دوستويفسكي مفكرًا
يحاول هذا البحث القصير، أن يفك الغطاء الأدبي والصيغة الروائية التي عمد إليها عميد الأدب الروسي فيدور ميخائلوفيتش دوستويفسكي ، كاشفًا بذلك المعاني الفكرية والفلسفية المختبئة ورائها، وما إحداثيات هذه الطروحات الفكرية بين بقية المدارس ومواقف المفكرين والفلاسفة، مثل: ماركس وكانط وفرويد. في أهم المواضيع: التاريخ، الأخلاق، الحرية، التحليل النفسي.
الطريقة المعتمدة في فك الفكرة عن صيغتها الأدبية قائمة على مرجعين أساسين: الأول وهو “مذكرات قبو”، عبارة عن رواية قصيرة مكتوبة بأسلوب المذكرات، لخّص فيها دوستويفسكي أكثر طروحاته ورؤاه الأساسية، على لسان موظف حكومي في سان بطرسبورغ. الثاني -وهو لا يقل أهمية- “يوميات كاتب” المجلة التي صدرت في أواخر حياة الأديب (1878-1880) قبل موته (1881)، أين عرض أفكاره بلسانه، عن قناعة مدافعًا عنها ومبرزًا تفاصيلها. هكذا بالمرجعَيْن، تكون نسبة الآراء التي سيقدمها البحث قائمة على تقريرات صادرة، لا مجرد استنتاجات محضة، وفي نفس الوقت تحديد إحداثياتها بين غيرها من المدارس والمواقف الشخصية لأصحاب الفكر والفلسفة.
هذا النوع من الدراسة -فيما أعلم- نادرًا ما تم التعرض له، في حين غالبًا ما تم التركيز على دوستويفسكي كروائي فقط، والتركيز على الجانب التاريخي وحوادث حياته التي عاشها، أي سيرته الشخصية. على أن هذه المذكرة المقتضبة، لا تصلح أكثر من مدخل رئيسي يضع بعض النقاط في مكانها (بالتكثيف دون البسط)، لكنها ستركز على دوستويفسكي المفكر الفيلسوف.
مثل ما حوّل ماركس الفلسفة إلى سياسة وأعلن أن مهمة الفيلسوف تغيير العالم لا فقط تحليله (1)، وأنّ “على الإنسان أن يبرهن عمليًّا على الحقيقة، حقيقة فكره وقوته” (2)، كذلك دوستويفسكي اعتبر “الأسلوب الروائي هو الأسلوب الأمثل، والأكثر إقناعًا ووضوحًا للجماهير، من أجل نقل أفكاركم وقضيتكم التي تناضلون من أجلها في صور وشخصيات” (3)، و هذا ما دفع كثير من النقاد في عصره إلى اعتبار أدبه غريبًا وخارجًا عن النمط العادي، من حيث تشكيله لشخصيات رواياته، فضلًا عن أفكار الروايات وما تنطقه تلك الشخصيات، حتى كتب إلى ستراخوف يوضح ذلك قائلًا: “إن ما يسميه معظم الناس، خيالي وهمي واستثنائي، هو بالنسبة لي الواقع والحقيقة الأكثر عمقًا، وليس بالرواية أتمسك بشكل أساسي، بل بالفكرة”. (4)
هذه الفكرة لما تتجسد في شخصية فإنها تشكل قانونًا وتمثل الإنسان بما هو إنسان لا فقط حالة معينة باعتبار معين كما هو المعهود من كتابات الأدباء، فـ”بازاروف” -شخصية رئيسية للأديب تورغينيف- رجل أمّا راسكولنيكوف فهو الرجل. (5) إنه أدب يعكس الواقع بتفاصيله ومشاكله وتعقيداته على أفضل صورة ممكنة كأنها أحداث واقعية جرت في زمن معين، ليست من دماغ الكاتب على أنها في نفس الوقت تحوي فكرته الخاصة متناثرة بين مقاطع الروايات وكلمات الشخصيات، وهذا النوع من الإسقاط للواقع في شكل أدبي، الحامل في طياته بذور فلسفة معينة هو ما يمكن أن يعتبر كأي كتاب فكري فلسفي آخر، “لهذا وضعت روايات “فيدور دوستويفسكي” المسيحية في القائمة السوداء في الاتحاد السوفييتي للسبب نفسه الذي وضعت فيه لوحات زميله مارك شاجال في القائمة السوداء”. (6) إنها أكثر من أدب عادي، بل نسيج يعكس الواقع ويحاول إصلاحه، فهو أسلوب يختلف عن سابقيه مثل غوته في “فاوست” و شكسبير في “هاملت” (الطريقة المسرحية)، فنجد عند هذا الأخير مثلًا:
” هاملت: أترى تلك السحابة التي أخذت شكل الجمل؟
بولونيوس: نعم أراها، وأقسم حقًا بأنها حقًا في صورة الجمل.
