الجدل الذي يحوم حول نمطي التعلم البصري والسمعي
قد تكون إحدى هاتين الاستراتيجيتين مناسبة لإحدى المهام العقلية أكثر من الاستراتيجية الأخرى
يتعين عليك قراءة هذا المقال لفهم فحواه؛ إلا أنّ العديد من الأفراد لا يفضلون القراءة كنمط تعلم بل يفضلون الاستماع إلى شرح لفحوى المقال أو استعراضَ رسمٍ بيانيّ. لذلك قام الباحثون بتحويل هذه الأفكار البديهية إلى نظريات رسمية تناقش أنماط التعلم المختلفة، وكانت هذه النظريات مؤثرةً على الحقل التعليمي بشكل كبير لدرجة أن العديد من الولايات الأمريكية (بما فيها ولاية نيويورك) باتت تُلزِمُ المعلمين المستقبليين بمعرفة هذه الأنماط وكيفية استخدامها داخل الغرف الصفية. إلا أن هذه النظريات تفتقر الأدلة العلمية التي تثبِتُ بشكل قطعي وجود أنماط التعلم هذه.
حيث استحدث الباحثون خلال العقود الماضية عدة نظرياتٍ تقترح كل منها نظامًا لتصنيف المتعلمين. وتقترح أشهر هذه النظريات أن بعض الأفراد يفضلون التعلم من خلال قراءة الكلمات، بينما يفضل البعض الآخر التعلم من خلال رؤية الصور. وفي تصنيف مختلف تمامًا، تقترح إحدى النظريات أن البعض يفضل حل المشاكل عن طريق اتباع الحدس، بينما يفضل البعض الآخر حل ذات المشاكل عن طريق تحليلها. ويقترح تصنيف ثالث أن البعض يفضل البحث في فكرة ما من خلال استعراضها بشكل سريع بينما يفضل البعض الآخر الغوص في تفاصيلها.
وإن كانت لإحدى هذه النظريات أساس من الصحة لَعادت على الطلاب بفوائد جمة؛ وذلك من خلال إجراء اختبار يصنف الطلاب في الغرف الصفية بناءً على أنماط تعلمهم. وبناءً على النتائج، يقوم المعلم بدمج نمط التعليم الشائع في الحصص الدراسية. أما في مقر العمل، يمكن للمدير أن يرسل مذكرة عمل ليقرأها أحد الموظفين بينما يقوم بإيصال المعلومة ذاتها لموظف آخر من خلال إجراء محادثة مباشرة معه.
لكن هل يمكن تطبيق ما سبق على أرض الواقع؟ ولمعرفة الإجابة، يجب على الباحثين أن يقوموا بتحديد نمط التعلم الذي يعتقد الفرد أنه يتبعه، ومن ثم يطلبوا منه أن يتعلم شيئًا ما تبعًا لهذا النمط أو تبعًا لنمط آخر لا يفضله. فعلى سبيل المثال، أجرى الباحثون تجربة تبحث في صحة نظرية نمطي التعلم البصري والسمعي، حيث قاموا بتحديد نمط التعلم الذي يفضله الفرد من خلال توجيه الأسئلة التالية عن الاستراتيجة الذهنية التي عادة ما يتبعها عند التعلم:
- هل تقوم بِتهجئة الكلمات الجديدة من خلال نطقها أم من خلال تخيل الأحرف التي تكونها؟
- هل توضح الاتجاهات من خلال شرحها لفظيًّا أم من خلال رسم خريطة؟
ومن ثم قرأ الباحثون بعض العبارات، وقام الأفراد بتقييم مدى سهولة تحفيز هذه العبارات لابتكار الدماغ لصورة ذهنية (التعلم البصري) أو مدى سهولة نطق العبارات فيما بعد (التعلم السمعي). ويفترض أن يتذكر الأفرادُ ذوي نمط التعلم السمعي العباراتَ بشكل أفضل إذا انصبّ تركيزهم على سماع الكلمات المنطوقة بدلًا من ابتكار صور ذهنية للعبارات، والعكس صحيح بالنسبة للأفراد ذوي نمط التعلم البصري. إلا أنّ الأمر لم يكن كذلك.
وعلى الرغم من أنّ نظرية نمطي التعلم مغلوطةٌ إلا أن الأفراد يتصرفون وكأنها مُثبَتة؛ فيحاولون التعلم بالطريقة التي يرون أنها تتوافق مع نمط تعلمهم. فعندما كلَّف الباحثون الأفراد (المُشاركين في البحث) بمهمة ما، وزودوهم بتعليمات مكتوبة ورسومٍ بيانية، لجأ الذين يصفون طريقة تعلمهم على أنها سمعية إلى سماع الكلمات بينما لجأ الذين يصفون طريقة تعلمهم على أنها بصرية إلى الصور. إلا أن الاختبارات التي أُجريت لاحقًا بيّنت أنّ التزام المشاركين بنمط تعلمهم المزعوم لم يساهم في سرعة تعلم الطريقة التي يتم من خلالها تنفيذ المُهِمة.
