الفن: رُؤى تقليديَّة
نستطيع القول عن الإنسان إنَّه حيوانٌ فنَّان: يَرسِم ويَعزِف ويكتُب من غير أن يكتفي بلغته المنطوقة أو واقعه المُضْجر وحده، فهو ذاتٌ تُفكِّر وتشعر وتخلق عالَمًا ثانٍ يقوم على الأوَّل، لكنَّه أكثر فرادة وميتافيزيقيَّة. حيث يمثِّل الفنّ هذا العالَم فهو الموجود الذي نصنعه ويصنعنا والعاجزون عن تعريفه أحيانًا لأنَّه كلّ شيءٍ من دون أن يكون شيئًا.
ما الفن إذن؟ لماذا نفعلُ الفَنّ؟ هذا إذا اتفقنا أنَّ الفَنّ فعلٌ وانفعالٌ، وأنَّ الإنسان “ذات فاعلة” كما أعلَن يومًا فرانسيس بيكون، بغضِّ النظر عن أنَّ الفَنّ صورةٌ كبرى لوجودٍ ما. فما مدى ارتباطه بالواقع؟ وما مدى ارتباطه بالخيال؟ ما هو غرضه؟ ومتى نقول عن فَنٍّ ما أنَّه جميلٌ؟
يجعلنا الأمر نتساءل أيضًا عن ما إذا كان الفَنّ غاية أم وسيلة؟ من دون استيعاب حقيقة الجواب. فالفن مثل “الزمن“الذي قال عنه أوغسطين أنَّه يعرفه، فإذا سُئِل عنه صار لا يعرفه!.
أما الناقد روجر فراي فيقول: “يصبح الفَنّ الحقيقيّ أكثر احتجابًا وابتعادًا عن الفهم، وإمعانًا في النزعات الخفية كأنَّه نِحْلَة من النِّحل الدينيَّة ذات الأسرار العويصة تذهب في الهرطقة بعيدًا، أو -كأنَّه- العِلم في القرون الوسطى وهو لا يخاطب إلا أفرادًا معدودين”(1).
ويشاء البعض أن يقوم بعقلنته ضمن مبادئه الفَلْسَفيَّة والدينيَّة وتقويمه لصناعة ما هو خير وجميل معًا فلا يقبل بالمتعة واللَّذَّة فحسب، ولا بالأسرار المُبْهمَة، إنَّما البساطة والوضوح والانسجام حتى تتمظهر النُظُم الأخلاقيَّة والمعرفيَّة داخله وتتجِّه نحو متلقّيه، ففي النهاية هناك محاولات مختلفة تحاول تطويعه بما يتوافق مع تقاليدها.
الفن والأخْلَاق:
لقد ساد تقليد قديم وطويل الأمَدّ بالمجتمعات الغربيَّة والشرقيَّة رسم فيها الفُنُون داخل مثلَّثٍ مبجَّل أضلاعه الخير والحق والجمال، كما طغى الجانب التعليميّ والتربويّ الذي دعى إليه أفلاطون مع غيره، ولم يتغيَّر الاتجاه كثيرًا خلال القرون الوسطى التي كانت فيها المدرسة السكولاستية تسيطر على المجال الفِكْريّ واللاهُوتيّ، أما في عصر النهضة فقد بدأت الآداب والفُنُون تتحرَّر ببطء من تلك القيود التي ألِفتها سائرةً نحو تقديس الإنسان والفردانيَّة ناظرةً إليه بعين جديدة، تَضَرب بحشمة بعض الصُروُح العاجيَّة التي تسكنها المُثُل الدينيَّة والاجتماعيَّة العليا من دون أن تنفصل عن وظائفها الكلاسيكيَّة التي تُمجِّد الكائن البشريّ كحاكمٍ ونبيلٍ، والمواطنين كقطعٍ من الشطرنج المتشابهة داخل أُمَّة ممجَّدة، أو لأجل ربط العالَم بقِيَمه الدينيَّة وآلهته، أما في العصر الحديث وما بعده من ما بعديات، فقد انقلب الفَنّ رأسًا على عَقِب وأُصيب بشكلٍ من أشكال الجنون النافع وأمراض الحُريَّة مُبشِّرًا بقيامة جديدة مُبْدِعَة أكثر.
