إنهاء بعض المتدينين لجدلٍ حواريٍّ ما حين يُقال: “الله من قال ولست أنا، هذا ذكر في القرآن، هذا ما قاله الشيخ فُلان، هذا ما اتّفق عليه الأئمة”. وهنا تتكوّن حالة من التسليم لماهيته الإنسانية، أي حالة تجسُّد الاستلاب الديني، وبمعنىً أكثرَ دقة: ليس له فكر مستقل عن هذا الدين ومن يمثِّلون هذا الدين.
وما ينجم عن استلاب ماهية الإنسان في نزعتها للعلم والمعرفة والبحث وتدبّر معنى العقلانية، وثم إيداعها في كيان ميتافيزيقي (الإلَه) أو صورته على الأرض (الكهنة، الشيوخ، اللاهوت، الشريعة..إلخ) يُنتج ضياعًا لماهية الإنسان الحُرَّة بحدِّ ذاتها، فكلَّما زادت سطوة (صورة الإلَه) كلَّما زاد اغتراب/استلاب الإنسان عن ماهيته..
لست ضدَّ آلهة الجماهير، بل ضدَّ فكرةِ الجماهيرِ عن الآلهة [1].
أبيقور
ونلمس هذا النوعَ من الاستلاب في الرواية الدينية أيضًا، إذ أن النبي آدم (في الرواية المسيحية) قد يجسِّدُ من رؤيةٍ مناقضةٍ لدلالة الرواية الدينية كما ذكرت، أنه جوهرُ الاستلابِ الأوَّل، حيث يظهر هذا جليًّا حين كان بين خيار الالتزام بقوانين الربّ ونيل الرضا والغفران أو العقاب نفيًا إلى الأرض والخروج من ملكوته؛ وحالة الاستلاب المُشار إليها هنا هي بإقرار قوةٍ عُليا ما يجب وما لا يجب (الصحيح والخاطئ، مفهوم الطاعة والتمرّد) على حساب الكيان الحرّ. ما يعني أن الإلَه استلب جزءًا من كيانه الإنساني الحُرّ بطريقة علاقةِ القبولِ المشروط، وهذا لا يختلف عن ماهية الكنيسة وصكوك الغفران لمن يُطيع اللاهوت. واُستعِير هنا تعريف د.حجازي لهذا النوع من العلاقات الاستبدادية عمومًا، والذي ينفَّذ في المجال السياسي والعلائقي أيضًا حين تستلب السلطة بأنواعها جزءًا من عقل وكيان الإنسان الحُرّ: “القبول المشروط هو (أنا أقبلك ما دمتَ كما أريد أنا، وليس كما ترغب أن تكون) هو المدخل لكل سلوكات الكذب والخداع والمراوغة والتمويه، ما دام الإنسان ممنوعًا عليه أن يكون بذاته ولذاته وأن يصير مشروعًا قائمًا بذاته” [4].
إذًا هذا النوع من الاستلاب البادئ منذ أساطير الأولين، أو الروايات الدينية، والمستمر في عصرنا بصورٍ مختلفةٍ ومتنوعة سواء على المستوى الديني أو السياسي أو العلائقي (مجموعة ونوعية العلاقات بين الأفراد)، هو أداة تحكُّم فعَّالة في يد السلطة. مع الإشارة أن هذا يختلف عمليَّا عن ماهية القانون أو سطوة القانون على الأفراد، إذ إن القانون الحديث (المفهوم المعاصر للحداثة)، والقانون المدني على وجه الخصوص؛ لا يمارس سطوة استلابية ولا استبدادية على الأفراد بشكلٍ اعتباطيٍّ، بل يستند في إقرار موادِّه على نظام من القواعد التي يتم إنشاؤها وتطبيقها ونقاشها من خلال المؤسسات الاجتماعية والحكومية لتنظيم السلوك وتحقيق العدل والأمن الإنساني، وشتان بينه وبين الاستلاب المستند على السَّطْوَة. بل إن هذا الاستلاب القانوني هو ما دفع هوبز وروسو إلى الشروع في تحليل العقد الاجتماعي، إذ إن الاستلاب يُذكَر في طرحهم على أنه تنازل أو مقايضة لإتمام علاقة الدولة بالأفراد (العقد الاجتماعي).
الدين يطلب أن يتخلَّى الإنسان عن الفلسفة، عن الفكر، عن العقل، لأن التعاطي بهذا الشكل ما هو إلَّا حكمة بشرية [2].
