عندما يكون الأدب “أكثر إنسانية”
الأدب، هذه الكلمة الكبيرة الملهمة، التي بمجرد أن يتم لفظها يتحرك مع حروفها قلوب وأفئدة كل المتيمين والمغرمين بها. الأدب ببحاره الواسعة، بشعره، بنثره، بصنوفه وألوانه الفضفاضة التي تسع كل لغات وكلمات وأساليب وأفكار العالم بأسره.
الكثير منا يحب الأدب كثيرًا، ويسعى منذ الإدراك العقلي له إلى الاطّلاع الواسع والنهل من بحار الأدب الواسعة، لا سيما إذا كان صنوف الأدب التي نتناولها تروق لنا، فالذي يحب نوعًا من الأدب، يروقه الاطّلاع على الكثير منه، بكل لغات العالم، بكل أفكار العالم، لكل الكُتَّاب، مغمورهم قبل الشهير، حتى يرض نفسه التوَّاقة ذات الفضول، والتي تجد كل المتعة في أن تنهل من مصدر سعادتها.
وبين صنوف وألوان الأدب المتعددة، نجد أنفسنا بشكلٍ أو بآخر نميل إلى ذلك النوع من الأدب الذي يتحدث كثيرًا عنّا، الذي يحكي سيرتنا مع الحياة بشكلٍ أو بآخر، الذي يتناول مشاكلنا ويعطينا حلولاً قد تناسب طبيعتنا البسيطة، نجد أنفسنا بشكلٍ أو بآخر نميل ميل هائمٍ إلى ذلك النوع من الأدب، والذي يسمى: “الأدب الإنساني”.
والهائم في مروج الأدب، باختلاف اللغات والشخوص والجنسيات، سوف يدرك أن البيئة والعوامل المحيطة بالأديب، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، وغيرها من العوامل المؤثرة، سوف تترك أثرًا وانطباعًا كبيرًا على شخصية ونفسية الكاتب، وبالتالي سوف تؤثر بشكل مباشر في طبيعة كتاباته.
وعليه فإن أغلب المجتمعات الأدبية التي عانت من المشاكل والتقلبات الإنسانية الكبيرة، هي التي أفرزت لنا أدبًا اجتماعياً إنسانيًا نفسيًا عظيمًا، وهي التي ترقى إلى أن يُطلق على أدبائها: رواد الأدب الإنساني العالمي.
ومن بين الجنسيات الأدبية المتباينة، وعبر الأزمنة والعصور، يبرز لنا الأدب الروسي كأحد أكثر أنواع الآداب تأثرًا بالبيئة المحيطة، وأيضًا أكثرها تأثيرًا بالبيئة والناس، ويُعد الأدب الروسي واحدٌ من بين أهم أنواع الأدب الإنساني والاجتماعي عبر الزمن.
منذ أن بزغت شموس أدباء روسيا العظام وخاصةً في القرن التاسع عشر، في وقتٍ كانت تعاني فيه روسيا القيصرية الكثير من الانتكاسات المجتمعية، ويعصف الفقر بأهلها، وتغيب عن أحيائها العدالة الاجتماعية بكل أركانها، هؤلاء الأدباء الذين تأثّروا بهذه الظروف، وتركت بنفوسهم علامات غائرة، وعليه فقد أخذوا على عاتقهم أن يكونوا لسان أمتهم وشعبهم وأهلهم في صياغة هذه المآسي المجتمعية، وعكس هذه الأوضاع وتوضيحها، خاصًة لدى أُولي الأمر، والذين كانوا من المتابعين لأعمالهم.
باختصار كانوا لسان الشعب ومرآة واقعه، أعمالهم صنعت الحالة الإنسانية لبيئتهم المعاصرة، فجعلت من أسمائهم رمزًا لكُتَّاب الشعب، خالدي الذكر في زمنهم، وفي كل الأزمنة والعصور.
لو تناولنا الكُتَّاب الروس منذ بوشكين والذي كان يُلقب بأمير الشعراء الروس، مرورًا بجوجول، ديستويفسكي، تولستوي، تشيخوف، مكسيم جوركي، وغيرهم الكثير، ولكن قد يكون هؤلاء هم الأكثرة شهرةً وتميزًا أدبيًا.