لقد توصَّل أفلاطون إلى القول بأنَّ الشِّعْر كاذب وبعيد عن الحقيقة والعقل، فرأى ضرورة منع الشِّعْر الذي لا يحوز على القِيَم الأخلاقيَّة، ودعى إلى مراقبة الفَنَّانِين وما ينتجونه من أعمالٍ بإمكانها أن تُفْسِد المجتمع، وقد طرد فضلًا عن ذلك الشُّعرَاء من جمهوريته ووضعهم في آخر المراتب -الشُّعرَاء السيئون ربَّما-، وانتقد شخصيات هوميروس التي تتمتَّع بصفاتٍ لا أخلاقيَّة حسبه، فتلك الشخصيات التي تتقاتل وتتصارع فيما بينها، وتبكي حظَّها العاثر، بامكانها أن تؤثَّر على المواطن الإغريقيّ فيتشبَّه بها. كما هاجم بشراسة أنْسَنة الشخصيَّات الإلهيَّة في الأدب إلى درجة الاستخفاف بها وتحقيرها مثلما حدث مع الشخصيَّات البشريَّة(2).
وزعم فيثاغورس أنَّه رأى حُلمًا يُعذَّب فيه هوميروس وهيسيود بالعالَم السُّفْليّ لأجل كذباتهم الشِّعريَّة، حيث كان الأوَّل معلَّق على شجرةٍ تحيطها الأفاعي، والثاني قد شُدَّ إلى عمودٍ وهو يصرخ من الألم(3). بينما تملَّكت الخطيب الروماني كونتليان ومثله سينكا حالة من القلق إزاء انْحِطَاط الموسيقى في زمنه ومسحة التَخَنُّث التي تنطلق منها مُذيبَة الشَّجَاعَة والرُّجُولة(4).
كان هذا في العقل الأفلاطونيّ ومن تبعه ولا يمكن بكل الأحوال أن نُعمِّم هذه الأفكار على العالَم الإغريقيّ وقتها، لأنَّ التاريخ كان يُبنى على الفَنّ أضف إلى ذلك أنَّه امتزج مع العِلم، فالشُّعراء والكُتَّاب وقتها يعدُّون بمنزلة أنبياء الشَّعْب.
ولكي نكتشف عقلًا آخر مثل أفلاطون، لكن من الشَّرْق، فعلينا القراءة لكونفوشيوش مُعلِّم الصين الذي أحبّ الموسيقى بشكلٍ حميميّ، غير أنَّ الفَنّ لديه لا يكتمل إلَّا بالأخلاق التي تعبِّر عنه بعض أنواعها، يقول:
“إنَّ موسيقى تشنج Change مُنْحلَّة وشهوانيَّة، وموسيقى سونج Sung ناعمة تبعث في النَّفْس الطراوة والمُيُوعَة، وموسيقى واي Wei سهلة ومتكرِّرة، وموسيقى تشي Ch’i خَشِنَة تُفْسِد أخْلاَق الشَّعْب، ولذا فليس من اللائق استخدامها في القرابين والتضحيات”(5).
إنَّ للفَنّ قِيَم أخلاقيَّة وموضوعيَّة في جوهرها وليست انطباعيَّة، وهذا ما يعتقده أشخاص مثل كونفوشيوس وبعض من النُّخَب والعامة حُمَاة الأخْلاَق، فـ مثلما يقول أستاذ الأدب و. ب. ستانفورد :
“إنَّ الأخلاقيين يبحثون عن الفضيلة، أما الشُّعراء والفَنَّانِين فهم يبحثون عن الجَمَال”(6).
والجَمَال حسبهم مرتبط بالخير، كما أنَّه متصِّلٌ بالكمال بطريقةٍ تجعلنا نَضيع داخل تلك الدهاليز الثقافيَّة الثلاث، فلا يستطيع الفَنّ الدخول إلى واحدة منها من غير الاثنتين لشدة ما هي مُتداخِلة ومُتشابِكَة.
