الخلية الماكرة ودهاء عقل الإنسان 2
المنافس الأول لهذا الكائن الحيويّ الماكر هو المنافس الذي يُعتبر العقبة الأولى (ألا وهو الجسم بنفسه) لمواصلة العيش، وقد وضّحنا في الجزء الأول إحدى الطرق التي تجعلنا نصف الخلية بالماكرة، لكنها لا تعدّ الطريقة الوحيدة الفعالة، فهذه الخلية السرطانية تعتبر من بين الأعداء الفتّاكين، وهذا دليل على تواجد طرق عديدة أخرى سواء التي علمناها إلى حد الآن أو التي لا تزال قيد الكشف وهي عبارة عن فرضيات، أو ربما هناك الطرق المجهولة أيضًا.
فقد نتساءل أحيانًا، لماذا لم يقضِ الجهاز المناعي على الخلية السرطانية عندما كانت وحيدة دون قوة، وكانت لاتزال في مراحلها البدئية؟
سنجيب باختصار على هذا التساؤل وننتقل للتحدي بين الباحث وهذه الخلية.
التمويه لتفادي المواجهة ضد الخلايا الدفاعية:
لا تمشي كلّ خطط الخلية السرطانية كما تريد، بل في كثير الأحيان تفشل، ما يجعل أحداث الزمن ب تعود إلى أحداث الزمن أ؛ أي محو النواتج السرطانية من طرف الخلايا الدفاعية أو أثناء التحول.
لكن في الحالات الأخرى، عندما تتفاقم الوضعية وتظهر العديد من الخلايا من هذا النوع، يكون قد بدأ التمويه الغريب.
كمثال، تقوم الخلية البلعمية بابتلاع الأجسام الغريبة والوحدات الخطرة على الجسم عبر تشكيل هيئة سلسة تلتفّ بهذه الوحدة وإدخالها إلى الداخل وتدميرها ببروتينات محللة.
لكن من بين الطرق التي تستعملها الخلية السرطانية لتفادي الكشف عنها، هي القيام بتعبير (تركيب نوع البروتينات على الجدار الخلوي) 47 CD على سطح جدارها، فيرتبط ببروتين SIRPalpha للخلية البلعمية، لتُخفّض عملية الارتباط هذه قدرة الخلية الدفاعية على الهجوم والقتل وبالتالي ”تنجو” هذه المخادعة.
إضافة إلى أنّ نوعًا آخر قد يرفع معدّل بروتينات CMHI (وتنخفض نسبة CD 47) الذي بدوره يعدّ عنصرًا مهمًّا من أجل تفادي الهجوم، وذلك عبر ارتباطه ببروتين LILRB1 من الخلية البلعمية.
عبر هذا النوع من الآليات، إضافة لآليات أخرى، تتكاثر الخلايا المتمرّدة بشكل سلس ومخفيّ، متجنبة المواجهات ضد جنود الجسم، مما يوفر الوقت الكافي لتنمو.
مخطط تدبير الشؤون الذاتية للمجموعة والتخلي عن استوراد الجزيئات الطاقية من الخلايا السليمة:
عندما تصبح الخلايا السرطانية في ظروف أكثر تلاؤمًا، وبقوة عددية أكبر، وبعد أن نجحت خططها التي بقيت تطبقه إلى أن وصل الحجم الذي تشكّله الخلايا السرطانية (الورم) بين 1 ميليمتر إلى 2 ميليمتر تبدأ الخلايا في البحث عن إمدادات أكسجينية بأكثر كمية، ويكون الحلّ في تشكيل شعيرات دمومية في الأوعية المحيطة بها كي تنافس بذلك الخلايا السليمة في الغذاء والحصول على الأكسيجين، إلى الوصول لمرحلة أبعد قليلًا، حيث يبدأ الورم السرطاني ببناء ”أوعية دموية”، مما يعني إمدادًا ضخمًا.
