كفاح ستيفن هوكينج
مقال مترجم عن لسان صديق هوكينج السابق في جامعة كامبريدج مارتن ريس
بعد فترة وجيزة من تسجيلي كطالب دراسات عُليا في جامعة كامبريدج في عام 1964 قابلتُ زميلًا طالبًا -قبل عامين من دراستي- وكان غير مستقر على قدميه ويتحدث بصعوبة كبيرة. هذا هو ستيفن هوكينج … لقد تم تشخيصه مؤخرًا بمرض انتكاسي، وكان يعتقد أنه قد لا يعيش طويلًا حتى ينهي درجة الدكتوراة، لكنّه عاش حتى سن 76، وتوفي في 14 مارس 2018.
كان حقًا مُذهل، حتى مجرد بقائه كان سيشكل معجزة طبية، لكنَّه لم ينجُ وحسب بل أصبح واحدًا من أشهر العلماء في العالم -نال شهرة كباحث عالمي ورائد في الفيزياء، وصارت كتبه الأكثر مبيعًا وانتصر على كل الشدائد.
ربما كان من المُستغرب أن يكون هوكينج في الواقع قد أُعيد كطالب جامعي في جامعة أكسفورد …. ومع ذلك ، أكسبه تألقه درجة علمية أولى في الفيزياء، وتابع دراسته المهنية في جامعة كامبريدج.
خلال السنوات الأولى من بداية مرضه كان ملزمًا بالكراسي المتحركة، وكان كلامه غير واضح ولا يمكن تفسيره إلا من قِبل من عرفوه. ولكن من نواحٍ أخرى، كان الحظ يحالفه، فقد تزوّج من صديقة العائلة –جين وايلد– التي بَنَت له حياة أُسرية داعمة له ولأبنائه الثلاثة.
أعمال ستيفن هوكينج الأولى
كانت فترة الستينيات فترة مثيرة في علم الفلك وعلم الكونيات؛ فهذا هو العقد الذي بدأت فيه الأدلة على الثقوب السوداء والانفجار الكبير تظهر.
في كامبريدج، ركَّز هوكينج على المفاهيم الرياضية الجديدة التي طورها الفيزيائي الرياضي روجر بنروز والتي بدأت نهضة في دراسة نظرية النسبية العامة لآينشتاين. وباستخدام هذه التقنيات، توصل هوكينج إلى أنّ الكون يجب أن يكون قد نشأ من “المتفردة” -وهي نقطة تنهار فيها جميع قوانين الفيزياء- كما أدرك أن منطقة أفق الحدث للثقب الأسود -وهي نقطة لا يمكن أن يفلت منها أي شيء- لا يمكن أن تتقلص. في العقود اللاحقة، عزَّزَ الدعم الرصدي هذه الأفكار بشكلٍ مذهل بعد الإعلان في 2016 عن اكتشاف موجات الجاذبية من الثقوب السوداء المتصادمة.
وتم انتخاب ستيفن هوكينج في الجمعية الملكية -الأكاديمية العلمية الرئيسية في بريطانيا- في سن مبكرة “بشكل استثنائي” وهو 32 عامًا. لقد كان في ذلك الوقت ضعيفًا لدرجة أن معظمنا شك في أنّه لا يمكنه الوصول بنا إلى مستوى أفضل، ولكن بالنسبة لهوكينج كانت هذه مجرد البداية.
كان يعمل في نفس المبنى الذي كنت أعمل فيه، وكنت أدفعه في كثير من الأحيان على كرسيه المتحرك إلى مكتبه، وطلب مني أن أبدأ كتابًا غريبًا عن نظرية الكم وعلم الذرات، وهو موضوع لم يكن يهتم به كثيرون حتى الآن. كان يجلس بلا حراك بلا حراك لساعات، لم يستطع حتى قلب الصفحات دون مساعدة… أتذكر أنني كنت أتساءل ما الذي كان يدور في ذهنه، وإذا كان قد فشل في منصبه.
ولكن في غضون عام، توصل إلى أفضل فكرة له على الإطلاق والتي جاءت في شكل معادلة!
النجومية العلمية
تتضمن التطورات الكبيرة في العلوم عمومًا اكتشاف صلة بين الظواهر التي تبدو غير مرتبطة من الناحية المفاهيمية حتى الآن. وفي لحظة سحرية لهوكينج اكتشف وجود علاقة عميقة وغير متوقعة بين الجاذبية ونظرية الكم: فقد تنبأ بأن الثقوب السوداء لن تكون سوداء بالكامل، ولكنها تشع الطاقة بطريقة مميزة. هذا الإشعاع مهم فقط بالنسبة للثقوب السوداء التي تكون أقل كثافة من النجوم -ولم يتم العثور على أي منها.
رغم ذلك فإنّ “إشعاع هوكينج” كان له تداعيات عميقة للغاية على الفيزياء الرياضية، في الواقع كان أحد الإنجازات الرئيسية للإطار النظري لفيزياء الجسيمات التي تسمى نظرية الأوتار هو إثبات فكرته.
في الواقع، قال أندرو سترومنجر المختص بنظرية الأوتار من جامعة هارفارد (الذي تعاون معه هوكينج مؤخرًا): إن هذه الورقة تسببت في “ليالٍ بلا نوم بين علماء الفيزياء النظرية أكثر من أي ورقة في التاريخ”.
المسألة الأساسية هي ما إذا كانت المعلومات التي تُفقد على ما يبدو عندما تسقط الأجسام في ثقب أسود يمكن استردادها من الإشعاع عندما تتبخر. إذا لم يكن الأمر كذلك ، فهذا ينتهك مبادئ الفيزياء العامة، واعتقد هوكينج في البداية أن هذه المعلومات تضيع فعلًا، لكنه غير رأيه لاحقًا.