إنَّ الفَنّ بهذه الآيْدُيُولوجيا القيميَّة ليس مجرَّد مُحاكَاة للطبيعة، بل مُحاكَاة للمُثُل الفَاضِلة، فهو لا يعتمد على السَّطْح بل يغوص إلى العُمْق، وما دام لدى الفَنّ قوَّة مؤثِّرة فعليه تقديم أعمال صافية بإمكانها الصُّعُود برُّوحِ الأفراد إلى مراتبٍ عُليا بعد “تطهير” نُفُوسهم. شعارات بريئة لم يَعُد الكثير يتخذَّها على محمل الجَدّ، غير أنَّها مُتجذِّرة في الجَمَاليَّة وفَلْسَفة الفَنّ وتُفَضِّل الاختباء بين ثنايا العديد من الاتجاهات والفَلْسَفَات بأثوابٍ جديدة.
الفن والمُجْتَمَع:
يرتبط الفَنّ عند بعض الأخلاقيِّين بالواقع ليُساهِم فيه على نحوٍ إيجابيٍّ. فمن مَهَام الفَنّ عند تولوستوي توحيد أفراد الشَّعْب ورفع وَعْيَهم، فـ باعتقاده أيّ شخصٍ يرى في الفَنّ لذَّة ومنفعة فرديَّة فحسب هو أشبه بالمُتَوحِّش البعيد عن التحضُّر والفهم، لأنَّ هدف الفَنّ الأسْمَى ليس الجَمَال. ورغم أنَّ تولوستوي فَصَل بين الجَمَال والخير ولم يَجِد بينهما تشابهًا جوهريًّا، إلا أنَّه شدَّد في كتابه «ما هو الفن؟» على وجوب أن يحمل الفَنّ فضائلًا، كما ضَمَّ إلى هذه الرؤيَّة قِيَمِه المسيحيَّة.
ولا تتوقَّف هذه المُحاولات في جعل الفَنّ مُنْقَادًا إلى رُوح الجماعة والمجتمعات لدى الأُدَبَاء والفَنَّانِين والنُقَّاد، بل يتجلَّى الأمر لدى القادة والسياسيِّين في الأنْظِمة الشُمُوليَّة التي تخلق السَّرديَّات الكُبرى للماضي والحاضر والمستقبل، فالفَنّ عند الاشتراكيِّين والشيوعيِّين ينبغي أن يُمثِّل الواقع من دون ذَاتيَّات وتشويهٍ له، وأن يكون عمليًّا لأجل النضال والإعداد للنهوض بأسَاطِيرهم ونماذجهم العُظْمَى.
يعلِن لينين:
“إنَّ الفَنّ ينتمي إلى الشَّعب ويجب أن تمتد جذوره إلى أعماق جماهير الشَّعب، ويجب أن يكون قابلًا للفهم من جانب تلك الجماهير وأن تستوعبه وتحبه، كما يجب أن يوحِّد انفعالات الجماهير وأفكارها وإرادتها، وأن يرفع الجماهير إلى أعلى مستوى”(7).
ورغم أنَّ ماركس انتهى في فلسفته للفَنّ إلى ضرورة تحرُّره، وادَّعى أنَّ انْحِطَاط الفَنّ يعود إلى عُبُوديَّة الفَنَّان لعصره والطبقة التي تُسيطر على النشاط الاقتصاديّ والسياسيّ متحكِّمة بالمفاهيم الفَنيَّة، غير أنَّ الفَنّ مُعْتَمدٌ على واقعه وروحه الجمعيَّة. وبهذا فقد اهتم العديد من الفَنَّانِين الشيوعيِّين باستغلال فَنِّهم في صِراعَاتهم ضد البرجوازيَّة، حين رسموا حياة الفقراء والعُمَّال الذين ينتمون إلى الطَّبَقَة الكَادِحَة.
