الذكاء الاصطناعي: بداية جنة الأرض أم نهاية حقبة البشر؟
إذا كان الذكاء الطبيعي قد وضعنا على القمة .. أين سيضعنا الذكاء الاصطناعي؟
مقدمة: الذكاء الطبيعي في مواجهة الذكاء الاصطناعي
أتعرفون ما الذي يميزنا عن بقية حيوانات الغابة؟ تُميّزنا بِوَجه أساسي عن الحيوانات قدرتُنا على التفكير المجرّد ونقل المعلومات وتراكمها. هذا الذكاء الرائع هو الذي أجلسَنا على القمّة.
المدهش أننا نسعى من فترة ليست بقصيرة إلى خلق آلات ذكية نمنحها مثل هذا الذكاء، بل والقدرة على مضاعفته آلاف المرات. تُرى، هل سنشهد يومًا كائنًا آخر يعتلي هذه القمة.. ويستعبدنا؟ أم تراه سيكون خادمًا مطيعًا كَجِنّي المصباح يفعل ما نريد.
آخذًا في الاعتبار معدّل نموّ التكنولوجيا الحالي المتسارع أو الأسيّ كما يسمّيه راي كورزويل (قانون مور)، من المحتمل أن يشهد أطفالنا هذه الآلات فائقة الذكاء بحلول عام ٢٠٧٥، وفقًا لتوقُّعات مؤتمر الذكاء الاصطناعي العام بجامعة ممفيس، عام ٢٠٠٩.
وإذا كانت صورة هذه الآلات الذكية تُلقي الذُّعر في قلبك كما شاهدتها في فيلم ترميناتور وحرب العوالم مثلًا، وكنتَ مشاركًا لآراء ستيفن هوكينج، وإلون ماسك، وستيفن جوبز، حول خطورة مثل هذه الكائنات القادمة، فإنني أرجو منك أن تهدأ قليلًا فإنّ الوصول إلى الذكاء الفائق superintelligence يجب أن يمرّ بثلاث مراحل أو (عبر ثلاثة أنواع) من هذا الذكاء، ولا زلنا نتعثّر في أوّلها.
الهدف من المقال
تهدف هذه المقالة إلى تعريف القارئ بشكل مبسَّط بالجوانب الأساسية لموضوع الذكاء الاصطناعي، عسى أن يتمكّن كاتب المقال من إثارة اهتمام القارئ العاديّ كي يسعى للاستزادة العلمية من هذا الموضوع.
هيكل المقال
سأبدأ بتعريف الذكاء الاصطناعي مكتفيًا بتعريف وحيد، على الرّغم من وجود تعريفات متعددة. ثم سأنتقل إلى عرض المراحل المتوقّعة لتطوّر الذكاء الاصطناعي (أنواعه)، ثم التركيز تاريخيًا على المرحلة الأولى، وبعد ذلك مناقشة المخاوف وكيفية الاستجابة لها.
أولًا: تعريف الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي هو فرع من علم الحاسوب الذي يدرس ويصمّم الآلات، أو “العميل الذكي” Intelligent agents كما يسمّيه علماء الحاسب. والعميل الذكيّ هو نظام يستوعب بيئته ويتّخذ المواقف التي تزيد من فرص النجاح في تحقيق مهمّته أو مهمّة فريقه. ولقد صاغ عالم الحاسوب جون مكارثي هذا المصطلح بالأساس في عام 1956، وعرَّفه بنفسه بأنه “علم وهندسة صنع الآلات الذكية”.
ثانيًا: مراحل تطوّر (أنواع) الذكاء الاصطناعي
١- الذكاء الاصطناعي المحدود (الذكاء الضعيف weak AI)
وهو القائم بالفعل في الوقت الحالي، ويستخدم البيانات الضخمة والخوارزميات (عدّة تعليمات) في أعمال مثل ترتيب التايم لاين الخاصّ بك على الفيسبوك أو هزيمتك في الشطرنج. يتمتّع هذا النّوع بذكاء يقتصر على مجال واحد محدَّد، وقد لا يستطيع النجاح في اختبار تورينج. وتعتمد عليه الآن خطوط السِّكَك الحديدية والطائرات وأسواق المال: المستشفيات.
