الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وكلام لن يعجب الكثير
مباشرة ودون أيِّ مقدمات أنا لا أومن بالـ “الإعجاز العلمي للقرآن الكريم”، وهذا الموضوع تحاشيتُ أن أخوضَ فيه طويلًا، ولكنَّ الأمة تعاني اليوم من موجة عبثية تتلاعب بتراثها وعقلِها؛ مما يلزم كل واحد من أبنائها أنْ يقدم شهادتَه للأمة في هذه الموضوعات. وقبل الاستطراد يجب أن أشير إلى أنَّ ما يسمى بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم يعتمد على الربط بين نتائج البحثِ العلميِّ والقرآن، دون النظر إلى حقيقة القرآن ورسالته، وحقيقة العلم ومنهجه وهدفه، ويعمد إلى الخلط بين ما هي حقيقة علمية مُسَلَّم بها، مثل تتابع الليل والنهار، وما هو ظني الثبوت قائم على ما تَوَفَّر مِن بيانات ودقة أجهزة القياس، مثل شكل الذرة أو الثقوب السوداء؛ وهذا الخلطُ بالذات ما يدلس على متلقي أطروحات “الإعجاز العلمي للقرآن الكريم”.
أنا لا أومن بالـ “بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم”؛ لعدة أسباب، وسوف أسردها في صورة نقاط مختصرة.
القرآن الكريمُ رسالة الله الأخيرة إلى البشر، وليس لقوم دون قوم، أو بلد دون بلد؛ ولذلك ضمن الله حفظَه؛ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1)، كما جعل إعجازَه ذاتيًا، بمعنى أنَّ القرآن الكريم مُعْجِز في ذاته، وليس معجزًا لأمر خارج عنه. ولما كان القرآنُ كلامَ الله، كان إعجازه في لغته وبلاغته على النحو الذي أقرَّ به مشركو العرب من فطاحل زمانهم في اللغة، مثل الوليد بن المغيرة الذي سمع القرآن يُتْلَى؛ فقال: «والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعْلَى، وإنه ليحطم ما تحته» (2).
ولما كان إعجاز القرآن ذاتيًا لغويًا، فكان تحدي القرآن لخصومه -وهم مَن يزعمون أن القرآن ليس كتاب الله، أو أنه تأليف النبي صلى الله عليه وسلم- أنْ يأتوا بمثله؛ «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»(3)، أو بعشر سور مثله «قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(4)، أو بسورة مثله «قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ »(5).
ولما كان القرآن الكريم الرسالةَ الأخيرة إلى البشر؛ فإن ما تضمنه من تعاليم أخلاقية ووصف للنفس الإنسانية، والسلوكيات الاجتماعية للأمم، مِمَّا يدخل تحت باب السنن الاجتماعية هو في حد ذاته جزء من وظيفة القرآن، ككتاب للهداية؛ فتناوَلَ الأدواء التي تصيب الأفراد والمجتمعات مثل الكفر والاستكبار، وما ينجم عن هذه الأدواء، ثم بين الدواء الشافي.
والقرآن الكريم بنسبته الخالصة والثابتة إلى رب العالمين، ووظيفته كرسالة لهداية الإنسان، وطبيعته العابرة للقوميَّات والحدود، وكونه مضمون الحفظ إلى يوم الدين، مطلق الصحة، والمعرفة التي يتضمنها معرفة مطلقة الصحة، وإن خفت هذه المعرفة أحيانًا؛ فلِنَقْصٍ في المُتلقي، مثل كونه لا يفهم اللغة العربية على نحو كامل، والشاهد على ذلك ما نُقل عن ابن عباس: «كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبِه: أنا فطرتها؛ أنا بدأتها»(6).