لقد حاول هتلر في أيامه إحْكَام قبضته على المظاهر الثقافيَّة لشَّعبه، وهو الذي كان فنانًا متواضعًا من قبل، لغرض جعل الفَنّ يَخدْم رؤيَّته في تحقيق حُلْمه الآريّ، فلَاحَقَ العديد من الفَنَّانِين والحركات الفَنِّيَّة، واقترف جريمة في حق الإبْدَاع تمثَّلت في إغلاقه للباوهاوس، وقد كانت سياسته علاوة على هذا سببًا من أسباب انْتِحار الفَنَّان التعبيريّ إرنست كيرشنر بعد تدمير عدد كبيرٍ من أعماله والهجوم على فَنِّه. فتحوَّل الفَنّ تحت زِيِّ هتلر العسكريّ حينها إلى تمجيد الفلاَّحيِّن والجُنُود والقوميَّة الألمانيَّة مُبْتعِدًا بذلك عن التجديد والحُرِّيَّة في الإبْدَاع.
يكون الفَنّ في مثل هذه النَّظريَّات صورة من صوَّر المُجْتَمع ووسيلة لجعله مُتمَاسكًا، أو إبْدَاعًا أنتجته وبعثته المظاهر الاجتماعيَّة إلى الوجود. فنجد في ملاحظة نوربير إلياس -أحد الباحثين بالسُوسْيولوجيا- توظيف الفَنّ لغرض إظهار قِيَم لا عَلاقة لها بالجَمَال أو الدِّين عند دراسته للكَنَائِس القوطيَّة، مفسِّرًا بأنَّ علوُّها وعظمتها نابعٌ من منافستها للمُدُن الأخرى(8).
وهكذا على الفَنّ حسب حاملي شُعْلَة الجماعة، أن يمثِّل وسيلة استثنائيَّة تُقدِّم ثمارًا جيِّدة إلى المُجْتَمَعَاتِ، وتُناسِب أهوائه كما تُناسِب كلّ شَجَرَةٍ فصلها، وأيّ فَنّ غَيْر مُنْضَبطٍ لديه تلك الأنانيَّة الفرديَّة التي تبعده عن الجماعة، عليه بالانْسِحَاب.
الفَنّ والدِّين:
استمدَّ الفَنّ طاقته بل رُوحه من خلال الدِّين وما يُمثِّله أو يعتقده بنَظْرته الشاملة عن الحياة، فنجد الأغاني الدِّينيَّة والتَّرانيم الموسيقيَّة، والرسومات التي تخص التصوُّرات الاسكاتولوجيَّة -الأخرويَّات- ومَخْطُوطَات الكُتُب المقدَّسة بخطوطها المتكلِّفة مع رسوماتها التوضيحيَّة، أو صور المؤمنين ينتظرون منها تخليدهم بعد الرحيل أو فتح العالَم الآخر لهم.
لقد سادت مظاهر قديمة في تفسير الفَنّ عند رِجَال الدِّين في العُصُور القروسطيَّة، فقد تَمّ اعتبار الفُنُون وما فيها من جَمَال كشف لنظام الكَوْن وسرِّه الإلهيّ وإعلان للحقيقة بما يُعرَف بـ“شُعَاع الحَقّ” (Splendor Veritatis)، وبذلك اعتمد الفَنّ هنا على مَنْظُورٍ ميتافيزيقيٍّ.
نرى أوغسطين يؤكِّد أنَّ الفُنُون تسهم في إيصال العقل إلى الحقيقة، وأنَّها صورةٌ عن الكَوْنِ والخَالِق، كما أولَى الموسيقى اهتمامًا بالغًا وألَّف حولها كتابًا(9).
وقد يقوم الدِّين بنَحْتِ طريقة لصَنيعَة فنِّيَّة ما مُعتمِدًا على منطق أخلاقي معيَّن، إلا أن الأخْلَاق داخل الدِّين وليس العكس، وبالتالي فإنَّ تأثير الدِّين أقوى هنا من الأخْلَاق، فهو بإمكانه الإعلاء أو تحقير فَنٍّ على آخر من دون الاعتماد بالضرورة على حُكْمٍ أخْلاَقي، بل من رؤاه الإلهيَّة نفسها وصلابة طابوهاتها، وإن كانت الأسباب مُبْهَمة أو غير مُقْنِعَة.