٢- الذكاء الاصطناعي العامّ (الذكاء القوي Strong AI)
هو الآلة الذكية التي استطاعت أن تفكّر أخيرًا مثلما يفكّر الإنسان. وهناك عقبات كثيرة تواجه الوصول إلى هذه المرحَلة وأن تؤدّي الأعمال اليومية التي يقوم بها البشر، وحتى الأطفال منهم، بسلاسة مثل صعود السُّلّم، وإحضار اللبن من الثلاجة وغيرها. والواقع أنّ كتابة خوارزميات لقيام الآلة بحسابات رياضية متقدّمة أسهل بكثير من السَّير دون الاصطدام بحائط. وعندما تصل الآلة إلى هذه المرحَلة، ستتمكن من كتابة خوارزميات لتطوير ذاتها بسرعة وباستمرار وباستقلال حتى تصل إلى حجمٍ من التفوُّق والسُّرعة تتجاوز فيها الماكينة المخلوقة قدرة خالقها بشكل كبير.. وتسمّى هذه اللحظة بالمفردة Singularity.
٣- الذكاء الاصطناعي الفائق superintelligence
يظهر هذا النوع من الذكاء عندما تتجاوز الآلة الذكية البشر بسرعة وبمسافة كبيرة، ويفقد البشر تمامًا قدرتهم على السيطرة عليها، وتصبح مقولة switch off “أقفِل الزّرار” غير صالحة للتطبيق.
ثالثًا: نظرة تاريخية على المرحلة الأولى (الذكاء الاصطناعي المحدود)
في عام عام 1950، وصف عالِم الرياضيات والحاسوب ومحلِّل الشفرات، ألان تورينج، في ورقة بحثية رائدة مفهومه عن “لعبة التقليد أو المحاكاة” imitation game، وكيف يمكن معرفة وتقييم ذكاء الآلة عبر إجراء محادثة معها، وهل وصلت الآلة بالفعل إلى مستوى يماثل الذكاء البشري.
المولِّد الفعلي للذكاء الاصطناعي:
لم نعرف مصطلح “الذكاء الاصطناعي” Artificial Intelligence AI إلا في عام 1956، وقد كان مؤتمر كلية دارتموث هو الحدث المؤسس للذكاء الاصطناعي، والذي شارك في تنظيمه عالم الحاسوب الأمريكي جون مكارثي، والذي يعود له الفضل في اختيار هذا اللفظ وإطلاقه على هذا العِلم. كان يعتمد على كتابة قواعد بسيطة تتبعها الآلة فتتصرّف أو تبدو كأنها ذكية. وكان لهذا تطبيقات عملية قليلة واستمرّ الحال حتى السبعينات من القرن العشرين حيث شهد هذا المجال جمودًا كبيرًا.
تعلُّم الآلة machine learning:
في الثمانينات من ذلك القرن، ظهرت فكرة تعلّم الآلة كفرع من الذكاء الاصطناعي. وتعتمد هذه الفكرة على أنه بدلًا من كتابة عدة قواعد تتبعها الآلة، تتمّ كتابة خوارزميات تبحث في البيانات وتتعلّم ما يمكن أن تكشف عنه هذه البيانات.
ولقد اشتُقّ من تعلّم الآلة عدة خوارزميات هامّة مثل الشبكات العصبونية الاصطناعية ANN، والعصبية المتكررة، والعصبية convolutional. وظلّت هذه الخوارزميات صالحة لتنفيذ مهامّ محددة أيضًا، وخلال الفترة بين الثمانينات من القرن العشرين إلى ٢٠١٢ حقق تعليم الآلة إنجازًا كبيرًا، كان منه هزيمة بطل العالم في الشطرنج.
التعلُّم العميق Deep learning :
في ٢٠١٢، حدثت قفزة كبيرة بظهور خوارزمية الشبكات العصبية متعدّدة الطبقات، أو ما يُطلَق عليه التعلّم العميق. واعتمد هذا التطوّر على: أولًا، ظهور خوارزمية الشبكات الاصطناعية متعددة الطوابق، ثانيًا، ظهور وحدات حواسب قوية جدًّا تقوم بتشغيل هذه الخوارزميات من خلال GPUs وليست CPUs، وثالثًا، توافر البيانات الضخمة التي تعمل هذه الشبكات على التعلُّم منها والتدرُّب عليها.
رابعًا: هل سنتمكّن من خلق الذكاء الاصطناعي العامّ؟
إجابةً على هذا السؤال، كتب نيك بوستروم الفيلسوف وعالم الحاسوب، في كتابه الصادر عام ٢٠١٤ بعنوان (الذكاء الفائق superintelligence)، أنّ آراء الخبراء حول الوصول إلى آلة ذكية بمستوى ذكاءٍ إنسانيّ تراوحت بين عدد من الاحتمالات هي (احتمال ١٠٪ في عام ٢٠٢٢ ، و٥٠٪ لعام ٢٠٤٠ و٩٠٪ لعام ٢٠٧٥)
و هناك من العلماء من يشكّك في إمكانية الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العامّ الذي لا يقتصر على مهمة واحدة، كالشطرنج عند deep blue أو التوصية بكتب مثل Alexa على أمازون؛ للتعقيد الشديد الذي يتّسم به العقل البشري، ومن ثم استحالة خلق آلة بأدائه.
