رسائل الحب المذهلة بين خليل جبران وماري هاسكل
"أرقّ ما يحوي أدب الرسائل"
أنتِ روح عظيمة، تلزم الفرد وتصاحبه وتأبى بعد أن تشاركه حياته، إلا إن تضيف إليها. تعرّفي إليك أجلّ ذكرى تحملها أيامي ولياليّ، ذكرى معجزة تتمرد على تراتيب وتصاريف الطبيعة. _ خليل جبران
حتى وقد أوشكت أعوامٌ مائة تمر على وفاة الرسام والشاعر والفيلسوف اللبناني الأمريكي خليل جبران (6 يناير 1883- 10 أبريل 1931) فما زال يحتفظ بالمكانة والتقدير العالمي لشخصه كأحد أهم الأصوات الناطقة عن الحقيقة وفضيلة التسامي، أما عن جبران فما كان ليوفّي صورته التي خبرنا وأحببنا لولا ماري إليزابيث هاسكل المعطاءة السخية وراعية الفنون، بطلة حياته بجدارة، ومعاونته الدائمة، وقصة حبه المتفرّدة.
التقى هاسكل وجبران في العاشر من مايو عام 1904، في مرسم أحد الأصدقاء، كان عمره واحدٌ وعشرون عامًا بينما كانت تقترب هي من الواحد وثلاثين، أُعجبت هاسكل بفن جبران، وعرضت عليه بعدها إرساله إلى باريس لدراسة فن الرسم، على أن تزوده براتب شهري قدره 75 دولارًا، أي ما يعادل في يومنا هذا حوالي 2000 دولار، قبِل خليل جبران العرض، قبل فترة وجيزة من مغادرته إلى باريس في عام 1908 كتب جبران رسالة إلى صديقٍ وصف فيها هاسكل بأنها “ملاك في صورة أنثى، تباركني وترشدني نحو مستقبل رائع وتمهد لي الطريق إلى نجاح على الصعيدين الفكري والمالي“، بعد وقتٍ قصير من وصوله إلى العاصمة الفرنسية كتب: “سيأتي اليوم الذي سأتمكن فيه من القول: لقد أضحيت فنانًا صنعته، بفضل ونعمة، ماري هاسكل“.
لكن سخاء هاسكل تعدى أياديها التي مُدت بالخير، إلى قلبها الذي تساوت نفحاته بذات درجة الكرم، وبث من لدنه عطفًا أعظم، سرعان ما أردى خليل جبران مفتونًا به، انفتحت عينه لرؤيتها بعيدًا عن المصالح المادية، كروحٍ تتآلف مع روحه، كامرأة تحمل حنانًا فريدًا استثنائيًا، كإنسانٍ بعزيمة تبغى التوغل داخل أشد منحنيات روحه تعرّجًا، أو حتى الصعود حتى أعلى قاماتها لتتفهمه.
نما حبهم العظيم الخالد أبدًا وأينعت قطوفه في رسائلهم المنشورة في كتاب النبي المحبوب: رسائل حب خليل جبران وماري هاسكل، والذي نعرض بعض مقتطفاته فيما يلي:
في واحدٍ من أولى خطاباته إلى هاسكل من باريس، يرسم جبران بكلماته عن أعظم منح وعطايا الحب، أن يستطيع المحب أن يراك على صورتك الحقيقية والحقّة.
عزيزتي ماري، أقرأ رسائلك عندما يعتريني الحزن، عندما يغمر الضباب روحي، أنتقي خطابين أو ثلاثة من الصندوق الصغير وأعيد قراءتها، هي تذكرني بمن أكون، تجعلني خطاباتك قادرًا على تجاهل كل قبح ورداءة أجدها في الحياة، لكل فرد منا، يا عزيزتي ماري، مكان ما تسكن فيه دواخله، أما روحي أنا فتطمئن في بستان بديع يحيى فيه وجودك ومعرفتي بكِ.
بحلول عيد الميلاد المجيد من نفس العام، كتب إليها:
أستعيدك اليوم يا صديقتي الحبيبة، كما لا أفكر في حيٍ آخر على الأرض، عندما أتدبر فيكِ تصبح الحياة أفضل وأسمى وحتى أكثر جمالًا، أقبّل يديك عزيزتي ماري، وحين ألثم طرفها أتبرّك وأتبارك.
