من الرواية إلى الشاشة: كيف غيّر مسلسل القاعدة فلسفة أزيموف؟

سلسلة القاعدة هي واحدة من روائع أدب الخيال العلمي ومن أهم روايات الكاتب أيزاك أزيموف، وأكثرها تأثيرًا في أدب الخيال العلمي في العالم، فهي الرواية الأولى من نوعها التي تتحدث عن إمبراطورية مجرية ضخمة تحكم المجرة بالكامل، وهي الفكرة التي ألهمت لاحقًا روايات مثل كثيب وأفلامًا مثل حرب النجوم، كما حازت سلسلة القاعدة عام 1966 على جائزة هوجو لـ “أفضل سلسلة على الإطلاق” في منافسة مع سلاسل أخرى مهمة مثل سلسلة سيد الخواتم لتولكين وسلسلة برسوم “المريخ” لإدجار رايس بوروز.
ورغم شهرتها ونجاحها الكبير ظل تحويلها إلى فيلم أو مسلسل مهمة شبه مستحيلة لسنوات طويلة، بسبب طبيعتها الفكرية الثقيلة واعتمادها على الحوار والنقاشات النظرية أكثر من الأحداث الدرامية الصاخبة. ومع ذلك، جاء مسلسل القاعدة الذي أنتجته آبل تي ڤي ليقدّم رؤيته الخاصة لهذه الملحمة.

التاريخ بلا أبطال

الفارق الجوهري بين الرواية والمسلسل يكمن في فلسفة السرد؛ في الروايات، يقوم علم التاريخ النفسي الذي ابتكره هاري سيلدون على أنّ مصائر الإمبراطوريات تُحدَّد عبر حركات جماعية لملايين البشر، لا من خلال أفعال الأفراد. الفكرة الأساسية أنّ التاريخ لا يصنعه أبطال منفردون، بل موجات اجتماعية ضخمة تتحرك ببطء وحتمية. حتى هاري سيلدون لم يكن بطلًا أو منقذًا، وإنما مجرد عالم صاغ خطة طويلة المدى لتقليل فترة الفوضى بعد انهيار الإمبراطورية.

 

هاري سيلدون كما تخيله أزيموف في الروايات

 

ومن أجل رسم هذه الخطة اعتمد هاري سيلدون على علم التاريخ النفسي، وهو علم تخيلي ابتكره أزيموف يعتمد على استخدام الرياضيات والإحصاء للتنبؤ بمستقبل البشرية على نطاق واسع، بحيث يمكن حساب مسار الإمبراطوريات والمجتمعات كما لو كانت معادلات. الفرضية الجوهرية أن أفعال الأفراد عديمة التأثير تقريبًا أمام حركات الجماهير الكبرى. هذا ما جعل الفكرة في غاية الفرادة وصعوبة الترجمة إلى عمل درامي يعتمد عادة على شخصيات محورية. على سبيل المثال، في بداية الرواية يواجه هاري سيلدون محاكمة أمام الإمبراطور لأنه تنبأ بانهيار الإمبراطورية المجرّية خلال قرون قليلة. لم يستند إلى نبوءة أو رؤية شخصية، بل إلى حسابات إحصائية دقيقة تُظهر حتمية الانهيار، واقترح إنشاء “القاعدة” لتقليل فترة الفوضى من ثلاثين ألف سنة إلى ألف سنة فقط.

 عودة البطل المختار

أخذ المسلسل منحى مغايرًا تمامًا لفلسفة الروايات، حيث بُنيت معظم الأحداث على قرارات شخصيات فردية وتقديمهم في قالب “المختار” الذي يغيّر مجرى التاريخ.

هذا يظهر بوضوح في شخصية سالڤور هاردين. في الرواية، كان سالڤور هو العمدة الأول لمدينة تيرمينوس، سياسيًّا عمليًّا وداهية في استخدام الحيل الدبلوماسية لمواجهة الأزمات دون قتال، مجسدًا فكرة أن القوة الحقيقية تكمن في فهم السياق التاريخي واستغلاله، وشعاره “العنف هو الملاذ الأخير للعاجز” الذي يمكن اعتباره جوهر فلسفة الرواية. أما في المسلسل فقد تحولت سالڤور إلى بطلة محاربة خارقة تقريبًا، صاحبة بصيرة فردية وقدرات استثنائية، لتصبح مركزًا للأحداث وحلّ الأزمات. هذا التحول ألغى جوهر شخصية هاردين الأصلية، وكرّس من جديد مفهوم الفرد المخلّص على حساب الرؤية الجماعية التي بُنيت عليها فلسفة الرواية.