عند تناول سيَرهم الذاتية قبل الأدبية، سوف نجد إثباتًا رائعًا لما تناولناه من قبل، ألا وهو أنهم كانوا بالفعل كُتَّاب الشعب، الذين خرجوا من رحم المعاناة ليعكسوا الواقع المؤلم لشعبهم البائس وقتها، وحتى وإن كان بعضهم ثريًا بحكم النشأة مثل تولستوي، إلا أنه قرر في الأخير أن ينحاز لعامة الشعب، وأن تكون خاتمة حياته خير برهانٍ لما عاش عليه وآمن به.
وعند تناولنا لبعض هذه السِير قد نجد فيها الكثير من القيم والعبرات التي تستحق أن نأخذ منها لمحةً، وشعلة أملٍ ونور.
ليو تولستوي:
الأديب العظيم ليو تولستوي والذي ولد عام 1828، صانع ملاحم الحرب والسلام وآنا كارنين، تولستوي الذي بدأ حياته كأحد النبلاء، وأنهاها وحيدًا في محطة قطار، فقيرًا مشردًا، حتى أن الكنيسة رفضت أن تصلي عليه.
إنه تولستوي صاحب المتناقضات، ومفجر العواصف والأزمات، ذلك الثري الذي اختار أن ينهي حياته فقيرًا بإرادته واختياره، ذلك الصالح الذي انشق عن الكنيسة.
تولستوي وهو في قمة مجده الأدبي، وبين حياة الرغد والدّعة، قام في العام 1879م بصياغة كتابه “اعتراف” وأتبعه بكتاب “ماذا علينا أن نفعل؟”، واللذان أحدثا ثورة أدبية سياسية في مجتمعات الصفوة الثقافية والسياسية، وهالهم صنيعه، ووصفوا أفكاره بالمتطرفة، بينما استقبلها البسطاء بترحاب وحماس شديد، فها هو ذا الأديب الكبير النبيل الأرستقراطي يكتب عنهم وعن الأوضاع الاجتماعية البائسة، وينتقد بكل قسوة رجالات السلطة الروس وقتها بدءًا من القيصر، ويتهمهم بأنهم المسؤولون عن ظروف الفقر المدقع التي يعاني منها أبناء وطنه الروس،خاصًة الفلاحين.
تخلَّى تولستوي بكل بساطة عن الترف والرغد الذي كان يحياه، لينضم إلى معسكر الفقراء، ويبدأ في صياغة نوعٍ آخر من الأدب يناصر به المُعدمين والمُهمشين.
ارتضى تولستوي لنفسه أن يتنازل عن كل مظاهر الغنى والترف، وقام بتوزيع جانب كبير من ثروته على الفلاحين، وقام بفتح مدرسة لتعليمهم، لتقوم السلطة بغلقها بعد ذلك أثناء خصومتهم معه، وأعلنت الكنيسة أنه منشقٌ نتيجة هجومه اللاذع عليهم، ولم تنته مأساة صراعاته إلا بتخلّيه عن منزله وانسحابه من حياته الأسرية، والتي كان يرى فيهم تناقضًا كبيرًا لأفكاره وقناعاته، وخاصًة زوجته، حتى انتهى به الأمر إلى أن يمرض ويموت وحيدًا فقيرًا.
أنطون تشيخوف:
وُلد أنطون تشيخوف في يناير من عام 1860م، كانت نشأته بسيطة في أسرة تعتبر فقيرة، ولم يعش طفولة سعيدة، أسرته ضمّت أكثر من فرد موهوب، بجانب تشيخوف.
كان يجبره والده على العمل في الحانوت الذي يملكه مع إخوته، فكان يقضي ساعات طويلة واقفًا على قدميه، مغالبًا الرغبة في اللهو والنوم، ومتحاملاً على نفسه من التعب، وفي هذا السياق قال تشيخوف عن نفسه حرفيًا: “في طفولتي لم تكن لدَّي طفولة”. وانتهت طفولته بنهاية تعيسة، فقد أفلس الأب، وهرب من الدائنين، إلا أن تشيخوف أكمل مسيرته التعليمية، واعتمد على نفسه في جلب الرزق البسيط، الذي استطاع من خلاله أن يلتحق بكلية الطب جامعة موسكو، ثم تخرّج وعمل بالطب فترةً قصيرة.