على مدار العام التالي توطدت علاقتهم، تسجل هاسكل التسلسل المحوري للأحداث في مذكرتها في اليوم السابق لميلادها السابع والثلاثين في عام 1910:
قضى خليل جبران الليلة هنا، أخبرني أنه يحبني، ولو استطاع لتزوجني، لكني أخبرته أن سنّي يجعل الأمر غير مطروحًا للنقاش أصلًا.
“ماري”، قال، “حينما أحاول مجاراتك في الحديث، أجدك تفلّين هاربة إلى مناطق بعيدة لا أستطيع إتيانها، ولكني أحملك معي” قال. أجبته أنني أريد أن أحفظ صداقتنا آمنةً من فساد قد يعتريها إثر علاقة حب ضعيفة غير حقيقية، كان ذلك بعد أن فسّر لي خليل ما يقصده.
في اليوم التالي، في ظهيرةٍ كان قد قضى خليل بعضها هنا، أخبرته أنني موافقة.
لكن في الربيع الذي تلا تلك الليلة اتخذت علاقتها منعطفًا حاسمًا ومتساميًا للغاية -وهو القرار- الذي بدا غريبًا ومتطرفًا جدًا في ذلك الوقت، بألا يتزوجا في نهاية الأمر، وإنما يتوقف ما بينهما على بقاء كل منهما الشريك الحميم والأقرب للآخر مدى الحياة، كان الداعي الرئيسي من وراء ذلك القرار ذلك الذي تُعبر عنه هاسكل بشاعرية ملحوظة في تدوينات أخرى من أبريل من العام 1911، وفي بادرة من أرقى دواعي النبل والتسامي:
لاح لي أن اللحظة الحالية هي التي يوشك أن يُطل فيها خليل على العالم الذي سيبادله الحب والإعجاب والذي على خليل حينها أن يسقيه ويغدق عليه من فيض إبداعه، وأنا أرى أن هذه اللحظة من المستقبل قريبة جدًا الآن،
ولذا قررت أن أتبع ما بدا لي كقدرٍ محتم قضاه الله علينا، ولقد وضعت عن نفسي كل أمنية في أن أكون زوجته، وعلى الرغم من أنني قد قضيت كل ساعة كنت واعية فيها في دموع تسكبها روحي، إلا أنني أعلم أنني على صواب، وأن دموعي هنا هي دموع فرح، لا آلام، أستشرف بها المستقبل.
في اليوم التالي أبلغت هاسكل جبران بقرارها الحازم تدعّمه أفكارها، والمتردد تتضارب فيه عواطفها، وقالت له: “يتوق قلبي إلى التفريط ويميل، ولكني أعلم أن الثبات هو قراري الأخير”، دوّنت ماري عن جوابه في مذكراتها:
“لقد بكى وانتحب وناولته منديلًا، لكنه لم يتفوّه بكلمة، في بداية حديثي وقد توقفت عن الحديث مرارًا بينما أحاول إخباره بقراري، قال لي مُنكسرًا: ماري، تعلمين أنني سأصبح في حالة لن يمكنني عندها الحديث والردّ”، ولم يزد بحرف، كان تعليقه الوحيد عن حبه لي، عندما فرغ الحديث مددت ذراعي إليه، وقد مد هو ذراعيه فاحتواني، ولصار القلب حطامًا لو عَدِم العزاء والمواساة. عندما تأخر الوقت، ألصقت راحة يده اليمنى إلى شفتي، حينها استجابت الدموع للنداء أخيرًا، فاقترب مني، قبّلت يده كما تمنيت مطولًا، وقد ترددت مرارًا في فعل ذلك، فقد علمت أن لمسة طفيفة كتلك كانت قادرة على تحريك مشاعره، أجابته القبلة نيابة عن قلبي… بكيت قليلًا مرة أخرى عند الباب، وقد ظلّ يحاول محو آثار دموعي ولم يزد عن قول: “ماري- ماري- ماري”، وبينما يرحل قال محاولًا أن تتضح جملته قدر ما يستطيع “لقد أنبتِّ لي قلبًا جديدًا الليلة”.