هاملت: لكنني أحسبها أقرب إلى ابن عرس.
بولونيوس: الحق أن لها ظهرًا يجعلها كابن عرس.
هاملت: أو هي تشبه الحوت.
بولونيوس: إنها أقرب جدًا إلى صورة الحوت.” (7)
شكسبير هنا يتبع الأسلوب الرمزي في إيصال المعاني، أحيانًا أكثر من معنى في مقطع واحد، لكن عند دوستويفسكي نجد:
“إن كل سجين يعرف حق المعرفة أنه سجين ويعرف حق المعرفة أنه منبوذ ممقوت مكروه، ويعرف المسافة التي تفصله بينه وبين رؤسائه، ولكن لا الأغلال ولا القضبان تنسيه أنه إنسان فلا بد إذن أن يعامل معاملة إنسانية.” (8)
هنا الأسلوب المباشر الواقعي، لهذا سيشكل خطرًا إذا حمل معنى يخالف السوفييت عكس الطريقة المسرحية ولو حملت نفس المعنى، بحكم رمزيتها ومباشرية الأول.
على ماذا اعتمد دوستويفسكي كمرجعية ونقطة احتكام حتى يخلقها في كتابته الواقعية ويعالج الواقع من خلالها؟
الجواب فيما كتبه إلى السيد “فون فوزين” أنه فتى من هذا العصر، فتى عديم الإيمان والشك حتى الآن، وأعرف ذلك جيدًا (وحتى نزولي إلى القبر وأي عذاب مخيف يسببه لي الآن هذا التعطش، وهذا الشوق الشديد إلى الإيمان، الذي يبدو أكثر قوةً في نفسي لا سيما وأن الأدلة والحجج المناقضة هي أكثر عددًا، ومع ذلك، فإن الله يتيح لي أحيانا لحظات من السكينة وراحة البال التامة. وفي مثل هذه اللحظات إنما أنشأت في نفسي ممارسة للإيمان كل شيء فيها واضح ومقدس، وهذه الممارسة للإيمان بسيطة جدًا، وها هي: الإيمان بأن ليس هنالك أكثر جمالًا، أكثر عمقًا، أكثر جاذبيةً، وأكثر عقلانيةً وجرأةً وشجاعةً وأكثر كمالًا من السيد المسيح، لا يوجد أي شيء وحسب، ولكني أقول هذا بحب يتسم بالغيرة، لا يمكن أن يوجد هنالك أي شيء، وأكثر من هذا أيضًا، إذا برهن لي أحد ما أن السيد المسيح هو خارج نطاق الحقيقة، وإذا ثبت بشكل واقعي أن الحقيقة هي خارج نطاق السيد المسيح، لفضّلت أن أكون مع السيد المسيح، بدلًا من أن أكون مع الحقيقة.” (9)
إذن، يتبنى الفكر المسيحي الممثل في شخص السيد المسيح ويرفض خلاف ذلك من الاشتراكية -في عصره- إلى ما فوقها ودونها، وسيعمل على إظهار هذا الفكر في أعماله، بنقد ضمني للأفكار المخالفة مما يعطي منتجاته الأدبية سمة نوعية غير مسبوقة تصفها الناشطة في النضال من أجل حقوق المرأة بليينا أندرييفنا شتاكينشنايدر (1836-1897) في مذكراتها أنها “جهد و جهد جاهد ومثير للأعصاب… عندما تقرأ دوستويفسكي تشعر وكأنك قد وصلت فجأة بعد ان اجتزت طريقًا متعبًا، إلى غرفة لا تعرفها، وأناس لا تعرفهم وكل هؤلاء الناس يتزاحمون من حولك، ويتكلمون ويتحركون، ويروون أشياء في منتهى الغرابة، ويقومون بأفعال مفاجئة للغاية، ومع أن سمعك وبصرك يبلغان أعلى درجات التوتر، لكنك غير قادر على أن لا تنظر وألا تصغي، فكل واحد منهم يهمك أمره، وليس بمقدورك أن تنفصل عنهم، في حين أنك عندما تقرأ تورغينيف (وحتى روايته “دخان” ولكن “ليس الأرض البكر” بالطبع) تشعر كأنك تحتسي ماءً زلالًا، بيد أنك وسط تلك الزحمة في روايات دوستويفسكي تعثر على درر منثورة لم يكن لتورغينيف أن يحلم بمثلها، ولكن هذه الدرر لا يجب أن ننسبها إلى دوستويفسكي الروائي بل إلى “دوستويفسكي المعلّم” (10)، ولهذا كان دوستويفسكي أحد أهم الروائيين العظام، لأنه فيلسوف روائي (11) يفضل “الكتابة بالتصورات” (12) واثقًا أن الرسالة التثيقيفية هي التي يضطلع بها المظهر المحسوس (13)، “ولعله لم يتفوق على دوستويفسكي كاتب آخر في إعطاء العالم اللامجدي مثل هذه المفاتن المألوفة المعذبة” (14) التي حاولت إبراز الواقع في شكله الحقيقي وقد نجحت كما لم ينجح أديب آخر، معتمدةً في ذلك على منطلق مسيحي يرى أن “أفضلية يسوع المسيح على نابليون” كأفضلية سرعة الضوء على كرة المدفع، بعبارة فيكتور هوغو في “البؤساء”.