في هذه الفترة العصيبة من تاريخ روسيا، والتي كانت فيها من أشد الفترات ظلامًا ورجعية، وانهارت معها الحريات بشكل كبير، أخذت موهبة تشيخوف الأدبية تظهر للنور تحت إمضاء أعماله بأسماء مستعارة، فأخذ يكتب القصص القصيرة التي تُعبر عن حال الفقراء والمساكين، وسوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية في ذلك الوقت، وكأنما كان هو لسان هذا الشعب بشكل أدبي غير مباشر.
ظهرت قصصه القصيرة الفكاهية الساخرة، والتي تسخر بشكل لاذع من ذوي المناصب والألقاب والمنافقين مثل “البدين والنحيل” و”الحرباء“، وهناك القصص التي تحدّث فيها عن ذوي الطباع الفظة الذين يستعذبون إهانة الضعفاء مثل قصص “القناع” و”الكبش والآنسة”، كما تحدث عن ضعاف النفوس الذي يستسلمون لمصائرهم دون حتى محاولة احتجاجٍ أو تذمر مثل قصص “المغفلة” و”أنيوتا”، كما سخِر من الموظفين الصغار الذين يموتون خوفًا من غضب الرؤساء مثل قصة “وفاة موظف”، وغيرها العديد من الأعمال التي تناول فيها تشيخوف المجتمع بمبضع الجراح، الذي يرسل مبضعه في المكان الهام الحساس، الذي يحوي المشكلة والمرض، ويتناوله بشكل ساخر بسيط، لكي تصل الرسالة إلى قارئه بشكل عذب مباشر، ومن هنا كان أدب تشيخوف أحد أكثر ألوان الأدب إنسانيةً واجتماعيةً في حينها، ولا يزال.
في قصته القصيرة بعنوان “المغفلة” كان هذا الاقتباس:
“سألتها: Merci على ماذا؟
– على النقود.
– يا للشيطان، ولكني نهبتكِ، سلبتكِ! لقد سرقت منكِ! فعلام تقولين Merci؟
– في أماكن أخرى لم يعطوني شيئًا.
– لم يعطوكِ؟! ليس هذا غريبًا! لقد مزحت معكِ، لقنتكِ درسًا قاسيًا، سأعطيكِ نقودكِ كلها! ها هي ذي في المظروف جهزتها لكِ! ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزةً إلى هذه الدرجة؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألّا تكوني حادة الأنياب؟ هل يمكن أن تكوني مغفلةً إلى هذه الدرجة؟
ابتَسَمَت بعجزٍ فقرأتُ على وجهها: “يمكن!”
هذا الاقتباس يوضّح بشكل بسيط ومباشر طبيعة الكتابة الساخرة لتشيخوف، وكيف كان يصيغ التعابير والمعاني في شكلٍ ساخر حانق، لتعطِ الانطباع المطلوب لدى جمهوره من القرَّاء.
في عام 1890م يقرر تشيخوف أن يقوم برحلة شاقة إلى جزيرة سخالين، وهي جزيرة تقع بأقصى الشرق الروسي، قاطعًا مسافة قدرها أكثر من عشرة آلاف كيلو متر، معرضًا نفسه لكل أشكال المخاطر، حيث المرض والبرد والحيونات الضارية، ليصل إلى جزيرة سخالين والتي قال عنها: “أرض المعاناة التي لا تُطاق”، ويقوم بدراسة استقصائية عن أحوال السجناء والمنفيين هناك، ويقدمها في صورة دراسة اجتماعية أدبية بعنوان “جزيرة سخالين”، ويصاب تشيخوف أثناء هذه الرحلة بمرض “الدرن الرئوي” وهو المرض الذي كان سببًا مباشرًا في رحيله المبكر عن العالم.
وأثمرت هذه الرحلة البائسة الشاقة أيضًا عن روايته القصيرة “عنبر رقم 6″، وأدت هذه الرحلة إلى تغيير مجرى حياة الكاتب كاملاً، فبعد عودته، انتقل إلى الريف، وأمضى حياته بعد ذلك في خدمة وعلاج الفلاحين ومكافحة الكوليرا، وبناء المدارس على حسابه الخاص، وجمع التبرعات لمنكوبي المجاعات، وظل الأمر هكذا حتى وافته المنية بعد ذلك.
