لماذا انتهى عصر أفلام الغرب الأمريكي الكلاسيكيّة؟
رغمَ أنَّ عصر الغرب الأمريكي في الواقع كان قصير العمر، فقد امتدَّ ما يقارب الثلاثين عامًا فقط، وفي حيِّزٍ جُغرافيٍّ محدود في مدن معينة، إلا أنّه كان عالمًا لم يرَ أحدًا ولم يشهدْ مثله أيضًا منا، وغزير بالحكايات والصراعات والمغامرات، بين أبطال وخارجين عن القانون، وشخصيات أسطوريّة وقبائل لها تاريخ يتخطّى بعض الدول، وبعد نهايته ظلّت ذكراه تلوحُ في الأفق، ولم تختفي سيرته كأنما كان إمبراطورية عظيمة أو حضارة مؤثرة، بمجموعة مميزة من الأفلام والمسلسلات التي خلَّدت هذا العالم الفاتن بكل تفاصيله، حتى بدأت الأمور في التغير مع بداية فترة السبعينات مرورًا بالتسعينات، واختفى هذا العالم بالتدريج من التليفزيون ثم السينما، وانتهت إلى حد كبير أفلام الغرب الأمريكي أو الويسترن، فلماذا حدث ذلك؟
رحلة سريعة خلال عالم الويسترن
منذ بداية ظهور أفلام الويسترن في فيلم The Great Train Robbery عام 1903، أو كما يقترح البعض مؤخرا الفيلم الإنجليزي القصير Kidnapping By Indians في 1899، والويسترن من أنجح أنواع الأفلام أو genres، وذات شعبية هائلة وأرباح خيالية، ودائما ما كان يعول المنتجون والممثلون عليها، لتحقيق الأرباح وإنقاذ مسيرتهم الفنية، مرَّ عليها عدد من كبير من النجوم، وعظماء هوليوود من كل اتجاه.
أهمهم بالطبع هو جون واين، الذي رسمَ لنفسه صورة خاصة على الشاشة، بناها على مدى أعوام طويلة، قدَّمَ فيها مجموعة من أفضل أفلام تلك الفترة على الإطلاق، بداية بـ The Big Trail عام 1930، ثم شهرته بعد نجاح Stagecoach عام 1939، مرورًا بـ Red River عام 1948، و The Searchers عام 1956، و The Man Who Shot Liberty Valence عام 1962، و True Grit عام 1969، و The Cowboys عام 1972. ليُخلِّد اسمه كواحد من أعظم أعمدة هوليود على مر العصور، ووجه الويسترن الأشهر، وأحد أنجح نجومه، حيث جاء اسمه في قائمة أكثر الممثلين تحقيقًا للأرباح تقريبًا في كل عام، من 1949 حتى 1973.
ثم قاد النجم الأسطوري كلينت ايستوود ثورة السباجيتي ويسترن، في الستينات تحت توجيه المخرج الكبير سيرجيو ليوني، بثلاثية A Fistful of Dollars, For a Few Dollars More, The Good the Bad and the Ugly، التي أحدثت نقلة نوعية في أفلام الويسترن، وغيرت من صورة بطل جون واين الكلاسيكي، وأصبح بطلاً مضادًا أو antihero، لا يدافع بالضرورة عن الخير ويواجه الشر، لكن يسيِّر أموره طبقًا لمخططاته الخاصة وحالته المزاجية، ولا يشعر بمسؤولية اجتماعية أو دافع أخلاقي، ومع ذلك أحبه الجمهور وحقق نجاحا كبيرا.
واستمرت هوليوود في إنتاج أفلام الويسترن، بمقدار أقل تدريجيًا، ومع كل عقد فقدت أهميتها وقيمتها بين الفئات الآخرى، وحملت رسائل سياسية تمثل المرحلة المواكبة، وتحولت أسطورة الغرب الأمريكي من رجال شجعان إلى حقل من الدماء والعنف، حتى جاءت التسعينات، وأعلنت نهاية هذا العصر المميز، رغم بعض المحاولات من كيفن كوسنر، حيث نشط في التسعينات وبداية الألفية الجديدة، بأفلام Dances With Wolves, Open Range, Silverado, Wyatt Earp.، بغرض إعادة لأمجاد الويسترن القديمة، لكنه لم يجد ضالته في النهاية، وحاليا يقدّم مسلسل Yellowstone، بالتزامن مع موجة ال neo western الجديدة، النشطة حاليًا بأفلام مثل No Country For Old Men، Hell or High Water، Brokeback Mountain، Wind River.