يقول ألكسندر سولوفييف عن هذا العمل -مذكرات قبو- من أعمال دوستويفسكي: “إن هذا الكتاب الغريب من أعمق آثار دوستويفسكي إن لم يكن أكملها على الإطلاق من ناحية الشكل (15)، ولا عجب من هذا فكثير من الشخصيات والمدارس حصّلت إلهامًا من هذا الكتاب، حتى ينسب إلى دوستويفسكي أنه مؤسس الوجودية به، مما سيؤثر بجون بول سارتر فيكتب “الوجودية مذهب إنساني” ويقتبس فيها دوستويفسكي من عمله الإخوة كارامازوف، أيضًا الوجود والعدم، كما تأثر به نيتشه، حيث يقول شيستوف، “لقد قرأ نيتشه مذكرات من قبو”، وأعجب بها إعجابًا شديدًا وليس من المستحيل أبدًا أن جملته المثيرة جدًا “فليهلك العالم، ولتبق الفلسفة، وليبق الفيلسوف، وهو أنا” ليست سوى ترجمة لعبارة رجل القبو لو سئلت ما تؤثر: أن يهلك العالم كله أو أن تحرم من احتساء نصيبك من الشاي، لقلت: “ألا فليهلك العالم شريطة أن أشرب الشاي دائمًا”. (16)
وعلى غرار عبارة نيتشه المستقاة من “مذكرات قبو” فرانز كافكا المتأثر أيضًا بعميد الأدب الروسي لمّا كتب رواية المسخ حيث تتحول شخصية غريغوري سامسا إلى حشرة ضخمة، لا يبعد أنه أخذها من حديث رجل القبو عن رغبته أن يكون حشرة، حيث يقول: “الآن أعلمكم أيها السادة، سواء أردتم أن تسمعوني أم لا، لماذا لم أستطع أن أصبح حتى حشرة، لأقولن لكم جاهرًا صريحًا أنني حاولت مرارًا أن أجعل من نفسي حشرة”. (17)
شخصية رجل القبو هذا لا يذكرنا بكافكا و كيركجارد و نيتشه فقط ، بل “نحن هنا نتصل بتيار بأسره من الفكر الأوروبي التشاؤمي الذي عرفه القرن التاسع عشر” (18)، على أنه حصّل أهميته لا فقط من أسلوبه الغريب بل سخريته من كل نظرية نفعية في إقامة الأخلاق، وهو يدين الفكرة القائلة بالأنانية العاقلة أساسًا لقيام مجتمع سليم، بل هو يرى أن بناء مجتمع كامل على أساس مبادئ منطقية أمر مستحيل، لأن الطبيعة الإنسانية تعارض ذلك، ولا شيء يغلب هذه الطبيعة الإنسانية إلا الإيمان. الإيمان: هذه هي النتيجة التي أراد دوستويفسكي أن ينتهي إليها، مفيضًا في الكلام عليها، ولكن الرقابة لم تتح له ذلك، وذلك ما يشتكي منه في رسالة بعث بها إلى أخيه ميشيل (ربما كان الاستغناء عن نشر الفصل السابق على الأخير برمته) وهو أهم الفصول لأنه يتضمن الفكرة الرئيسية (خيرًا من عرضه على هذا النحو جملًا مفككة متناقضة) “إن هؤلاء الرقباء الخنازير قد أجازوا نشر الفقرات التي أستهزئ فيها بكل شيء حتى لقد يشتمل ظاهرها على تجديف وزندقة، فلما انتهيت من كل ذلك ضرورة الإيمان بالمسيح أوقفوني عن الكلام.” (19)
وعدم نشر هذا الفصل الأخير الذي يحوي الحل الذي يقدمه دوستويفسكي (حله المسيحي)، قد يكون مبررًا لكثرة الملحدين الذين استفادوا منه، نيتشه وسارتر وألبير كامو، ممن تبنوا فلسفة إرادة القوة أو العبثية أو الحرية من منطلق وجودي، وهذه كلها تأسست على الفكرة التي يطرحها رجل القبو، فكرة الحرية كمحرك للتاريخ ومؤسس للأخلاق، دون أي قوانين عقلية ومادية ثابتة، التي يسميها بلفظه “جدار” يقول: “وإذا قلنا المستحيل فقد قلنا جدارًا من حجر، ولكن ما هو هذا الجدار؟”
