نورا قصة قصيرة
“نورا” هذا هو الإسم الذّي يطلقه عليه أصدقاؤه تهربًا من جِديّة إسمه الحقيقي “نور الدين” الذّي لا يليق بطفل مازال في العقد الأول من عمره “نورا” أكثر موسيقيّة، كما أنّه يرفع الكُلفة عند تعامله مع الآخرين …هوّ يحبّ إسم نورا لأنّه أوّل عملية تجميل تنال رضاءه، وأوّل إثبات له أنّ ما يحسبُه عالقا فيه إلی الأبد، ليس حاسما كما يعتقد ..
ولكنّ نورا الذّي تخفّف من إسمه يعيش مُثقلا بنفسه مغدورا بالحياة التّي قرّرت أن تبدأ حربها معه مُجرّدا من أيّ سلاح بدائي يكتسبه المرء، ألا وهو وعيهُ بالحياة ذاتها! ففعلَت فيه فعلتها في لحظة فقر إدراكي حرمهُ تذوّق ذاك الألم وإستشعاره. هكذا قررت الحياة أن تستعرض عضلاتها علی حداثة طفل لا يحمل ذاكرة لرصد الحادثة، ولكنّها حادثة تملك وقاحة كشف ملابساتها علنا، بل هي التّي تستقبل كلّ ملابسات هذا العالم في عينيه!
لم يكن كافيا أن يحارب نورا كحيوان منوي لينجو من بين ملايين الحيوانات المنوية ويستقر جنينا في رحم أمّه، بل كان عليه أن يواجه عند ولادته أولی إختبارات الطبيعة لذلك الجسد الصغير الذّي إلتهمته الحُمّی ذات ليلة، فذهبت بإستقرار بؤبؤ عينيه ليحيد عن مكانه و ينحرف يمينا فيعطي لإنحارفه إسما مرضيا يُعرف “بالحوَل”، ولقبا إجتماعيا يُشار به إليه في غيابه كأقوی حجّة للإدلال عليه، “نورا الأحول” يحصل أن يفقد المرء جماله ليفقد كرامته، ويكفي أن يفقد كرامته ليفقد ذاته، وإسم الشهرة ذاك الذّي تخفّف به عن دسامة إسمه الحقيقي، صار هو الآخر متبُوعا بثِقل تلك الكُنية الحقيرة، ولم تكن المشكلة جمالية فقط، إذ كان يعاني نقصا حادا في النظّر عطّل نشاطاته كطفل مفعم بالحركة، فألزمه ذلك إرتداء نظّارة ذات عدسات سميكة، لم تستطع أن تخفي الحوَل بقدر ما أغرقت عينيه وجعلت حجمهما أصغر من ثقب إبرة فتشعر وأنت تنظر إليه وكأنّه مُصاب بدوار طوال الوقت، كما تضفي عليه مظهرا غبيّا ولطالما إرتبطت أحكام الناس علی الأحول بتهمة السذاجة والحماقة والسّفه! حقّا كان أو بهتانا .
يمشي نورا في حيّه، في ذات الطريق الذّي مشاه مرارا، يعرف كل خبايا الطريق، منحدراته حفره تضاريسه كل القطط التّي تجثُم علی قارعته، وجيوش النمل التي تعمّر جنباته يعرف ما الذي لا يحتاج الناس رفعه من الأرض يعرف كلّ سقطاتهم كلّ زهدهم كلّ إهمالهم
الجميع ينظر إلی العالم خارج نطاق أعينهم أما هو فتخترق الأشياء بصره، الكلّ يتزاحم داخل عينيه، لا لأنه ينظر إلی كليّة الكائنات والأشياء، بل لأنهم يحدّقون في تشوّه عينيه جبرا! يقفزون داخلها يسائلونها فلا يستطيع رؤية ما هو عالق به إن لم يكن علی بعد مسافة منه فكان يرغب أحيانا لو أنّه يصرخ فيهم: أرجوكم أخرجوا من عينيّ أريد رؤيتكم علی مهل ..
