الاختزالية والانبثاق
عند تعاملنا لأول مرة مع العلم والمعادلات الرياضية، نظن للوهلة الأولى أنَّ هنالك نقطة “متفردة” (لا أقصد المتفردة في علم الكونيات كمفهوم كوزمولوجي Cosmologic بل تعبير مجازي). يمكن اختزال كل شيء من خلالها ورد كل الظواهر إليها، لكن هذه المتفردة توسعت بسبب جهلنا. إنها تمثل معادلة واحدة هي معادلة كل شيء وهي بمثابة الكأس المقدسة عند الفيزيائيين.
وعندما نتعمق أكثر في الإبستمولوجيا Epistemology وآخر ما توصل إليه العلم الحديث، ولاسيما في آخر نظريات الفيزياء؛ ندرك ذلك الهاجس الذي يؤرق الفيزيائين، وهو التوحيد بين القوى. أي اختزال القوى الأساسية الأربع إلى قوة واحدة.
(في الواقع إذا نظرنا قديمًا حتى قوة الجاذبية كانت توحيداً لقوى نراها خلال حياتنا اليومية، ولم نتمكن من إيجاد رابط رياضي أو منطقي بين كل تلك القوة إلا عندما جاء العالِم إسحق نيوتن Isaac Newton ووضع قانون الجاذبية) .حتى إننا كنا نسمي كل واحدة من تلك القوى باسم أو نخلع عليها صفة إله.
العلم نموذجياً
وقد قطع العلماء شوطاً طويلاً بذلك، فقد تم توحيد القوة النووية الضعيفة (المسؤولة عن تحلل بيتا الإشعاعي) والقوة الكهرومغنطيسية (التي بفضلها ننعم بأحدث وسائل التكنولوجيا كالتلفزة والاتصالات الحديثة)، وَحَّدوها باسم القوى الكهروضعيفة Electroweak Force. وقد مثل ذلك إنجازاً كبيراً قد نال عليه جائزة نوبل في الفيزياء العلماء: “ستيفن واينبرج Steven Weinberg” و”محمد عبد السلام ” و”جلاشو Sheldon Lee Glashow”. وذلك تحت ظروف حرارية معينة تحاكي نشأة الكون عندما كانت جميع القوى قوة واحدة.
ولم يتبق للفيزيائين إلا أن يوحدوا الجاذبية مع القوة الثلاث المتبقية. حيث يسمونها النظرية M أو نظرية كل شيء. على فرض أنَّ اليوم قد أعلن العلماء عن نجاح النموذج المعياري لميكانيكا الكم الذي يصف كل قوة من تلك القوى بجسيمات حاملة لها؛ تتغير خواص تلك الجسيمات من كتلة وشحنة وسبين (عزم لف ذاتي) حسب طبيعة ما تحمل تلك الأخيرة من قوة. (الفوتونات للكهرطيسية، الجرافيتون للجاذبية، الجليونات للنووية القوية، وجسيمات w وz للنووية الضعيفة -هي نظرية تحت الاختبار التجريبي-). لكن إذا حدث وتوصلنا للمعادلة المنشودة وتأكدنا منها تجريبيا! هل سيمكننا ذلك من تفسير أكبر المعضلات الأنطلوجية Ontologic والإبستملوجية في حياتنا التي أرقت الفلاسفة منذ فجر التاريخ،كسِرّ الوجود وحرية الإرادة ووجود الشر ومعنى الجمال وارتباط الوعي بالمادة ومعضلة الهوية؟.
لا أظن ذلك .
فخ البداهة
هذا ما يسمى بالاختزالية. إننا نقع في ذلك الفخ بسبب البداهة. نعلم أن توحيد القوى أمر مهم وأن علم الذرة لا يقل أهمية وعظمة عن علوم الفضاء، لكن النقطة الفاصلة بين الاثنين هي السر. إننا مكونون من الذرات لكن الذرة لا تملك وعياً ونحن نمتلك، والذرة لا تمتلك لوناً ونحن نمتلك.
إن الاختزال المادي على الرغم من أهميته العظمى، يوقعنا بمغالطة منطقية تجعلنا نخلع خصائص الجزء على الكل. كما رأينا إن الذرة الواحدة لا تمتلك أياً من خصائص الوعي أو اللون، لكنها مكونة لبعض الأجسام التي تمتلكها. حسناً إذن هنالك خيط مفقود.