وكي نفهم هذه الظاهرة أكثر، فلنفترض أنّ هناك مصنعًا لموادّ معينة ”م”، وكان هذا المصنع يعتمد على الإمدادات المحدودة التي تصله من المصانع الأخرى المجاورة له، لكن بعد أن أصبح رأس ماله أوفر، قام بالارتباط مع بائعي المواد الأولية للمصانع التي بجواره، إلى أن أصبح بعد حين يتدبّر أمر إحضاره المواد كما يشاء، وهذا يعني أنّ هناك فرقًا ضخمًا في الإنتاج، بين المرحلة الأولى والمرحلة الأخيرة، إضافة للسرعة، وتوفّر مواد أولية بشكل كبير، وهذا مثال يضرب على الخلايا السرطانية في المرحلة ج من مقالنا وكيف أصبح استيرادها للمواد ضخمًا يزيد قوتها حينًا بعد حين.
نضع خطوة أخرى للمضيّ في فهم الزمن ج الذي يعدّ الدّخول للتحدّي بين العقل البشري والخلية السرطانية، حيث أنّ الحالة التي تمرّ بأحداث الزمن ب إلى الزمن ج، يعني أنها حالة انتقلت لظهور الأعراض والتأثيرات الكبيرة، وفي هذه المرحلة يحتاج الجسم الذي دافع عن نفسه إلى مساعدة من المنافس الآخر الذي يواجه هذه الخلية، حيث أنّ المرحلة بين الزمنين ب و ج، تتطلب مواجهة أقوى وأشدّ، وأن يكون التحدّي أكثر صرامة.
وهنا بالضبط نذهب للنقطة التي أشرنا إليها، فهي تبيّن كيف يظهر منافس العقل البشري الذي سيواجهه بشتى الطرق وذلك عبر التدرّب الأولي في المختبر وإجراء تمارين مجهدة (تجارب ودراسات) من أجل التوصل لمهارة (علاج مثلًا) تكون الضربة الموجعة للسرطان .
وفي كل يوم يحاول الإنسان الوصول لمبتغاه، والفوز بالتحدّي الإجباري/الختياري الذي كما أشرنا، أنه فوز نسبي غير ”كامل”.
هذا الفوز النسبي قد يكون تغلّبًا على المنافس بشكل كامل في بعض الحالات المرضية، و قد يكون تغلبًا جزئيًا في حالات أخرى، والسبب في ذلك، أنّ الخلية السرطانية لها أيضًا ساحة تدريب تطوّر فيها مهارتها وتقوّي دهاءها في المكر.
طريقة تفادي الخلية السرطانية لهجوم من المنافس:
بعدما قام الإنسان ببذل جهود طويلة، سجّل في سنة 1960 براءة ”اختراع” أو اكتشاف جزيئة السايتارباين التي بدأ استعمالها طبيًا، سنة 1969.
يهدف الإنسان لمهاجمة الخلية السرطانية مستهدفًا إحدى مراحل حياة الخلية، فتقوم هذه الجزيئة بمهاجمة الحمض النووي للخلية السرطانية أثناء المرحلة S التي تضاعف فيها حمضها النووي، حيث أنّ الجزيئة تمتاز بسرعتها في اكتساب جزيئات فوسفور كي تصبح مفعلة وتتجه نحو الحمض النووي لتهاجم سكّر الريبوز الذي يعتبر المكوّن الثالث لوحدة الحمض النووي (جزيئة فوسفور + سكر ريبوزي + قاعدةG,C,T,A)، إضافة إلى أنّها تكبح أنزيم DNA بوليميرايز (الذي يجمع النيكليوتيدات في السلسلة أثناء التضاعف) مع أنزيمات أخرى.
نجاح هذه التفاعلات يحقّق غايتين، منع تكاثرها في مرحلة إنتاج خلية أخرى، وكذا تدميرها بفعالية كبيرة.
وبما أن هذه المواجهات عبارة عن تحدٍّ، إذن فعلينا انتظار ردة فعل الخلية المنافسة، هل هي استسلام تامّ وخسارة؟ أم شيء آخر؟
تتدمر أعداد كبيرة من الخلايا السرطانية، بينما تكون ردة فعل الخلايا الأخرى مغايرًة للاستسلام، حيث أنها تجد طريقة للدفاع عن نفسها ضد هذا الهجوم، وتجعل العالم يشعر أنه يواجه ذكاءً حيويًا، حيث تقوم الخلية بتعديل تناقصي (أو بطفرة) على المسار الذي تتخذه الجزيئة كي تنشط، وبالتالي تراجع سرعة ونسبة تحوّل الجزيئة إلى هيأتها الفعالة، أي أنها تقوم بالتأثير على التفاعلات التي تجعل الجزيئة تكتسب مركبات الفوسفور لتنشط. والنتيجة تكون تناقص نسبة نجاح هذا الهجوم على الخلية التي وضعت هذه الخطة الدفاعية.
