فيلم Master Of The World الإلَه الصغير يُعلِن مَوْت الإنْسَان القديم
مثل العديد من الأعمال السينمائيَّة التي يؤدِّي أحد أدوارها الأساسيَّة المُمثِّل الأمريكيّ “فينسنت برايس”، نستطيع أم نلمس نفوذًا هائلًا في شخصياته المتعدِّدة التي تشترك فيما بينها بصفاتٍ مثل القوَّة، والغَطْرَسة، والشعور بالتفوَّق، والشَرّ مع المكانة الاجتماعيَّة العاليَّة. وهي نماذج تأسر المُشاهِد وربما تقنعه أو تجعله متعاطفًا مع هذه الشخصية التي يتابعها على الشاشة.
لقد برع هذا المُمثِّل في تأدية أدواره التي عُرِف بها غالبًا كـ « ضدٍّ للبطل Antagonist»، ويختلط علينا التميِّيز أحيانًا بين صراع الخير والشرِّ الذي ينخرط فيه، وكأنَّه يتقوقع على شخصية الشخصية الرئيسية الخيِّرة لا ضدُّها، الشيء الذي يجعله مميَّزًا بكاريزماه الغريبَّة التي تلاحقه في السينما.
العُنْف هو الحلُّ:
في هذا العمل المُعنوَن بـ «سيد العالم – Master Of The World» المُقْتَبس عن رواية جول فيرن الخياليَّة، يتقمَّص فينسنت برايس دور قبطان سفينة حربيَّة يعلن من خلالها الحَرْب على الحَرْب للقضاء على الشُرُور وإحلال السلام بين البشر في رؤيَّة طوباويَّة عمادها الأوَّل هو العُنْف.
يكفينا التعرُّف على طموحاته لنعتبره رجلًا انقلابيًّا يقلب الطاولة على البشريَّة وربما صاحب ثَّوْرَة تكنولوجيَّة جديدة. فإذا كانت الثَّوْرَة حسب الفيلسوف الفرنسي ريمون أرون “تعويض نظام بنظامٍ آخر عن طريق العُنْف”(1)، فإنَّ هذا هو مراد سيد السفينة، وإذا اعتُبِرت حسب ألبير كامو “محاولة تشكيل الفعل على نموذج فكريّ أو مثاليّ”(2)، فهذا بالضبط ما يُكرِّسه من مجهودات لتحقيقه حين ينشر عُنْفه على الجميع لأجل ولادة عالَم جديد بعد هدم الآخر الكلاسيكيّ.
يتمركَّز الفيلم حول سفينته الأولى من نوعها التي تسبح في السماء مع طاقم من الملَّاحين والبحَّارة الذين تحت إمرته. إنَّ التكنولوجيا الجديدة التي بإمكانها مُحاربة الأساطيل البالية والعساكر، تُقدِّم مفهومًا جديدًا للحَرْب وتَسْخَر من البدائيَّة التي تغرق فيها مصانع الأسلحة مع الاعتماد على العنصر البشريّ كجسدٍ ضعيفٍ يَقتُل ويُقتَل.
إنَّ اسم سفينته هو “الباتروس”، والباتروس هو اسم أحد الطيور التي يتميَّز بسرعته في التحليق وصموده وسط العوامل الجويَّة الصعبة. كما توجد شركة للطائرات بهذا الاسم عُرِفَت بطائراتها الحربيَّة.
من الواضح أنَّ اختيار هذا اللقب لا يوحي فقط بقدرة هذا الاختراع، بل يحمل في مدلولاته تحدٍّ ومقاومة لصناعة الطائرات القتاليَّة، فالباتروس الآن هي سفينة همُّها الأقصى القضاء على الظلم. غير أنَّها تطرح مشكلةً تتلخَّص في التساؤل عن تأثير هذه الصناعات الحديثة علينا. فمن سوف يضمن لنا بناء عالَم نظيف ذو مثل عليا وفضائل عن طريق سلاح متقدِّم ومدمِّر صُنِعَ فقط حسب رؤيَّة صانعه لأجل خطته الخيريَّة وليس لغرضٍ ثانٍ؟ ومن يضمن عدم انحراف وجهة هذا المشروع النبيل في هدفه والمؤذ في وسائله نحو مزيدٍ من الحُروب المتطوِّرة والأكثر فتكًا عن السابقة؟
إنَّ الساديَّة التي تعتري القائد وهو يقذف بقنابله إلى الأرض وعلى البحر فرحًا بذلك. تجعلنا نشكُّ في صحَّة مزاعمه، حيث يظهر فيها بمنظر طاغيةٍ ولِدَ في هذا العصر، لحتى يبدو الأمر أنَّ الإنسان شرير في ذاته مهما أرَّقته الحَرْب وادَّعى الخير لمحوها، إنّه ينتظر فحسب فرصة الإمساك بالسُّلْطَة ليصبح كغيره، وربَّما يجسِّده لنا العمل كرجلٍ يعيش مع تناقضاته، فهو مخلِّص ومجرم حَرْب في نفس الوقت، ومهما وجدنا الخير داخله إلَّا أنَّ غرائز الشَرّ دائمة البقاء فيه تجعل موازين فكره تختَّل.