لقد عَرَف الفَنّ في العُصُور المسيحيَّة مُنْعَطفات جديدة تتمثَّل في رَسْم الأيقونات المُقدَّسة واللُّوحَات التي تتخذُّ موضوعاتها من الكِتاب المُقدَّس وتاريخ الخَلاَص، لهذا فقد أبعدت مواضيع الجِنْس والأسَاطِير، أو صناعة التَّمَاثِيل التي تَحْتَفي بالجسد، كما نجد في التاريخ السياسيّ المُتَحالِف مع الدِّينيّ أو مُعْتقَد الحَاكِم الشخصيّ، الإمبراطور ليون الثالث الذي منع صناعة التَّمَاثِيل وأمر بإبعادها عن الكَنَائِس، فكان نتيجة ذلك ظهور جماعة عُرِفَت بـ“مكسري التماثيل، عاشت مبادئهم لسنواتٍ كثيرة(10)، والحقيقة أنَّ المسيحيَّة ولو أدْخَلت نفسها في أحكام الفَنّ، إلا أنَّها كدِيَانةٍ كُليَّة كانت مُتسامِحة معه، كما أبقت باب المُجادَلة مفتوحًا بشأن الأيقونات والتَّمَاثِيل والتصاوير، ناهيك أنَّ الفَنّ يُعْتَبر عنصرًا مهمًا داخل الكَنِيسَة، حيث يتجدَّد مع الوقت ليُناسِب بيئته، ليس أفضل من ذِكْر رُوحَانِيَّة الزُّنُوج أو الرُّوحَانِيَّة السوداء (negro Spirtual) عند المُبَاشرة بمثل هذه المُناقشَات، ومن المَعَارِف الشائعة أنَّ الكَنِيسة استغلَّت الفَنّ لتقريب الوثنيِّين والأُميِّين معًا إلى مُعتقدَاتها أو تقوية أساساتها داخل الجماعة المسيحيَّة، كما كان لديها احْتِكَاك مع فُنُون الحضارات التي استثمرتها كذلك.
يرى البعض أنَّ المسيحيَّة ساهمت في انْحِطَاط الفَنّ، غير أنَّ مواضيع الفُنُون هي التي تتغيَّر، وإنَّ الفَنّ لم يندثر سواء كان على المستوى الشعبيّ أم النُّخْبَويّ. نظرة واحدة على الفَنّ القوطي تكفي لرفض هذه الدعوى، فالمعتقدات المسيحيَّة ساهمت في بعث أساليب جديدة في العمران والتصوير والموسيقى لا يمكن تجاهلها، وهو ما جعل الأديب الفرنسي شاتوبريان يؤلِّف كتابه “عبقريَّة المسيحيَّة” ليدافع عن معتقده من خلال عِدَّة أبواب: واحدٌ منه مساهمات المسيحيَّة في تشكيل الفَنّ ودحض المزاعم التي تجعلها عدوَّتها.
هناك من يرى أن الفَنَّ قد مرَّ بالعديد من المراحل بدرجاتٍ مختلفة، إيجابًا أو سلبًا مثل روجر فراي وماركس وهيغل، أو كلايف بل الذي كَتَب: “كان الفَنّ في بعض الأماكن جيدًا دائمًا تقريبًا، وفي أماكنٍ أخرى دون الطَّبقة الأولى دائمًا، ولكن لم يكن ثَمَّة هبوط مُسْتعصٍ عام حتى استسلمت العمارة النورمانية والرومانسكية للعمارة القوطية، حتى تحوَّل نَحْت القرن الثاني عشر إلى تزيين القرن الثالث عشر”(11).
ثُمَّ يتابع:
“ليس الفن تعبيرًا عن عواطف مسيحيَّة محدَّدة، بل عندما أيقظت المسيحيَّة الناس هنالك فقط شرع الناس في الإحساس بانفعالات تُعبِّر عن نفسها في الشكل”(12).
إنَّ الحضارة الإسلاميَّة التي حرَّمت تصوير ذوات الأرواح وصناعة التَّمَاثِيل، قد برعت في الزَّخْرَفة النباتيَّة والهندسيَّة واللا شكليَّة إلى جانب الخطِّ العربيّ نتيجة تركيزهم على الفَنّ التجريديّ مع العمارة، ولولا هذا التحريم ربَّما، ومقياس هذا الحُكْم الفَنيّ في الإسلام لِمَا عثرنا على كلّ هذه الفُنُون التي وجدها الفَنَّان المُسْلِم مُتنفَّسًا له ومرآة لثقافته ودينه.