هيغل
- الاستلاب في ظل المجتمع الصناعي وما أنتج في العصر الحديث:
قدَّم الفيلسوف كارل ماركس (1818-1883 Karl Marx) طرحًا عن (الإنسان المغترب) في ظل المجتمع الصناعي، وحمَّل ماركس مسؤولية تفشّي الاغتراب/الاستلاب لدى الإنسان إلى هيكل النظام الاقتصادي في الملكية الخاصة والإنتاج السلعي؛ إذ إن أقل الناس حرية برأي ماركس هم العامل الأجير معدوم الكيان كليًّا أو جزئيًّا عند الرأسمالي [3]، فقد انغمس ماركس في دراسة الاقتصاد الرأسمالي بلغة استلاب/اغتراب العمل للجوهر الإنساني، ويتلخّص الاستلاب عند ماركس كونه انتزاعًا للماهية البشرية من الفرد العامل، فيكون شيئًا أو سلعة [2]. ومع تطوّر شكل الأنظمة الرأسمالية ومفهوم اليد العاملة والعبودية وتجاوز ارتباط طرح ماركس مع شكل المجتمع الصناعي آنذاك؛ ظهرَ نوع من الاستلاب (الرقمي) الذي يحتكم أيضًا إلى هيكل النظام الرأسمالي..
يتطرّق راينر فونك في القسم الأول من كتابه القيِّم “الأنا والنحن لإنسان ما بعد الحداثة” إلى تفكيك آليات التسليع واستلاب الفرد من خلال النظام الاقتصادي المتمثِّل بالرأسمالية التي تدير الفضاء الرقمي. حيث يشرح فونك قدرة هذا النظام على تحويل الحياة إلى سلعة والتحكُّم غير المباشر في عقل المستهلك وسلوكياته ومكانته المستقلة، وهذا من خلال عوالم رقمية تقوم على التحكُّم بالـ أنا-النحن لإنسان ما بعد الحداثة ليكون سلعةً بذاته، ومستهلكًا لنفس هذه السلعة ممّا ينتج حالتين: العبد المطيع للتصنيع، الاغتراب عن الواقع غير الرقمي [5]. راجع مقال (إنسان ما بعد الحداثة؛ الحياة بحد ذاتها سلعة هنا). وفي هذا الانتقال من الاستلاب الروحي/الديني نحو الاستلاب الصناعي/الرأسمالي نكوِّن صورةً أوليَّةً -عمومًا وليس تفصيلًا- عن أولئك من يحكمون عقلك الحُرَّ، وماهية الإنسان.
ما الضرر تحديدًا؟ إضافة إلى شكل العبودية والانقياد الحديث، إنهم يستلبون قدرة الإنسان على الولادة الجديدة، أي على إبداع قادر على البَدء من جديد دائمًا بما هو غير متوقع، وهو الذي يجب أن يتمتَّع به جميع البشر بحكم الولادة، حيث أن كل ولادة تُمثِّل بداية جديدة؛ وهذا من أحد الشروط الأساسية في مفهوم (الحرية) عند الفيلسوفة والمنظِّرة السياسية حنا آرنت [6]؛ إذ لا يمكن حصول ولادة جديدة في ظلِّ الاستلاب سواء كان من الأنظمة الشمولية أو سطوة الدين وصورته أو المجتمع الصناعي الرأسمالي.
لولا أفرادٌ عباقرةٌ قليلون يجيئون كولادة الشيء من غير أبويه أو كولادة الشيء بلا أبوين أو كولادة الشيء نقيضًا لأبويه ليهبوا الحياةَ جميعَ قفزاتِها الجديدةَ المتابعة، لما كان الإنسان فقط أردأ الكائنات حظًّا بل ولكان أكثر الكائنات بلادة وتعاسة وهوانًا [7].
عبدالله القصيمي
المراجع: [1] جان، جاك روسو. خطاب في أصل الملكية واللامساواة. ترجمة: بولس غانم. المنظمة العربية للترجمة. [2] عبد الجبار، فالح. (2018) الاستلاب؛ هوبز، لوك، روسو، هيغل، فويرباخ، ماركس. (ط.1). لبنان-بيروت: دار الفارابي للنشر والتوزيع. صـ 19، 117، 120، 153 [3] ميهايلوف، ميهايلو. (1971). الاغتراب؛ فلسفة إنسانية. ترجمة: منير، سامي. نشر المقال في مجلة انكاونتر. صـ 156 [4] د.حجازي، مصطفى (2005). الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. (ط.1). الدار البيضاء-المغرب. لبنان-بيروت: المركز الثقافي العربي. صـ 54 [5] فونك، راينر. الأنا والنحن؛ التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة (2016). ترجمة: حميد الشهب. [6] https://www.iep.utm.edu/arendt/#4aii [7] القصيمي، عبدالله. يكذبون كي يروا الإله جميلا (2001). دار الكتاب العربي. صـ 4 [8] هيغل، محاضرات في تاريخ الفلسفة (1986). ترجمة: د.خليل أحمد خليل. لبنان-بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.