لا يملك متعة أن يتلصّص أن يری ولا يری أن يسرح بنظره في وجه أحدهم دون أن ينتبه إليه إذ كان كلّما وجّه بصره نحو شخص ما حتی يخنقه هذا الأخير مُحدّقا فيه كعُقاب جارح فيتدحرج بصر نورا إلی الأرض كلؤلؤة ثمينة في قبضة لصّ خلّفها و هو يهمّ بالفرار…
وحيدا كان وحيدا كعينيه والقاع يتجنّب الحديث مع النّاس حتّی لا تلتقي عينيه بأعينهم ..
هو لم ينسَ كم تعرّض لسخرية أصدقائه أصدقاؤه الذّين يُوكّلون براءة طفولتهم دوما لتبرير أفعالهم الدنيئة! فهذا طفل يخطف نظّارته من علی عينيه ثمّ يهرب بها بعيدا كأسيرة بين يدي جانٍ من الهواة ! أيُّ فِدية سيقدّمها نورا الشقيّ لذاك الشقيّ، حتّی نظّارته الأسيرة أيّ فدية غير إبتلاع الموقف والوقوف مُنتظرا ينتظر إنتهاء مزحة بائسة حتّی عندما كانوا يهربون بنظّارته لم يكن يُلاحقهم بقدميه هو حتی لا يستطيع ملاحقتهم بعينيه يخشی إنكشاف عورته لهم! لطالما كان مصدر تندّرهم فتراهم يعرضون عليه أصابعهم ويسألونه عددها أو يقفون علی أحد جانبيه فيسألونه عن الإتجاه الذي يقفون فيه يرقصون، يتعرون، يقفزون يتطايرون ثمّ يسألون عينيه الثّبات عند السؤال و عند إستجوابات من قبيل ” أين أنا ؟ ” ..” هل تراني أكثر من شخص ! ” أسئلة تتكررّ مرّات ومرّات فلم يكن منه إلّا أن يضحك معهم يضحك معهم حتّی لا تأخذهم جلالة الضحك منه فتتبدّی لهم حقارته و هوانه ..
كان عليه أن يضحك ليكون قويا في أعينهم، لا تهزّه مزحاتهم الجارحة … فمن هو حتّی يتّخذ منهم موقفا معاديا أو يشتكيهم !؟
إنّ أيّ محاولة منه للتصدي ستُعرّضه للشتم الصريح «أيّها الأحول» تكفي هذه العبارة للإنتقام منه .. فأي مشاجرة جسدية يدخلها سينال فيها الضربة القاضية بتلك الشتيمة لا غير وأيّ إنتصار جسدي يحقّقه سيسقط عند أوّل عاصفة كلامية معنوية تخور أمامها كلّ قواه النفسية .
لذلك صار لطيفا رُغما عنه، لطيفا حدّ الإنطباح يُساير مزحاتهم حينا ويتغاضی عن تجاسُرهم عليه حينا آخر هو يبتلع ذاته بلا تمهيد يبتلعها دون وضع خطةّ تفكيكية لِما هو عليه لم يسأل أمّه يوما عن سبب حوَله أو عن حلّ لمشكلته.
كان قانعا عن ظهر طِيبة أنّ ما هو عليه هو ذنبه وحده ولطالما شعُر بتأنيب الضّمير لم تكن الشمّاعات قد تطاولت علی تحمّله نفسه بعد فيرمي عليها كلّ نقص فيه !
كان متلبّسا عيبه عن طيب خاطر طفولي إذ كان يعتقد أن جلوسه لساعات أمام شاشة التّلفاز وعلی بعد مسافة أقلّ من متر هو سبب عاهته هذه القناعة الساذجة بمسئوليته المطلقة عن وضعه، جنّبته لسنوات كثيرة مشاعر سوداوية كالكره والحقد والتذمّر من القدر ومن الصدفة ومن الحظّ حتّی كان شمّاعة نفسه الوحيدة التّي ستسقط بتقادُم مأساته وتعمّقها ..