لا تجعل الأديان الفَنّ يَنْحط، بل يتمثَّل عملها في إضفاء شروط عليه تستمدُّ رؤاها من السُّلْطة الإلهيَّة والشخصيَّات المقدَّسة بإمكانها أثناء ذلك خلق أساليب فَنيَّة جديدة حسب دوغمائيتها، الأمر أشبه باتجاه فَنيّ حديث يستخدم أساليبه وتقنياته من مبادئه الجماليَّة والعقليَّة التي لا يعتمد مؤسِّسيها وأعضاؤها على أي مُنطلَقٍ دينيّ يأمره بأشياءٍ محدَّدة ويمنع عنهم أخرى من فوق السماء، بل يكون الشعور نابع من فَلْسَفتهم البشريَّة ولو كان فيها نظرة متصوِّفة ولاهوتيَّة.
لقد كانت المُعتقدَات الدِّينيَّة والرُّوحَانيَّة من محرِّكات الفَنّ، حتى لو صادفنا بعض الأديان التي قد عَرَفت في تقاليدها التركيز على فَنٍّ معيَّنٍ وتجاهُل آخر، وربَّما مهاجمته.
الفن بوَصْفه عِلاجًا اليوم:
لا يُقدِّم الفَنّ الآن في رؤيَّة الكثيرين المُتْعَة والإشْبَاع فقط، ولا المُحافظة على الأخْلاَق أو المُعتقدَات الدِّينيَّة والقوميَّة فحسب، بل صار واحدًا من طُرُق العلاج النَّفسيّ. تُعَد الأمريكيَّة مارجريت نومبورغ أحد أهم مؤسِّسي “الفَنّ العِلاجيّ”(Art Therapy)، وهذه رؤيَّة وتطبيق جديد غير تقليديّ، بالرَّغْم من تحويل الفَنّ إلى وسيلةٍ لتحقيق غاية ما، غير أنّها طريقة تأخذ من الفَنّ ما يفيدها من دون تعليق أحكام على ماهيَّته وكيف ينبغي أن يكون؟ الأمر بديهيّ حين نعلم أنَّ الفَنّ العِلاجيّ ليس فَلْسَفة فَنّ وجَمَاليَّة.
وحسب إحدى الدراسات النيورولوجيَّة، فإنَّ بعض المناطق في المُخ تُساهِم في تقليص الألم حينما تنشط فتزيد من الشُّعُور بالمُتْعَة عن طريق الخلايا العصبيَّة التي تنتج الأندروفينات المشابهة للأفيون في التأثير. حيث ترشدنا هذه الدراسات إلى: “الأهمية الكبيرة التي تقوم بها مادة السيروتونين … في إدراكنا للجَمَال، حيث يزداد نشاطها كما يُقال، عندما نتلقَّى خبرة جَمَاليَّة أو نُدرك موضوعًا جماليًّا أيًّا كان”(13).
وفي دراسة لدور الفَنّ في تحسين أداء الفرد، تَمَّ وضع دراسة أو تجربة معروفة باسم “أثر موتسارت” (mozart’s effect)، يجعل فيها الباحثون الأطفال متعوِّدين على سماع مقطوعات موتسارت، ليتم البحث بعد ذلك في حقيقة النتائج التي تُظهِر ومستويات الذكاء الذي يملكونه، وقد كانت النتائج إيجابيَّة عندما أحرزوا تقدُّمًا أدائيًّا وذهنيًا مقارنة بالبقية الذين لم يخضعوا لهذه الشروط(14).