واصل ستيفن هوكينج البحث عن روابط جديدة بين الكون و الذرات ونظرية الكم واكتساب رؤىً أعمق لبداية عالمنا معالجًا أسئلة مثل “هل كان الانفجار الكبير هو الوحيد؟”.
كان لديه قدرة رائعة على اكتشاف الأشياء في رأسه، لكنه عمل بمساعدة الطلاب والزملاء الذين يكتبون الصيغ على السبورة؛ كان يحدق فيما يكتبون ويخبرهم إذا كان قد وافق وربما اقترح ما يجب أن يأتي بعد ذلك.
كان مؤثرًا بشكل خاص في مساهماته في “التضخم الكوني” وهي نظرية يعتقد الكثيرون أنها تصف المراحل المبكرة للغاية من عالمنا الآخذ في التوسع -القضية الأساسية هي فهم البذور البدائية التي تتطوَّر في النهاية إلى مجرات- واقترح هوكينج (كما فعل بشكل مستقل الروسي فياتشيسلاف موخانوف) أن تكون هذه “تقلبات كمية” (تغييرات مؤقتة في كمية الطاقة في نقطة ما في الفضاء).
كما اتخذ خطوات إضافية نحو ربط النظريتين العظيمتين لفيزياء القرن العشرين: النظرية الكمومية للعالم الصغير ونظرية أينشتاين للجاذبية والفضاء.
تأزُّم حالته الصحية
في عام 1987 ، أصيب ستيفن هوكينج بالالتهاب الرئوي؛ كان عليه أن يخضع لعملية في القصبة الهوائية، والتي أفقدته حتى صلاحية الكلام المحدود التي كان يمتلكها.
مرَّ أكثر من عشر سنوات دون أن يتمكن من الكتابة، أو حتى استخدام لوحة المفاتيح ومن دون كلام، كانت الطريقة الوحيدة التي تمكنه من التواصل هي توجيه عينه نحو إحدى حروف الأبجدية على لوحة كبيرة أمامه. لكن التكنولوجيا لم تخذله، كان لا يزال يستخدم يد واحدة؛ وساعده الحاسوب بتوضيح الجمل في كلامه. تم بعد ذلك توليف الكلام مع اللهجة الأمريكية وسميت هذه التقنية بـ androidal والتي أصبحت بعد ذلك علامته المميزة.
كانت محاضراته -بالطبع- معدة مسبقًا ولكن المحادثة ظلت هاجسًا فكل كلمة تحتاج العديد من الحركات لذلك استغرق الأمر عدة دقائق لتكوين جملة واحدة، لقد تعلم كيف يقتصد باستخدام الكلمات!
ومعظم جمله أصبحت أقوال مأثورة أو محببة، ولكن غالبًا ما تكون مشبعة بالذكاء وتحتوي عمقًا.
في سنواته الأخيرة، أصبح ضعيفًا جدًا بحيث لم يتمكن من التحكّم في الجهاز بشكل فعال، حتى عن طريق عضلات الوجه أو حركات العين، وأصبحت سرعة تواصله أبطأ.
في وقت إجراء عملية القصبة الهوائية، كان لديه مسودة كتاب كان يأمل أن يصف فيه أفكاره لمجموعة واسعة من القراء وأن يكسب شيئًا لأبنائه الأكبر سنًا اللذين كانوا في سن الدراسة الجامعية.
بعد شفائه من الالتهاب الرئوي، استأنف العمل بمساعدة محرر وعندما ظهرت الطبعة الأمريكية من “تاريخ موجز للزمن ” ارتكبت الطابعات خطأ (كانت الصورة مقلوبة) وعندما حاول الناشرون استرجاع النسخ دهشوا لأنه كانت قد تمت بالفعل عمليات بيع جميع النسخ.
وكانت هذه أول إشارة إلى أنّ الكتاب كان مخصصًا للنجاح الجامح، حيث وصل إلى ملايين الأشخاص حول العالم. وسرعان ما أصبح شخصية مشهورة إلى حدٍ ما، حيث ظهر في برامج تلفزيونية شهيرة من عائلة سمبسون إلى نظرية الانفجار الكبير وغيرها. وربما كان هذا لأن فكرة العقل المسجون الذي يتجوّل في الكون قد استهوت الناس وألهمتهم بشدة.
كما هو موضح في الفيلم الروائي الحائز على الأوسكار The Theory of Everything الذي يروي القصة الإنسانية وراء كفاحه، كان هوكينج بعيدًا عن كونه عالمًا نمطيًا وظلّت شخصيته مثيرة للدهشة بسبب إعاقاته وكفاحه، كما كان مستعدًا للتعبير عن آراءه السياسية .
ومع ذلك، كان الجانب السلبي في طريقته هو أن تعليقاته كان تجذب اهتمامًا مبالغًا فيه حتى في الموضوعات التي لم تكن لديه خبرةً فيها خاصة على سبيل المثال الفلسفة، أو مخاطر الفضائيين أو الروبوتات.
في نهاية المطاف، تشكلت حياة هوكينج بسبب المأساة التي أصابته عندما كان عمره 22 عامًا فقط. وقال هو نفسه إن كل ما حدث منذ ذلك الحين كان مكافأة.
مات ستيفن هوكينج ولكن سيعيش اسمه في سجلات العلوم بعد أن ألهم الملايين ووسّع آفاقهم الكونية من خلال أبحاثه وكتبه الأكثر مبيعًا، إنه تجسيد لقوة الإرادة والتصميم المذهلين.