أما مؤخرًا فشبه اختفت تلك الأفلام، وأخر الإنتاجات الجيدة ما هي إلا إعادة لأفلام قديمة، مثل 3:10 to Yuma (2007) وTrue Grit (2010) وThe Assassination of Jesse James (2007)، أو مثل أفلام كوينتن تارانتينو التي لا تعتبر ويسترن في ذاتها، وليست وفية للأفلام القديمة، وتنتمي لعالم تارانتينو الخاص، أو أفلام بقصص وأحداث صادف أن قامت في الغرب الأمريكي، ويمكن أن تقوم في أي زمن آخر، أو مجموعة من الأفلام المتوسطة والفاشلة.
السوق الصيني والربح المادي
يرى الكثيرون أن الصين في طريقها أو بالفعل تعدَّت أمريكا كأكبر سوق تجاري للأفلام في العالم، فمبيعات التذاكر في الصين تتعدى أي سوق آخر، وأصبحت مؤشر لنجاح الأفلام الأمريكية وتعتمد عليها هوليوود في مبيعات التذاكر، والصينيون على ما يبدو لا يحبون أفلام الويسترن.
ربما السبب الرئيسي هو أن الويسترن تعتبر فئة قومية خاصة بأمريكا، أو تعبر عن الهوية الأمريكية في مواجهة العالم وسياسة فرد العضلات، كما ترى أمريكا نفسها وصية على العالم وتكلِّف نفسها بالدفاع عنه، كما يفعل أبطال الويسترن في الأفلام، وتعرض حقبة مهمة بمثابة درس تاريخ خاص بأمريكا، مما يتعارض مع رؤية الصين عن منافسها، وكره استعراض القوة الأمريكي.
كذلك فَشِل عدد كبير من أفلام الويسترن في العقدين الأخيرين، أو لم يحققوا العوائد المطلوبة، منها أفلام Appaloosa (2008) وThe Salvation (2014) وانتاجات ضخمة مثل Jonah Hex (2010) وCowboys & Aliens (2011) و The Lone Ranger (2013) الذي يعد من أكبر كوارث صندوق التذاكر على الإطلاق، رغم اشتراك ممثلين كبار في تلك الأفلام، إلا أنها لم تلق قبول الجمهور.
مما ربط أفلام الويسترن بالفشل والمغامرة الكبيرة، ولم يعد المنتجون على استعداد للمخاطرة، في حين وجود نوعيات أخرى تنجح بالفعل، خاصة وأن أفلام الويسترن تكلف قدر ضخم من المال، فيجب بناء مدينة كاملة للتصوير، وتوفير ميزانية كبيرة من أجل الأزياء القديمة، فعلى سبيل المثال نفذت ميزانية فيلم 3:10 to Yuma أثناء بناء المدينة حيث تقوم الأحداث، واضطروا لتصوير الفيلم بما تم إنجازه واضافة الفكرة للفيلم!
العنصرية والصوابية السياسية
من أسباب اختفاء أفلام الويسترن على الساحة، كونها في الأصل لا تتوافق مع الأجندة السياسية في هوليوود حاليا، فمن ناحية تصور عصر تخجل أمريكا من جرائمها خلاله، والإبادة الجماعية للسكان الأصليين من الهنود الحمر، حيث يعتبر الصراع مع الهنود جزء أصيل من القصة، حتى لو من بعيد، وبالطبع يكونوا أعداء البطل وعليه مواجهتهم لحماية الحضارة، حيث الهنود عبارة عن قبائل بدائية عنيفة، تستهدف الأبرياء والعزل، بلا أي ذكر لحقوق الهنود أو معاناتهم.