هطلت دموعي فور أن ذهبت للنوم، بدا الأمر فجأة كما لو أن طاقة عظيمة من السلام والنور قد انبلجت –وقد بدونا أنا وهو من داخلها- ولذلك بكيت، “شكرًا لك، يا الله، شكرًا لك!” مرارًا وتكرارًا، كانت سعادةٌ تغمرني، أدركت أنني قد فرطت فيه، لكن تفريطي لم يفرقنا، وإنما قرّبنا أكثر فأكثر.
“كنت أعرف دائمًا أن علاقتنا كانت خالدة”، تأملت هاسكل لاحقًا في القرار: “أردت أن تستمر رؤيتنا الواعية لظروف حياتنا الجديدة”، كان قرارها العظيم ونبلها الأعظم ومشاعرها غير الاستحواذية هي التي أوحت لجبران في النهاية بنصوصه البديعة الخالدة حول العلاقات الصحية.
بعد شهرٍ من قرار تجاهل فكرة الزواج يؤكد جبران على “استمرار رؤيتهم الواعية” في رسالة بعثها إلى هاسكل من نيويورك:
“وصلت لتوي من المتحف، لكم تمنيت أن تشاركيني رؤية كل هذه الأشياء الجميلة التي شاهدت، علينا أن نفعل ذلك معًا في يوم من الأيام، أشعر بتمام الوحدة بينما أقف وحيدًا أمام عمل فني رائع، حتى في الجنة على الإنسان أن يعيش برفقة حبيب، حتى يتسنى له الشعور بالنعيم من حوله.
تصبحين على خير عزيزتي، أقبل يديك وعينيك.”
خليل جبران
بحلول الربيع كتبت هاسكل إلى جبران في نيويورك رسالة أشبه بقصيدة، تمنحه فيها فيضًا من حبها غير المشروط وشوقها العظيم.
ماذا تكتب الآن، وكيف تسير أمور الكتابة؟ وبماذا تفكر، وكيف تسير أحوال التفكير؟ وعن أي شيءٍ تريد التحدث معي؟ وكيف تمضي أمورك؟
ولماذا لا يمكنك مد ذراعاك بطول يطوي مسافة الساعات الست حتى بوسطن؟
ومتى تزورني في أحلامي فتجعل لياليّ ذات الأحلام أجمل من سواها؟
بعد بضعة أيام استجابةً لقلق جبران من أن مرضه الجسدي وما يصاحبه من انحسار لقدرته الإبداعية لربما يخيب أملها فيه، ترسل ماري هاسكل أجمل عبارات طمأنة واطمئنان يمكن لفرد أن يتمناها من محبوبه.
لا أريدك أن تكون شاعرًا أو رسامًا: أريدك أن تكون ما تحب وما يقودك إبداعك إليه.
لن يخيب ظني بما ستصبح عليه أيًا كان، ليس لدي أي توقعات مسبقة عما ستكونه أو تفعله، لا أرغب في التنبؤ عن حالك، بل أريد اكتشافك، لا يمكنك أن تخيّب ظنّي.
بعد بضعة شهور، وبعد مروره بمرحلة ركوده الفني وعودة روح إبداعه، يحاول جبران في خطابه إلى ماري الحديث عن عِظم امتنانه لتفرد صنيع هاسكل كونها أشعرته بأنه كائنٌ مرئي، محبوبٌ على حقيقته بمميزاته وعيوبه.
وددت لو استطعت أن أخبرك يا حبيبتي ماري، عمّا تعنيه رسائلك لي، أنها تخلق روحًا بداخل روحي، لطالما استمعت إلى حروفها كأنها رسائل تبعثها إليّ الحياة، لطالما أتتني رسائلك بينما أنا في أمسّ الحاجة إليهم، ولطالما منحوني ذلك الذي يزوّدني بالرغبة في العيش ليومٍ آخر وليلةٍ أخرى، الرغبة في المزيد من الحياة، كلما شعرت بقلبي خواءً ورعشةً، شعرت أنني في حاجة أشد إلى من يخبرني أن غدًا سيأتي ليشفي هؤلاء الذين يشعرون في قلوبهم خواءً ورعشةً، ولطالما أخبرتِني بذلك يا ماري.
أنقذَت ماري هاسكل جبران الفنان بسخائها، وجبران الإنسان بحبها المترفع عن كل غايةٍ وأنانية.