هذه الخطة التي تستعملها الخلايا السرطانية تعد ركيزة كبيرة في مقاومة الأدوية، حيث أنّ ذلك يحدث أيضًا في مواجهة العديد من الجزيئات التي تحتاج لمسار تفاعلي من أجل القيام بالدور المطلوب، ويطلق على هذه الظاهرة:Drug resistance.
بينما في بعض الحالات التي لا يجدي فيها نفعًا، تعطيل مسار الجزيئات المضادة، تقوم الخلية السرطانية بتغيير آخر مختلف، فمثلًا، هناك بعض المضادات تهاجم بروتين topoisomerase II الذي يقوم بفكّ العقدات الصعبة أثناء تفرق لولبي الحمض النووي في مرحلة مضاعفته، وهو أنزيم مهم، ومهاجمته تعني قتل الخلية السرطانية في المرحلة الخلوية S، ولتفادي ذلك تقوم الخلية بطفرات في جينات هذا البروتين وذلك من أجل جعله غير مستهدف من هذه المضادات، فنحن نعلم أنّ تغيّرًا بسيطًا ولو بقاعدة واحدة في الحمض النووي قد يؤدي لتغيرات مفجعة، وبالتالي حسب التخصص الكبير للمكونات الحيوية، فإنّ هذا التغيير سينفي إمكانية استهداف البروتين، وبالتالي يمكنه مواصلة عمله والمساعدة في تضاعف الحمض، وتكون الخلية هنا منتصرة بخطتها هذه.
تتضح لنا الصورة كثيرًا كلما حاولنا معرفة هذه الخلية أكثر، كما أننا نرى التحديات الصعبة التي تواجه الباحث المنافس الذي يريد القضاء عليها، ولكن، كما وضّحنا في بداية المقال الأول، الحلول تعدّ نسبية، وجهود العلماء تهدف للوصول لإجابات أكثر فعالية، رغم عدم تواجد حلّ فعّال في المجالات التجريبية وبنسبة تامة، فهاهما العالمان الكيميائيان W Roberts , C. Dekker قاما بتركيب جزيئة، وكانت تجاربها ناجحة، لكن مع ذلك ظهرت أسئلة أخرى، لم َلا تزال هناك خلايا سرطانية حية رغم تواجد الجزيئة المضادة؟ فكان هذا سؤال أجاب عنه علماء آخرون، بإبرازهم للمقاومة الماكرة لهذه الخلايا، الذين تركوا أيضًا تساؤلًا حول كيفية مواجهة هذه المقاومة، ليأتي جيل يجيب عن ذلك بجواب نسبي آخر، وتستمر السلسلة، وهنا تطرح إشكالية أخرى، هل هناك جواب كامل في العلوم التجريبية والنظرية؟ وبالنسبة للسرطان، هل هناك حلّ كامل؟ الجواب يكون لو توفّر فهم كامل وتام للخلية السليمة، مباشرة سيظهر الجواب الآخر مرافقًا له.
لكن وجبت الإشارة إلى أنّ هذه الحلول النسبية تعدّ فعالة جدًّا أحيانًا وإلى حد كبير، وذلك أثناء استعمالها في الوقت المناسب، وهذا يدل على أنّ العلماء في تحديهم هذا لا يستسلمون، سنعرض في الجزء الأخير الكيفية التي اتخذها العلماء في مواجهة بعض الخطط الماكرة التي استعملتها الخلية السرطانية، منوّهين إلى أنّ لكلّ كائن حيّ جوانب ناقصه، والخلية السرطانية معنية بذلك، آملين في اكتشافها ومواجهة خطر هذا الكائن بصورة أكثر تأثيرًا وفعالية.
المصادر: 1,2,3,4,5,6,7,8,9,10,11,12