“هو القوانين الطبيعية بداهة، هو ثمرات العلوم الدقيقة، ونتائج الرياضيات، فإذا برهن لكم مثلًا على أنكم من سلالة القرود، لم يكن يجديكم أن تصعروا وجوهكم، وكان عليكم أن تقبلوا هذا وأن تسلموا به، وإذا برهن لكم على أن قطرة واحدة من شحمكم أنتم يجب أن تكون أغلى عندكم وأعز على أنفسكم وآثر في قلوبكم من مائة ألف من البشر أقرانكم، وأن هذا بعينه ما تؤدي إليه جميع الفضائل، وجميع الواجبات، وجميع ما إلى ذلك من خيالات وأوهام، لم يكن لكم حيلة في دفع هذه الحقيقة وجحود هذه الواقعة، وإنما كان عليكم أن تسلموا بذلك لأن 2×2=4، فذلك من الرياضيات”. (20)
لكنه سرعان ما يرفض هذه العلوم الدقيقة، موضحًا أنه يرى “حينئذ سيدًا من السادة خاليًا من الأناقة والكياسة، رجعيّ الوجه ساخر الهيئة، يهب واقفًا وسط تلك السعادة والهناءة واضعًا قبضتي يديه على خاصرتيه، قائلًا: “هيه، أيها السادة، ألا رمينا في التراب، بركلة واحدة، كل هذه السعادة العاقلة، لا لشيء إلا لنرسل هذه اللوغارتيمات جميعها إلى الشيطان، وأن نستطيع استئناف حياتنا على ما يشاء لنا خيالنا وهوانا”.” (21)
ثم يعلل هذا الانقلاب، وأن الإنسان غير خاضع في حقيقته للطبيعة وقوانينها، إذ هو “أيًا كان يتطلع إلى في كل زمان ومكان أن يعمل وفقا لإرادته لا وفقا لأوامر العقل والمصلحة، وإرادتكم يمكنها، بل (يجب عليها) أحيانًا أن تناقض مصالحكم، فإرادتي الحرة، ومشيئتي الطليقة، ونزوتي مهما تكن مجنونة، وبدوات خيالي مهما تكن مهتاجة محمومة، ذلكم هو بعينه الشيء الذي يغفلونه ويسقطونه من الحساب، تلكم هي المصلحة التي هي أغلى وأثمن من سائر المصلحات، والتي لا يمكن أن تجد لها مكانًا في تصنيفاتكم، والتي تحطم جميع المذاهب وجميع النظريات ألف جزء”. (22)
دوستويفسكي في هذه المذكرات ناقش أحد أعوص المسائل، مسألة الحرية، وسنرى لوازمها التي قررها، بخصوص المجتمع في نفسه وبخصوص المجتمع التاريخي ككل، لذا كان مثل هذا العمل نقطة مهمة جدًا في حياته الفكرية، ونقطة مرجعية بالنسبة لشخصيات كثيرة استفادت من هذا العمل.
المصادر 1 بؤس الفلسفة _كارس ماركس 2 أصول الفلسفة الماركسية _جورج بوليتزر 3 دوستويفسكي_الهيئة العامة السورية للكتاب 4و5 دوستويفسكي حياته و أعماله_هنري ترويا 6 الإسلام بين الشرق و الغرب_علي عزت بيجوفيتش 7 هاملت_وليام شكسبير 8 ذكريات من منزل الأموات_دوستويفسكي 9 دوستويفسكي حياته و أعماله_هنري ترويا 10 يوميات كاتب_دوستويفسكي 11و12و13و14 اسطورة سيزيف_ألبير كامو 15 المجلد 6 من الأعمال الكاملة لدوستويفسكي ، مقدمة المترجم سامي دروبي 16 دوستويفسكي – الهيئة العامة السورية للكتاب 17 مذكرات قبو – لدوستويفسكي ، ترجمة سامي دروبي 18 المجلد 6 من الأعمال الكاملة لدوستويفسكي ، مقدمة المترجم سامي دروبي 19 المجلد 6 من الأعمال الكاملة لدوستويفسكي ، مقدمة المترجم سامي دروبي 20 مذكرات قبو – دوستويفسكي ، ترجمة سامي دروبي 21 مذكرات قبو 22 مذكرات قبو