أما العلم؛ فمعرفة مقيدة الصحة؛ فالمنهج العلمي يتكون من رصد ظاهرة، ثم جمع بيانات عن هذه الظاهرة، ثم تحليلها، ووضع نموذج لها؛ مثلًا لاحظ الفيزيائيون أنَّ شدة التيار المارِّ في سلك معدني تتأثر مقاومة هذا السلك وفرق الجهد بين بداية السلك ونهايته، وتأكدتْ الظاهرةُ عن طريق تكرار الملاحظة، ومن ثمَّ تَمَّ تحليلُ هذه البيانات؛ لينتج عنه قانون فيزيائي والذي ينص على أنَّ فرق الجهد يُساوي شدةَ التيار في المقاومة. إنَّ النموذج التفسيري الناتج عن تطبيق المنهج العلمي تتأثر جودتُه بالبيانات المُدخلة والأدوات التحليلية؛ ولذلك فإن النماذج التفسيرية تتغير باستمرار مع تطور أدوات جمع البيانات والأدوات التحليلية.
وهنا نصل إلى مربط الفرس، ومفاده أن الإعجاز العلمي للقرآن يحاول تفسير ما هو معرفة مطلقة الصحة بمعرفة أدنى مقيدة الصحة؛ فماذا يحدث عندما نقوم بتفسير القرآن باستخدام نموذج تفسيري ناجح، ثم تتغير الظروف ويرفض العلماء هذا النموذج ويستحدثون آخر أجود منه؟
القرآن الكريم ليس كتاب طب أو تاريخ، ولم يكن الرسول صلاة الله عليه وسلم بالطبيب أو المؤرخ، وإنما كان «شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا»(7)، وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيص – أي تمر رديء- فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم»(8)، وهو الحديث الذي شرحه العلامة النووي تحت عنوان رائع هو «باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سيبل الرأي»(9).
وفي النهاية لا بد أن أسأل: لماذا لم يظهر (الإعجاز العلمي للقرآن الكريم) إلا في هذا العصر؟ لماذا لم يظهر في العصر الذي كان المسلمون فيه الأكثر تفوقًا في العلم، زمن الزهراوي وابن النفيس والبيروني وجمشيد والرازي؟ إن المسلمين اليوم يعانون من الهزيمة الحضارية، ولديهم شعور جمعي بأنهم في ذيل الأمم وهو ما لا يتناسب مع كونهم (خير أمة)، ومن ثم لجؤوا إلى ما يسمى بـ “الإعجاز العلمي للقرآن الكريم” من باب نحن موجودون ولاعبون في لعبة العلم والتقدم، ولكننا لا نريد أن ننزل الملعب بثقلنا.
إن موضوع (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) في جانب منه لا يتجاوز متابعة من قبلنا إلى جحر الضب المعهود؛ فمنذ القرن التاسع عشر ظهرت محاولات لإثبات أن محتوى الكتاب المقدس يتماشى مع نتائج الأبحاث والاكتشافات العلمية؛ لما شعر المتدينوين المسيحيون في أوروبا ببعد الشقة بين ما تقدمه هذه الاكتشافات ومحتويات الكتاب المقدس، كما أن بعض موضوعات (الإعجاز العلمي) للأسف مقتبسة من الكابالا والجومتراه اليهوديتين، والتي تمثل المادة الخام للخزعبلات والسحر عند اليهود، مثل المقابلة بين حروف كلمات التوراة والأرقام وما إلى ذلك من دجل وخبل.
إن ما يجعلني أرفض ما يسمى بــ (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) يمكنني أن أسرد فيه مجلدًا ضخمًا، ولكني اكتفيت بشهادة مكثفة تبين رأيي في هذا الموضوع، والله من وراء القصد.
نرشح لك: الإعجاز العلمي يفتن الذين آمنوا في إيمانهم
المصادر (1) سورة الحجر، آية 8. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك. (3) سورة الإسراء، آية 88. (4) سورة هود، آية 13. (5) سورة يونس، آية 35. (6) ابن كثير، إسماعيل بن عمر (2002) تفسير القرآن العظيم. الجزء السادس. القاهرة: مكتبة الصفا. (7) سورة الأحزاب، آية 45-47. (8) أخرجه مسلم وابن خزيمة وابن حبان. (9) النووي، محي الدين يحي بن شرف (1998) شرح صحيح مسلم المسمى شرح النووي. الجزء الخامس عشر. القاهرة: دار المنار.