إنَّ بعض علماء النَّفس والأعصاب أو النُقَّاد والباحثين في الفَنّ المهتمين بهذه المجالات، يحاولون تقديم نقدهم لإثراء مساهمات الفَنّ عند الإنسان. فنجد النَاقِد الفَنيّ إدوارد لوسي سميث ينتقد العمارة الحديثة لإفراغها عمارتها من الزخرفات والأشكال المكثَّفة والمعقَّدة وحبها للبساطة التي تَحْرِم المُتلقِّيّ من المُتْعَة الجَمَاليَّة وإشباع ذوقه، فهذا الأسلوب في العمارة يُسيطر عليه الجانب الأيسر التجريديّ والمنطقيّ أكثر من الجانب الأيمن الإبْدَاعيّ(15).
يُحاوِل هذا المجال الاستفادة من الفَنّ الذي هو مجرَّد وسيلة لديه نحو الغاية التي ينبغي تحقيقها من دون التعصُّب في تأويله أو التدخُّل في تحديد معالمه، وكيف يجب أن يكون؟ إنَّه ليس فَلْسَفة جَمَاليَّة، بل دراسات نظريَّة وتطبيقيَّة تكرِّسه لأجل العِلاج.
خاتمة:
إنَّ صورة الفَنّ في الرُؤى الثلاث الأولى قريبة من الخَادِم المُخْلِص الذي يُنفِّذ الأوامر من الفرد أو السُّلْطة لأجل أن يكون مفيدًا ولا يكتفِ بكونه جميلًا فحسب، إنَّه يؤدِّي وظائف يُحدِّدها له المُجْتَمع، فنراه مرَّة شرطيًّا للأخْلاَق، ومرَّة كاهنًا يؤدِّي طُقُوسه الدِّينيَّة ويعبُد آلهته، ومرَّة أخرى جنديًّا يدافع عن وطنه. أما الفَنّ الذي يسقط داخل نطاق العِلاج فهو ممارسة تُستغَّل لدواعٍ نافعة من دون أن يكون حُكْمًا عليه أو خوضًا فيه.
الفَنّ في النهاية فَلْسَفة حسيَّة تُرى وتُلمَس وتُسمَع بمذاهب مختلفة وحواس لا تتشابه مع غيرها، وبهذا فطُرُق التفاعل معه لا تأتي بنتائجٍ واحدة، غير أنَّه يبقى دائمًا ملتصقًا بكلّ صورة من صور العالَم الماديَّة والمعنويَّة، كما أنَّه شيءٌ ما عند أحدهم دائمًا.
المراجع:
1- د. كلينجدر، الماركسية والفن الحديث: مدخل إلى الواقعية الاشتراكية، ترجمة: إبراهيم فتحي (عيون، الطبعة الثانية، 1989)ص:38، 39.
2- يمكن الرجوع إلى مؤلَّفات أفلاطون التي تناولت مواضيعًا في الفَنّ والجَمَال: الجمهوريَّة، محاورة فايدروس، محاورة أيون، المأدبة فلسفة الحب.أيضا: كتاب “فن الشعر” لأرسطو الذي به آراء وتفاصيل جديدة ومغايرة.
3- مجموعة من الكتاب، المرآة والخارطة: دراسات في نظرية الأدب والنقد الأدبي، ترجمة: سهيل نجم (نينوى للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2006)ص 15.
4- رمضان الصباغ، الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق (دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الطبعة الأولى) ص 298، 299.
5- المرجع نفسه، ص 286.
6- المرآة والخارطة، مرجع سابق، ص14.
7- الماركسية والفن الحديث، مرجع سابق، ص98.
8- ناتالي إينيك، سوسيولوجيا الفن، ترجمة: حسين جواد قبيسي (المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2011) ص39.
9- هنري تشادويك، أوغسطين مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة: أحمد محمد الروبي (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى، 2016) ص 44، 45.
10- إحسان عرسان الرباعي، موضوعات في تاريخ الفن (شركة دار الأكادميون للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2018) ص90.
11- كلايف بل، الفن، ترجمة: عادل مصطفى (رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2013) ص 159.
12- المرجع نفسه، ص 161.
13- شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجية التذوق الفني (المجلس الوطني للثقافة والفنون، عالم المعرفة، الكويت، ٢٠٠١) 267، 2001، ص38.
14- المرجع نفسه، ص25.
15- المرجع نفسه، ص39.