الحقيقة أنّني من انصار (Ray Kurzweil)، العالِم والمخترع الأمريكي والذي أشار في كتابه the Singularity is Near: when Human transcends Biology، (٢٠٠٥)، إلى يوم التفرّد الأعظم the singularity، تلك “الساعة” التي يؤدي فيها التنامي السريع “الأُسي” في التكنولوجيا إلى إحداث تغيير تاريخي عميق في الحياة البشرية ينقلها بعد مرحلة الذكاء العامّ وإلى مرحلةٍ يندمج فيها البشر مع الذكاء الاصطناعي ويذوب فيها الحدّ الفاصل بين البشري وغير البشري، ويتخطى الإنسان حدود البيولوجيا كما لم نعرفها، وتدخُل البشرية إلى مرحلة تطوّريةٍ فارقة في مسيرة التطور بحيث لا يتبقى من البشرية إلا وعيها فقط ويتغيّر فيها كلّ ما يشكّل الطبيعة البشرية.
ويرى كروزويل أنّ مسيرة تطور البشرية تمرّ عبر ٦ حقبات، وأننا نقترب بسرعة من الحقبة الخامسة التي ستشهد اندماج التكنولوجيا (الذكاء الاصطناعي) الذي خلقه البشر مع الذكاء الإنساني، ونحن نتحرّك إلى هذه المرحلة بسرعة كبيرة بسبب الثورات العلمية الثلاثة التي تحدّث في نفس الوقت تقريبًا خلال القرن الواحد والعشرين، وهي ثورة علم الوراثة و النانوتكنولوجي وعلوم الروبوتات. وبعد قيام ساعة كروزويل سوف يبزغ فجر عالم جديد لا توجد به حدود فاصلة بين الإنسان والآلة وبين الواقع “الملموس” والواقع “الافتراضي”، ويمكننا علاج كلّ الأمراض والقضاء على الشيخوخة بل وحتى تبديل أجسامنا بحريّة وسلاسة.
خامسًا: هل هناك خوف من ظهور الآلة الذكية بالمستوى البشري HLMI؟
في مقابل الرأي شديد التفاؤل الذي قال به راي كورزويل، أتى إلينا الكاتب والمخرج الأمريكي جيمس برات برسالة تحذيرٍ كُبرى في كتابه الصادر عام ٢٠١٣ بعنوان “اختراعنا الأخير: الذكاء الاصطناعي ونهاية حقبة البشر”. أشار برات إلى أنه من بين كلّ المخاطر التي تهدّد البشرية مثل المناخ والأسلحة النووية، والتكنولوجيا الحيوية، فإنّ الذكاء الاصطناعي يأتي في المقدمة. وأكّد على استحالة السيطرة على هذه الآلات الذكية، وأنها إذا ظهرت فلن تُحبّنا ولن تكرهنا.. لكنها قد تطلق بوق النهاية لعصر البشر.
سادسًا: ماذا نفعل؟
أحسب أنّ معظمنا يشارك إلون ماسك صاحب تسلا وستيفن جوبز صاحب آبل، وستيفن هوكينج عالم الفيزياء النظرية في الشعور بمخاطر تطوير ذكاءٍ اصطناعي يمتلك قدرة مستقلة، فقد يكون ذلك أسوأ شيء يحدث للبشرية.. أو الأفضل.
وإذا كان الطريق يبدو بعيدًا أمامنا، ويملؤنا الزَّهو بأنّ الحلّ سيكون بسيطًا وقتئذ، وهو مجرّد “اكبس على زرّ إغلاق الماكينة”، فإننا واهمون ونستهين بشيء يجب أن يُؤخذ بكلّ جدّيّة.
إنّ حسم موضوع الاستمرار في استثمار الأموال الطائلة في تطوير ذكاء اصطناعي عامّ، سواء بإيقاف المشاريع والتركيز على تطوير الذكاء الاصطناعي المحدد بهدف واحد أو الاستمرار فيها مع وضع الضوابط الكافية هو أمر نتركه أمانة في أيدي الفلاسفة وعلماء الرياضة والحاسوب وعلماء الاقتصاد، واللغويات لحسم هذا الموضوع إن استطاعوا من كافّة جوانبه.
المراجع:
كتاب the Singularity is Near، راي كوروزويل
كتاب The Superinteeligence لنيك بوستروم
كتاب Artificial Intelligences : A modern Approach