فيودور دوستويفسكي:
في روايته الشهيرة “الجريمة والعقاب” كان هذا الاقتباس:
“أيها السيد الكريم، ليس الفقر رذيلة، ولا الإدمان على السُكْر فضيلة، أنا أعرف ذلك أيضًا، ولكن البؤس رذيلة أيها السيد الكريم، البؤس رذيلة”.
دوستويفسكي الذي وُلد في موسكو عام 1821م، كان والده طبيبًا وظلّ يترقّى حتى وصل إلى طبقة النبلاء، طفولته التي عاشها بأحد الأحياء الفقيرة في موسكو، وبالقرب من مستشفى للفقراء، حفرت في ذهنه مشاهد ولحظات للبؤس، والذي عكسه في كثير من أعماله بعد ذلك.
توفيت والدته وهو في الخامسة عشر، والتحق بعدها بمعهد الهندسة العسكرية، ليعمل مهندسًا بعد التخرج، ويعيش حياة الترف والبذخ. بدأ حياته الأدبية بالترجمة بجانب الكتابة، وكتب روايته الأولى المساكين وهو في بطرسبرج، والتي أدخلته في دائرة الضوء الأدبية. ونتيجةً لانشغاله بقضايا الفقراء والمساكين والبؤس الذي يطل على الجميع برأسه، بدأ الانغراس مع مجموعات سياسية، تناقش الأعمال الأدبية الممنوعة وقتها في روسيا، والتي تتحدث عن النظام والحكم والسلطة، إلى أن تم اعتقاله عام 1849م، ليقضي أربع سنوات محكومًا عليه بالأشغال الشاقة، ثم بعد ذلك قضى 6 سنوات في الخدمة العسكرية القسرية في المنفى.
بعد ذلك عمل دوستويفسكي كصحفي، وانتقل إلى العديد من البلدان الأوروبية، ولكنه لم يصل أبدًا إلى مرحلة الإشباع المادي، وفي بعض الأوقات كان يلجأ إلى التسول.
دوستويفسكي عبّر عن كل التجارب التي عاشها ورآها بشكل غير مباشر في جُل أعماله، فكانت معظم أعماله تتحدث عن طبقة الفقراء والمُهمشين، كيفية تعامل الطبقات الدنيا في المجتمع مع ضيق العيش والمشاكل الأسرية والمجتمعية.
دوستويفسكي يعتبر أحد أعظم من قام بتشريح النفس البشرية في الكتابة، لدرجة أنك أثناء قراءتك للعمل قد تتوحد مع شخصيته التي رسمها، ويجعلك تفكر مثله، بل وتتنفس مشاعره وأحاسيسه، فتبكِ لبكائه وتضحك لفرحه، دوستويفسكي من بين قلائل من الكُتَّاب الذين يجعلونك تشعر بأن العمل الروائي عبارة عن حيوات كاملة تعيشها بين دفّتي كتاب، وتخرج منه لتعيد التفكير في مآلات الأمور.
دوستويفسكي أحد أعظم من كتب الأدب الاجتماعي الإنساني، والذي عكَس بقدرٍ كبير ظروف نشأته وطبيعة المجتمع حوله، لذا فقد خرج أدبه صادقًا معبرًا، ليصدقه الناس ببساطة، ويعيش بينهم أبد الدهر.
ختامًا:
- الأدب الروسي ما هو إلا نموذجًا معبرًا بحق عن الأدب الاجتماعي الإنساني الصادق، والذي كُتب ليعبّر عن حال الناس، ويجعلهم يتفاعلون معه.
- الأدباء العظام الذين تم ذكرهم، ما هم إلا نموذجًا ومثالاً للأدباء الروس، وهناك غيرهم كثيرين، قديمًا وحديثًا، ولكننا انتقينا بعضًا منهم فقط، والذين أوجدوا حالة كبيرة من الإلهام بين الجمهور.
- أخيرًا؛ إذا أردت أن تخلق أدبًا يعيش بين الناس، فاجعله أدبًا إنسانيًا اجتماعيًا، وحاول أن تتكلم بلسان الناس، وهذا وحده كفيلٌ بالخلود.