مفهوم الانبثاق
إنه الانبثاق الذي يقول لنا بمفهومه الغامض والأساسي إن (اجتماع مجموعة من الجسيمات برابطة معينة فيزيائية أو كيميائية أو حيوية قد يشكل جسماً يمتلك خواصاً تختلف عن الجسيمات المكونة له كلٌ على حدة). لنذهب إلى الكيمياء:
الكلور عنصر سام، لكنه عندما يتفاعل مع الصوديوم يشكل غذاءً أساسياً هو الملح. كذلك الماء الذي لا يحترق لكنه مكون من عناصر تشكل المحور الأساسي لعملية الاحتراق هي الهيدروجين والأوكسجين. قد تكون معلومات بديهية لكننا لم نفكر أبداً على هذا النحو إلا نادراً. وكذلك بعض العصبونات التي تعمل كبوابات منطقية في حالتها المفردة، لكنها تشكل وعينا الذي يعمل بشكل مختلف كلياً.
قصة رمزية:
الأمر يذكِّرني بقصة تمثال ونستون تشرشل Winston Churchill والذي لسبب ما كان عليه ذرات نحاس أعطته لوناً أزرق في جانب معين فلفتت النظر. حسناً، إذا أردنا أن نجيب على سبب ذلك بالاختزال، يمكننا تتبع مسار حركة تلك الذرات منذ الانفجار العظيم إلى المنجم حتى وصلت للتمثال. وسنحتاج لوقت وحواسيب خارقة لإنجاز ذلك العمل.
على فرض تم ذلك! هل سنصل لإجابة ما الذي أوصل ذرات النحاس الى تمثال تشرشل؟ طبعا لا. لكن إذا نظرنا بمستوى أعلى، وأجبنا بأنَّ ذلك الرجل يُعد بطل سياسي لدى شعبه في الحرب العالمية الثانية (حسب وجهة النظر الرسمية)، لذلك بُني التمثال كنوع من التكريم، وهذا ما أوصل ذرات النحاس إليه، في هذه الحالة يصبح للإجابة وعي ضمني. ومن ثم تَشَكُّل ذاكرة مكونة من مجموعة من الأفكار والتي لا تقل أهمية عن مفاهيم فيزيائية ككمية الحركة والدفع.
الخلاصة
إننا كبشر نجد أنفسنا على كوكب الأرض متوسطين حجماً وسلوكاً بين الكواكب والذرات، ولعل تلك الحقيقة إشارة رمزية لحاجتنا العميقة لكلا النظرتين (الشمولية الكلية والتجزيئية). الأولى تساعدنا في الإجابة على كبرى الأسئلة الوجودية، أما الثانية فقد أصبحت مألوفة لنا اليوم بسبب التقدم العلمي، فنحن نستخدمها في حياتنا اليومية بالمختبر والدراسة الأكاديمية. إنها تشكل منظورنا الأساسي في العلم.
إن السجال بين هاتين المدرستين كمنظورين مختلفين للوجود قد شكل محل جدل منذ أقدم العصور ونلاحظ بأن الأديان والفلسفة بمفهومها الميتافيزيقي قد اتخذت الجانب الشمولي، أما العلم بمفهومه الإمبريقي Empirical (التجريبي) قد اتخد الجانب التجزيئي.
فعصرنا ما هو إلا امتداد ثقافي واجتماعي لتلك الحقب التاريخية. ولعل التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو التوفيق لأكبر حد بين الاختزال والتجزيء والحاجة العميقة للفهم الشامل عما ينبثق من تلك الظواهر من أشياء وأفكار غير متوقعة.
________________________________
المراجع:
- بداية اللانهاية _ديفد دويتش_دار كلمات عربية للنشر والتوزيع
- الله والفيزياء الحديثة _بول ديفز_صفحات للدراسات والنشر
- الكون الأنيق _برايان جرين_دار التنوير للطباعة والنشر
- مجلة معابر_الإصدار الثالث /الكون والدماغ من وجهة نظر هولوغرافية _قيصر زحكا
- العدم _فرانك كلوس_مؤسسة هنداوي