حتّی أمّه التّي بلغت من النّضج ما بلغت لقيت حظّها من سذاجة طفلها وبراءته في كيفية تفسير الأمور إعتباطيا وبلا منطق فرغم أنّها كانت الشاهدة الوحيدة علی تعرّض طفلها لحمّی شديدة أضرّت بعينيه، لازالت تعتقد أنّ الحسد كان سبب الحادثة عين شريرة هي التّي ذهبت بسلامة عين قرّة عينها ! وما الحمّی إلا نتيجة ذلك الحسد لعلّها كانت تجد في هذا المبرّر غير المنطقي بديلا عن إجهاد نفسها في مُساءلة القدر لعلّها تفضّل فكرة أنّ طفلها محسود علی فكرة أنّه إبتلاء من اللّه فلِمَ قد يبتليه الله !؟ أيّ ذنب إقترفه ؟ طبعا هي سرعان ما تُبعد عن رأسها هذه الأفكار التّي تعتبرها وسوسات شيطان في لحظات ضعفها فحرمَت بذلك إبنها من راحة باله بالتكتّم عن أصل الحادثة فأثقلت تفكيره في المُقابل بأسباب واهية سيلفظُها يوما …
هو و أمّه كانا أكثر شخصين يتحمّل أحدهما الآخر يغفران لبعضهما ينظران في وجه بعضهما دون أدنی شعور بالحرج نورا لا يخجل أن تمعن أمّه النظر في إنحراف عينيه وأمّه لا تخجل من أن ينتسب لها ذلك الإنحراف الذّي جعلها فريسة لهوس الأمّهات اللّواتي يتطاولن عليها بنظرات الشفقة البالية بل والإدانة المُبطنة لعلهنّ يتّهمنها جدلا بأنّ إهمالها كان سببا في مَصَاب طِفلها ولكن حتّی لو وُلد نورا بهذه العاهة للَقيَت المسكينة نفس المصير من التأثيم والأهم من هذا السلام الروحي بين الأمّ و إبنها، أنّ نورا يجد في عيني أمّه الأرض التّي يتوقّف فيها عن الهروب، الهروب الذّي يمارسه طوال الوقت الأرض التّي تتلقّف عينيه فترفعُها من القاع أمّه هي الآخر الأوحد الذّي لا يخشاه فربّما كان سيحتمل كل هذا لولا أنّ الحياة لا تستقيم إلّا بالألم والفاجعة وبالحوادث التّی ترفع مُستوی تركيز البؤس في ماهيتها …
لقد نجح حتّی الآن في التخفي في السيطرة علی مساحة نفسه ولكنّ تلك الصورة الجماعية التّي إلتقطها مع زملائه في المدرسة والتّي نسخ منها المُصوّر أربعين نسخة ليوزّعها علی التلاميذ في الفصل، كانت الفضيحة الكبری التّي لم يحسب لها نورا حسابا أربعون نسخة من الصور أربعون نسخة منه أربعون نسخة من عينيه أربعون نسخة من “نورا الأحول” في قبضة أربعين شخصٍ آخر …
إنّ المساحة التّي نجح في تأطيرها لنفسه منذ سنوات تتمدّد اليوم تتوسّع و تشِي بنفسها عند كل الأعيُن التّي نجحت و لم تنجح في تأمّل عينه من قبل كما لو أنّه ذهب إليهم فردا فردا ليُريهم مدی بشاعته وليحدّدوا قيس زاوية الإنحراف في عينيه لقد أعطاعهم هذه الفرصة علی طبق من ذهب عندما قبل المشاركة في التصوير الجماعي ولكن هل كان بإمكانه أن يرفض ويسلم من تأويلاتهم و تلاميحهم ؟!
انتهت لعبة التخفّي الآن وصارت حقيقته أبلغ من أن تُطمس في عين أمّه فقط ولكن هل هؤلاء كأمه !؟ هل سيرتفعون به من النظر في القاع؟ تمرّ كل هذه الهواجس في ذهنه والمصوّر مازال يوزّع(هُ) أو يوزّع الصور حتّی سمع من خلفه قهقهات التلاميذ معلّقين :انظروا إلی نورا كم يبدو قبيحا في الصورة . هوَت عليه كلماتهم كالصاعقة هوی النّور من عين نورا لا شيء غير الظلام يقف نورا من علی كرسيه كذبيحة تستميت من أجل البقاء بعد أن غرزوا سكينا في رقبتها فإستوت قائمة بحرارة الرّوح ، تصارع شبق الحياة الأخير لم تسقط عينه في القاع هذه المرة بل سقط كامل جسده مغمی عليه الحُمّی التّي شوّهته رضيعا تعاودُه اليوم لتُقعده السرير أياما و إكتئابا …
لطالما تمنّی نورا بعد هذه الحادثة لو أنّه كان أعمی تماما ، فينوبه من الآخرين شفقتهم و مواساتهم علی أن يكون أحولا ضعيف البصر فلا تنوبه غير السخرية ولكان سيرتدي علی الأقل نظّارة سوداء بدل هذه النظّارة التّي لا تحفظ كرامته .
