حول أزمة القصة القصيرة
إنَّ مشكلة القصة القصيرة حاليًا لا تأتي في المقام الأول من عزوف القراء عن قراءة هذا النوع من الأدب، وإنَّما هي مشكلة الكتّاب أنفسهم ثمَّ يأتي مزاج القارئ لاحقًا. فالكاتب غالبًا يبدأ سُلّم احتراف الأدب بكتابة مجموعة قصصية يعرّف بها نفسه للمجتمع الأدبي ثمَّ يأخذ في التحول ناحية الرواية، وكأن القصة القصيرة مجرد مرحلة إعدادية للكتابة الروائية في حين أنَّها في الأصل أحد فنون النثر بجانب الرواية والمقال والمسرحية، وما أدراك ما تعانيه كتابة المسرحية هي الأخرى من مشكلات تفوق تلك التي تحاصر القصة القصيرة وهو ما لايتسع المقام لبحثه.
إنَّ نظرة العديد من الكتاب للقصة القصيرة على أنَّها لا تعدو مرحلة في رحلتهم الأدبية موَّه خصائصها وجعلها تختلط كثيرًا مع كتابة الخواطر واللوحات القلمية التي أشار إليها الأستاذ يحي حقي في كتابه “فجر القصة المصرية” الصادر عن دار نهضة مصر، والتي تترواح بين المقال دون تبني أسلوبه التقريري وبين القصة من غير قصٍ يعتمد على البناء السردي للشخصيات والأحداث وصياغة الحبكة؛ ومن ثمَّ بدأت القصة تعيش في معزل عن الواقع وكذلك عن الأفكار المعاصرة؛ فعزف أكثر القرّاء لا سيما الجدد إلى الروايات حيث التشويق والصراع، وحيث يجدون حاضرهم وهموم جيلهم يُمثَّل أمامهم في شريط قصصي.
لمَّا كان ما تقدَّم؛ فإنَّ القصة القصيرة لن تسترجع مكانتها إلا إذا تفرّغ لها الكتاب وتوافرت لها أركان العمل القصصي واستلهمت أفكار الحاضر ومشكلاته. وقد نقل الأستاذ محمد شعير في كتابه “سيرة الرواية المحرمة” عن الأستاذ نجيب محفوظ أنَّه بعد 23 يوليو 1952 تحول عن الواقعية التي انتهجها في أعماله إبان العهد الملكي واستقرار المجتمع مثل رواية “خان الخليلي” إلى الرمزية حين ماج المجتمع بالتحولات والتغييرات وتطاحنت الأفكار؛ ذلك أنَّه رأى في الرمزية المنهاج الملائم لتناول الصراعات الفكرية وأسباب التغيير ونتائجه. فعلى سبيل المثال في رواية “أولاد حارتنا” تناول محفوظ الصراع المزعوم بين العلم والدين، وفي رواية “ميرامار” ألقى الضوء على البَوْن بين القديم والجديد أو بين إرث الملكية والواقع الجديد وتنبأ بنهاية الأخير هو الآخر، وهناك الرواية الوجودية العظيمة “قلب الليل”.
الكاتب والمخرج المسرحي المجري لاجوس اجري الذي عمل أيضًا أستاذًا للمادة بأمريكا – شرح في مرجعه “فن كتابة المسرحية” ترجمة الأستاذ دريني خشبة أصول الكتابة القصصية بصفة عامة والمسرحية خصوصًا، وبيَّن الأركان الرئيسية للقصة، وهي المقدمة المنطقية والشخصيات والصراع، ثمَّ فصّل كل ركن وتناول عناصره وأنواعه. فعلى سبيل المثال أسهب اجري في مسألة نمو الشخصية وتبدل أحوالها، وهو أمر لا غنى عنه لأية شخصية رئيسية فنية في القصة أو المسرح أو السينما، كما أنَّ الأمر لا يدور في نطاق أكاديمي بحت وإنَّما يقصد الشخصية حين تنمو في أي اتجاه حسبما تواجه من ظروف على نحو يجعلها جديرة بدور البطولة في قصة وإلّا لما استحقت عناء الكتابة عنها.
وهذا النمو نجده متوافرًا بشدة في قصة “النداهة” ليوسف إدريس عندما تناول شخصية فتحية زوجة البواب، تلك الفلاحة الملتزمة التي بهرتها القاهرة بثقافتها ومعالمها فشدت على نفسها مئزر الحياء مجاهدةً معاكسات جارها حتى وقعت الواقعة وتمكن من اغتصابها ولم تفلح ساعتئذ مقاومتها. وقد ظهر نمو شخصيتها حين قادها زوجها عائديْن إلى الريف مهاجرين المدنية وذكرياتها الأليمة، فانسلّت منه عائدة إليها إذ كانت المدينة قد اقتحمتها واحتلّت نفسها تمامًا.
وتبدو صعوبة استجماع القصة القصيرة لتلك الأركان مع ضيق المساحة من ناحية وضرورة التكثيف ووحدة الحبكة من ناحية أخرى، على خلاف الرواية حيث تتعدد الحبكات ولا يوجد تكثيف. لكن الأستاذ يحيى حقي قد ذكر في كتابه “خطوات في النقد” الصادر أيضًا عن دار نهضة مصر ثلاثة صور للقصة القصيرة، هي القصة التجريدية التي تقدم صورة تجريدية تكتسب دلالتها من ذاتيّتها وحدها دون مقابلتها بصورة أخرى فلا رموز ولا مقارنات، وهناك القصة التي تعتمد على المقابلة بين النقيضَيْن وهذا نجده في قصة “الحرباء” لتشيخوف عندما تناول شخصية مفتش الشرطة المترددة بين تطبيق القانون على صاحب الكلب نتيجة قيامه بعضّ أحد الناس ثمَّ التحول إلى لوم المجني عليه بعدما علم أنَّ الكلب مملوكٌ لأحد الجنرالات، وثمة القصة ذات البعدين أو المظهرين الباطني والخارجي حيث الرموز والإسقاط. كما دعا حقي إلى البعد عن الإسهاب دون سبب وإطلاق الألفاظ بغير ضابط وذكر ما وصفه بـ”حتمية الكلمة”، أي لا تستخدم الكلمة في السرد إلا إذا كانت هي الكلمة المنطبقة التي لا يغني عنها مرادف والتي بدونها يختل المعنى. وعلى ضوء بناء لاجوس اجري وهندسة يحيى حقي يمكن إخراج قصة قصيرة مكثفة ومشوقة.
إنَّ دعوتي إلى التفرغ لكتابة القصة القصيرة ليست دعوةً إلى أن يترهبن لها الكاتب معتزلًا الرواية أو المسرح، بل أن يعطيها الكاتب حقها كما يعطي الرواية وأن تتنوع إصداراته بينها وغيرها، مثلما تنوعت في الماضي كتابات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم بين الرواية والقصة والمسرحية.