الإلَه القُبْطَان:
يُفتتَح الفيلم بمقاطعٍ تاريخيَّة عن محاولات البشر اختراع الطائرة، وفي جوٍّ عجائبيٍّ تدشِّنه مَشاهِده الأولى، نعثر على بلدةٍ يعيش سُكَّانها حالة من الارتياع والخوف، بسبب صوتٍ عظيم آتٍ من ناحية جبل وتحديدًا من بركانٍ خامد يخاطبهم عبر الاقتباس من سفر اشعيا المحذِّر للأُمَم، في صورةٍ حيَّة تخلق في مخيالنا يوم الدينونة التي يترأسَّها الإلَه.
يحدث أن يقوم بعض الأشخاص الذين ينتبسون إلى عائلاتٍ تمتلك مصانع أسلحة وشخصيات سياسيَّة باستكتشاف البركان ومعرفة مصدر الصوت، ليختطفهم القُبْطَان في سفينته ويرجع إلى سمائه.
يبدو هذا الرجل شخص يائس لا يعوِّل على خير عالَمه المُعاصِر، وليس بإمكانه إمْهَاله أيّ فرصة أخرى لإصلاح أخطائه، فيقرِّر بدء معاركه ليكون هو الطرف المُهاجِم أمام عجز الآخرين في مهمة لقتل الإنسان القديم لينبعث الجديد. فهو الآن المُسيطر على السماء بهذا الاختراع الاستثنائيّ الذي يجعله سَيِّد العالَم.
ويطِّل من نافذة السفينة لينظر إلى ما يوجد تحته: أنهارٌ وجبال وحقول جميلة مع مدن وبشر، لكن المنظر ليس بهذا الجمال والهدوء. فهو يستطيع أيضًا رؤيَّة حَرْب قائمة بين جيشين، لترتفع مؤشِّرات انزعاجه وسخطه على حال البشريَّة، وكأنَّه إلَهٌ جالس على عرشه ينظر إلى عمل الإنسان فيقرِّر قصفه بقنابله.
نقرأ في العهد القديم: “ورأى الرب أن شرّ الإنسان قد كَثُر في الأرض، وأن كل تصوُّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسَّف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم”(3).
أما في كتاب الأكاديميَّة مينيكه شيبر الذي يختص بالمقارنة بين الأساطير، فنجد في أحد الأساطير الليتوانية:
“عندما نظر برامزيماس، الإلَه الأعلى، من نافذة مستقره السماوي، لم ير إلا الحَرْب والظلم بين الناس، فأرسل عملاقين هبطا إلى الأرض الآثمة: (واندو) و (ويجاس)؛ الريح والماء. طوال عشرين يومًا، قاما بتدمير كل ما كان موجودًا”(4).
ونقرأ كذلك عن أحد الأساطير الآهومية في جنوب آسيا: “مرَّ الزمن وعندما نظر القدير من فوق عرشه الذهبي في أعلى سماء، رأى أن الأمور سافرت بشكل خاطئ في العالم..”(5)
تقترب شخصية الفيلم من الإلَه الإبراهيميّ الذي عرف بعقابه البشر وتصفيتهم لأجل الإعداد لنظامٍ جديد للخليقة. من دون أن يكون ذلك ممكنًا، فالقتل والفساد حاضران إلى اليوم. ومثلما فعل الله مع شعوبه، فإنَّ الإلَه الصغير المدعو روبر، قد مزَّق آخر حبال آماله بالعالَم إلى درجة أنَّه اتخذ قراره بتنقيته عبر الحَرْب التي تحصد الأرواح، لكن وأمام تأكيداته على الانحطاط الذي وصل إليه البشر، فالاعتماد على معركته هذه لترويضهم نحو بناء عالَم مثالي ومستمر ليس بالشيء الذي يمكن أن نؤمن به بسهولة.
الحَرْب والأخلاق:
يُناقش فيلم Master Of The World مسائل وقضايا فلسفيَّة أخلاقيَّة حول جدوى الحَْرب والقتل حتى لو كانت لهدف الدفاع عن الأرض أو إزالة الشَرّ من جذوره، فهل قتل عدد من البشر لأجل ألا يموت في المستقبل بشرٌ غيرهم يعدُّ فعلًا أخلاقيًا؟ وهل موت الأبرياء من دون أن يكون لهم يَدّ فيما يحصل على طاولة الكبار فعل أخلاقي أيضًا؟ وهل اللعب بأرواح الشعوب لأجل بناء مستقبلٍ لسنا متأكدِّين منه يحتوي على قيمة أخلاقيَّة أم يخلو منها؟
يبدو روبر منقادًا إلى فلسفات عواقبيَّة وبراجماتيَّة معًا لا تهمها الوسائل بل النتائج الجيِّدة التي تكفل للجماعة العَيْش في سَّلامٍ ورفاه إلى جانب جميع تلك الشعارات الرنَّانة الشبيهة بالحلم الأمريكيّ أو العصور الذهبيَّة مع فراديس الإنسان الضائعة.