وفي تجربة أخرى، تفحَّص الباحثون النشاط الدماغي لعينات الدراسة وذلك لمعرفة ما إن كانوا- بشكل لا إرادي- يُخضِعون المهمة إلى تغييرات ما بحيث تتناسب مع نمط التعلم الذي يعتقدون أنهم يتبعونه. حيث استخدم الباحثون بعض المؤثرات التي تحفز نشاط الدماغ، بما في ذلك مجموعة صور لمثلث أزرقَ مُقلَّم ووصف لفظي لمربع أخضرَ مُنقَّط. حيث طلب الباحثون من الأفراد أن يحددو ما إن كانت المؤثرات التي ستظهر على التوالي تتوافق مع نمط تعلمهم أم لا تتوافق- وذلك خلال تواجدهم داخل جهاز مسح الدماغ- ولكن دون أن يعرفوا ما إن كان المؤثر التالي صورة أم كلمات.
وعندما رأى الأفراد ذوو نمط التعلم البصري الكلماتَ أمامهم، تفعَّل الجزء الدماغي المسؤول عن الرؤية؛ وذلك لأن أدمغتهم كانت تحوّل الحافز اللفظي إلى صورة ذهنية. كما وتمَّ تفعيل الجزء الدماغي المسؤول عن اللفظ عندما رأي الأفراد ذوو نمط التعلم اللفظي صورةً ما، وذلك لأنهم شرعوا إلى وصف الصورة بالكلمات. ولكن مجددًا، ذهبت جهود الباحثين في هذه الدراسة أدراج الرياح؛ وذلك لأن رؤية المشاركين لمؤثر يطابق نمط التعلم الذي يعتقدون أنهم يتبعونه لم يساهم في تحسين أدائهم.
وتكمن المشكلة هنا في أن شروعك للتعلم وفقًا لنمَط التعلم الذي تعتقدُ أنك تتبعه يجعلك تتكبد الكثير من الخسائر إضافة إلى انعدام جدواه. حيث تتجاهل نظرياتُ أنماط التعلم حقيقةَ كون إحدى استراتيجيات التعلم مناسبة لتنفيذ إحدى المهمات بشكل أفضل من الاستراتيجيات الأخرى. فلو أخذنا بعين الاعتبار النظرية التي تميّز بين التفكير الحدسي والتفكير التأملي، سنجد أن التفكير الحدسي يمتاز بالسرعة وباعتِماده على الروابط المُخزنة في الذاكرة؛ بينما يمتاز التفكير التأملي بالبطء وبِميله إلى تحليل المعلومات. فبغض النظر عن نمط تعلمك المزعوم، يفضَّلُ اللجوء للتفكير التأملي للمشاكل التي تتطلب الإبداع، بينما يفضل اللجوء للتفكير الحدسي لحل المشاكل التي تتطلب إحصاء الاحتمالات المُتاحة. وبذلك سيرسب الفرد ذو التفكير الحدسي في اختبار الإحصاء إن تمسَّك بنمط تعلمه المزعوم.
وعلى الرغم من أن التقيُّد بأنماط التعلم المزعومة لا يساعد في عملية التعلم، إلا أنه بأمكاننا استخلاص بعض الدروس المُستفادة من هذا البحث:
- بدلًا من الشروع في إحداث تغييراتٍ على المهمة بحيث تطابق نمط تعلمك المزعوم، غيّر أسلوب تفكيرك بحيث يطابق المهمة. فالاستراتيجة المثالية لمهمة ما هي الاستراتيجية المنشودة، بغض النظر عن نمط التعلم الذي تعتقدُ أنّك تتبعه.
- لا تلقِ اللوم على نمط تعلمك المزعوم في حال فشلك في مهمة ما، ولا تجعله ذريعة للاستسلام. فعبارة “أنا آسف فقد اختلطت التواريخ في دماغي وذلك لأنني أتبع نمط التفكير الخطي” مجرد كلام فارغ. وعلى غرار ذلك، لا تخبر معلمة طفلتكَ أنها تعاني في دراستها بسبب عدم تغيير المعلمة لنمط التدريس بما يتوافق مع نمط تعلمها.
- فتحت فكرة تعديل المهمة بما يتناسب مع نمط تعلم الفرد بابَ الأمل على مصراعيه، حيث وُجِد أن تغييرًا بسيطًا قد يحسن أداء الفرد في المدرسة ومقر العمل. فعلى الرغم من أننا شهدنا عدم فعالية ذلك، إلا أن هذا البحث يسلط الضوء على أملٍ من نوع آخر؛ وهو أننا غير ملزمين بالتقيد بنمط تعلم واحد، فهنالك عالمٌ واسع من أنماط التعلم المختلفة متاح أمام أنظارنا.