أعمی أفضل من أحول ! عندما يصدح المجتمع برأيه عن قصد وعن غير قصد .
كان مراهقا عندما توفّرت لعائلته ظروف مادية تسمح لهم بإجراء العملية الجراحية كان مراهقا تنهش صور الحياة غرائزه قبل عينيه مراهق يسترق النظر بإحتراف بعد سنوات من الدُّربة علی هذا الفعل يسترق النظر لأجساد الفتيات الجميلات ينتصب أمام المجلات المنتصبة في الأكشاك يلتهم صور الأيقونات في براعة جمالهنّ ينحرف بنظره من واحدة لأخری و بالكاد يستطيع أحدهم كشف إتجاه نظره ..
تعلّم لسنوات كيف يفتكُّ حقّه من الإمتلاء بمشاهِد الحياة وبالجمال الذّي لا يحلُم بإمتلاكه يوما، لا في شخصه ولا في أيّ شخص آخر إن بقي علی هذه الحال…
سنوات من التمويه سنوات من محاولة لفت إنتباه الآخرين إليه إلی داخله مع غضّ أبصارهم عن عينيه ..
يُجالس الفتيات، فيحاول التغزل بهنّ و لو بنِكات تضحكهن الفتيات يحببن من يضحكهنّ !
حاول تحويل مشاعر سخريتهم و شفقتهم تجاهه إلی مشاعر إستلطاف ومؤانسة وفكاهة فيستدرج ضحكاتهم إلی حكايات و طرائف كثيرة يختلقها حتّی لا يكون السبب الوحيد لضحكهم .. نجح كثيرا في تحويل وجهة الضرر النفسي المُسلّط عليه ولكنّه صار أكثر شقاءً بهذا الواجب الذّي تكبّده واجبُ أن يكون الشخص الذّي يُسلّيهم طوال الوقت. إنّه لأمر مُشقّ أن تكون مهرّجا رغما عنك ..
تمضي السنوات و تمضي الحياة بنورا نحو هدف لطالما وضعه نُصب عينيه العملية لا بدّ من عملية جراحية تقطعُ مع وضعه الحالي وتُصلح ما أفسدته الطبيعة .
الحياة التّي إخترقت بمِشرطِها هيئته الأولی و مارست إنحرافها في عينيه تهبُ اليوم كلّ لُطفها لذات المِشرط بين يدي طبيب ليكفّر به عن ذنبها !
يستلقي نورا فوق سرير العمليات تسطعُ عينه في السّقف رسم علی السقف حُلمه الأخير فرأی نفسه كما أراد أن يكون دوما شخصا جميلا و محبوبا ينظُر للعالم مِلء عينيه و يسترق النظر للجميلات خجلا لا هروبا من نفورهنّ يُمسك نورا بيد طبيبه قبل أن يصرع البُنج أواخر وعيه تخديرا ثم يتمتم بجملة أخيرة « سأری مجددا أليس كذلك » النّور يا نورا النّور و كلّ شيء كان هذا آخر ما قاله الطبيب لنورا قُبيل أن يهوي خيال ذاك الشاب الوسيم من السقف و يسكن قاع قلبه …
تنقضي العملية بعد ساعات يعود وعي نورا مُدجّجا بالقلق يتحسّس الشّاش الموضوع علی عينيه ثم يحاول تثبيب حركتهما تحت الشّاش لم يُحركهما قطّ. كأنّما هي عين مومياء. كان يخاف أن تنحرف مُجددا. وما كان هذا ليحصل ولكنّه الحرص الشديد لإنجاح العملية .
يدخل الطبيب بكلّ ثِقله و ثِقل الإنتظار “مبروك سيّد نور الدّين ستكون علی ما يرام نجحنا ” …
«نور الدّين» هذا الإسم المُركّب الذّي لم يسمعه منذ صِباه يعود بكلّ ثقله و دسامته ولكنّه تخفّف أخيرا من إسم نورا المتبوع بتلك الكنية الحقيرة مات” نورا الأحول “إرتفع من القاع وإرتطم بسقف خيال شابّ غصّ العالم في عينيه …