 

إعلان

سالڤور هاردين ما بين الرواية والمسلسل

 

ينطبق الأمر كذلك على جال دورنيك، الذي كان في النص الأصلي شخصية ثانوية هدفها تعريف القارئ بعالم القاعدة وسيلدون. لكن المسلسل جعله واحدة من الأبطال، ورفعها إلى مصاف الشخصيات المحورية، مانحًا إياها دورًا يتجاوز بكثير ما كان في الرواية، لتصبح جزءًا من محرك الأحداث بل ومن مستقبل القاعدة نفسه.

لقد قلب المسلسل فلسفة الروايات رأسًا على عقب. الأحداث الجوهرية تدور حول جال دورنيك وسالفور هاردين، اللذين صُوِّرا كأن لهما دورًا قدريًّا في إنقاذ القاعدة وتغيير مسار الإمبراطورية. فجأة يتحوَّل التاريخ من حركة جماعية عمياء إلى قصة المختار، البطل الفردي الذي تحدد قراراته مصير الملايين.

النقد هنا ليس في حرية المعالجة بحد ذاتها، فمن الطبيعي أن يختلف أي اقتباس بصري عن مصدره الأدبي، بل في أن التغيير مسَّ صلب الفلسفة التي جعلت السلسلة فريدة. المسلسل قدَّم قصة أكثر تشويقًا لجمهور يبحث عن أبطال وصراعات شخصية، لكنه فقد في المقابل البصمة الأساسية؛ أنّ التاريخ ليس رواية عن الأفراد، بل عن البشرية ككل.

لماذا التغيير؟

يرجع التغيير ما بين الرواية والمسلسل إلى الطبيعة الدرامية للتلفزيون، فالجمهور يحتاج إلى شخصيات يتعاطف معها ويتابع رحلاتها الشخصية، وهو ما يصعب تحقيقه مع روايات مبنية على موجات اجتماعية مجردة وقفزات زمنية طويلة.

ولعل الدافع الآخر هو التنوع العرقي وإعطاء البطولة للشخصيات النسائية، لذا نشهد تحويل جال دورنيك من شاب بسيط في الرواية إلى بطلة مركزية في المسلسل، وهذا أعطى مساحة أكبر لتمثيل النساء وهو ما كان نادرًا في الروايات الثلاثة الأولى.

كما أنّ الأعمال الدرامية تعتمد على التشويق والاستمرارية، من الصعب تغيير الأبطال كل بضع حلقات لذا جعل صناع المسلسل الأحداث تتمحور حول أبطال محددين مما سمح بصنع حبكات ممتدة تناسب المواسم التلفزيونية. ولهذا السبب أيضًا أُضيفت فكرة السلالة الجينية الحاكمة، بحيث يظل الممثلون ـ مثل لي بيس في دور الإمبراطور ـ حاضرين عبر جميع المواسم، مما يوفّر استمرارية بصرية وسردية تجذب المشاهد وتخلق رابطًا عاطفيًّا طويل الأمد مع الشخصيات.

 

الممثل لي بيس في دور الإمبراطور كليون في المسلسل

مكسب درامي وخسارة فلسفية

طرحت الروايات سؤالًا فلسفيًّا عميقًا: هل يمكن للعلم أن يتنبأ بمستقبل الشعوب رغم فوضى الأفراد؟ أما المسلسل فقد قدّم رؤية مختلفة، بأن جعل مصير المجرة يتوقف على عدد محدود من الأبطال. النتيجة عمل ممتع بصريًّا، لكنه أكثر بساطة، يضحّي بجزء من الجوهر الفكري لصالح حبكات عاطفية ومواجهات فردية.

ما كان تأملًا في مصائر الحضارات تحوَّل إلى ملحمة درامية مألوفة. هكذا اختار صناع المسلسل إعادة صياغة النص بما يناسب جمهور التلفزيون المعاصر، مقدمين تجربة مشوقة ومؤثرة على مستوى الشخصيات، لكنها أقل عمقًا من رؤية أزيموف الأصلية.

وفي النهاية، ورغم ما شاب المسلسل من تبسيط للفكر الأصلي، فإنه يمثّل خطوة مهمة في إدخال “القاعدة” إلى وعي جمهور أوسع. لقد قدّم رؤية بصرية مبهرة، وفتح الباب أمام أجيال جديدة للتعرّف على عالم أزيموف، وربما يقود هذا الاهتمام إلى العودة للنصوص الأصلية نفسها، حيث يكمن العمق الفلسفي الحقيقي.

إعلان

اترك تعليقا