فشرط السَّلَام هو الحَرْب، هذا ما يؤمن به، وقبله الفيلسوف أرسطو، الذي كان يعتبر الحَرْب عاملًا لقيام السَّلام وتنظيم المجتمع، يقول: “السَّلَام هو الغاية من الحَرْب”(6)، لكن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يردّ على أرسطو بعد عِدَّة قرونٍ حين يقول: “الحَرْب سيِّئة لأنها تخلق من الأشرار أكثر مما تزيل”(7).
يوجِّه روبر إنذاراته إلى الحكومات ويدعو فيها إلى ترك جميع أسلحتهم. تُذكِّرنا الدعوى بالحلول التي اقترحها نيتشه حول نزع السلاح وتسريح الجُيُوش فما دام كل بلدٍ متشبِّث بأسلحته فهو عازم عاجلًا أم آجلًا بالقيام بحَرْبٍ محتملة، كما كَتب جوستاف لوبون: “كلَّما صارت الشعوب سلميَّة أمعنت حكوماتها في التسليح”(8).
ينتهج روبر فلسفة خاصة به شهدناها عند عِدَّة فلاسفة مثل الفيلسوف الكلبي ديوجين، والرواقيِّين. فهو عندما يُسأل عن قوميَّته ووطنه يجيب بأنَّه ليس لديه أيّ قوميَّة وانتماء لأيّ بلدٍ، فهو مواطن عالميّ وكوني، وربما يعود موقفه هذا إلى اعتبار التعصُّب للوطن والقوميَّات من بين أهم العوامل التي تمهِّد للحروب.
وعلاوة على ما ذُكِر، يحمل فيلم «سيد العالم Master Of The World» حوارات ممتعة وسُّخْريَّة من بعض الأشخاص الذين يدَّعون الوقوف مع السَّلام والإيمان بالتحضُّر والعدالة، بينما نجدهم يملكون مصانعًا للأسلحة! شخصية السيد برودنت، على سبيل المثال، مالِك أحد أهم المصانع في صناعة البؤس والموت الذي يصف روبر بالمجنون. يرد عليه هذا الأخير:
“ليس هناك من شيءٍ يثير الجنون أكثر من أن تكون مالِك مصانع منتجاتها تتسبَّب في قتل الملايين… لكن لقتل المئات وحتى الآلاف بهدف وضع نهاية لهذا الموت. هذا جنون!”
ينتصر فيلم سيد العالم في النهاية إلى مُلَّاك مصانع الأسلحة والأشخاص الطيبون السُذَّج مثلما صوَّرهم العمل، على عكس روبر الذي فضَّل هو ورجاله البقاء في سفينته المُحطَّمة والموت فيها كقبطانٍ وفيٍّ لمبادئه، هي نهايةٌ تذكِّرنا بأحد أفلامه (dragonwyck)، التي قام بتأدية بطولتها مع المُمثِّلة جين تيرني، وكيف فضَّل فيها أيضًا الموت على كرسي أجداده كسيدٍ إقطاعيٍ انقلب عليه الفلَّاحون.
ليس بالإمكان الثناء على الفيلم من ناحية تقنيات التصوير أو المؤثِّراتٍ البصريَّة، فهو لا يشبع العين كما ينبغي، إلا أنَّ فكرته وحواراته لديها القدرة على سدّ النقص السابق والاستمتاع به إلى جانب شخصية روبر الذي نحتار بين وصفه بالخير أم الشرّ.
مراجع:
1 – سواريت بن عمر، جان بول سارتر والثورة “الثورة الجزائرية نموذجًا” (مجلة الحوار الثقافية مجلة أكاديمية محكمة، 2012/9/21) ص289-291
2 – المرجع نفسه.
3 – سفر التكوين [6 :5-7]
4 – مينيكه شيبر، ومن بعدنا الطوفان حكايات نهايات البشرية، ترجمة: عبد الرحيم يوسف (دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات،2020) ص83
5 – المرجع نفسه، ص73
6 – سيجموند فرويد، وألبرت أينشتاين، لماذا الحرب؟ ترجمة: جهاد الشبيني (منشورات تكوين، ط1، الرافدين، 2018) ص18
7 – المرجع نفسه، ص19
8 – جوستاف لوبون، الآراء و المعتقدات، ترجمة: عادل زعيتر (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ط1، 2014) ص87