والعنصرية الواضحة في معظم الأفلام الكلاسيكية تجاه اللاتينيين وأصحاب البشرة السمراء، الذين اكتسبوا حريتهم مؤخرا من العبودية، وحفرت تلك الأفلام صورتهم العامة في هذا العصر، كخدم أو عمال في إسطبل الخيول، ينظفون روث الحيوانات ويخضعون أمام الرجل الأبيض، كما كان الحال وقتها، كذلك سوء معاملة شعب المكسيك، واعتبارهم أقل قدرًا من الأمريكيين والأوروبيين.
كل ذلك يمثل حاجزًا وعقبة أمام أفلام الويسترن، فمن ناحية لا يمكن وضع stereotype بهذا الشكل في الأفلام حاليًا، كذلك محاولات هوليوود في تجميل وتعديل الماضي، دائما ما تجرده من الأصالة وتخرج الأعمال بشكل باهت أو مبتذل، مع غياب القدرة أو الرؤية الفنية اللازمة للموازنة بين الأمرين.
لكن الأهم حاليا تمكين المرأة وفرض ظهورها في كل الأفلام، مهما كانت نوعيتها أو مناسبتها لأدوار نسائية مهمة، حتى تم انتقاد مارتن سكورسيزي مؤخرا، بسبب غياب الدور النسائي الفعال في فيلمه الأخير The Irishman، بالرغم من أن عالم المافيا ليس مكانا غنيا بالقصص النسائية أو النساء بشكل عام، فما بالك بعالم الويسترن، حيث لا تلعب النساء أي دور على الإطلاق، وغالبًا دور جانبي لا يقارن برعاة البقر من حولها، وعدا استثناءات قليلة، ومحاولات فرضهم على هذا الواقع تفسده العمل بالكامل، مثل فيلم The Quick and the Dead (1995)، ولا يتقبلها الجمهور وغالبا ما تفشل مثل The Missing (2003)، أو(2014) The Homesman!
البطل الذي يطير
قديمًا كان جيمس ستيوارت أو جون واين أو جاري كوبر، يظهر على الشاشة أنيقًا بالقبعة الشهيرة، وملابس غريبة عفا عن تصميمها الزمن، لكنها ميّزت هذا البطل عن غيره، وخلقت له هالة من الاحترام والوقار تطوف حوله، يقضي الفيلم محققًا آمال وطموحات المشاهد، محاربًا الشر الذي يعجز الجمهور عن التصدي إليه، يمكن أن يكون أي أحد، فهو لا يحمل اسمًا مثل شخصية كلينت استوود، كي يشعر الجهور بالقرب منه وأنه يمثل فكرة لا شخص واحد، حتى جاء من إزاحه من عرش الحق والفضيلة، لا على حصان أو عربة، لكنه يطير ويسخر التكنولوجيا لخدمته.
بدأ ظهور الأبطال الخارقون من الثلاثينيات في القصص المصورة، وانتقلوا الى السينما والتليفزيون بعدها بشكل واسع، لكن في 1978 وصدور فيلم Superman ، بتكلفة خيالية بلغت 55 مليون دولار، وحقق نجاحًا هائلًا في كل مكان، حينها بدأ عصر الأبطال الخارقون عمليًا، وبالتدريج سيطروا على مخيلة الجمهور، وأصبحت صورتهم هي البطل المعروف والمحبوب بين الناس، ولم يعد هناك حاجة لأبطال الويسترن القدامى، فبين فضائي يمتلك قوى خارقة ومليونير يحارب الجريمة، وآخر يمشي على الحائط ويطلق الشباك من يديه، لا يمكن لرجل في منتصف العمر على حصان، ويطلق النار من مسدسه القديم منافسة ذلك!
اختلاف الأجيال
ربما أهم الأسباب على الإطلاق هو بعد الأجيال الحالية عن ثقافة الغرب الأمريكي، فقديما كان الأجداد أو بعض الآباء قد عاشوا بالفعل خلال تلك الحقبة الزمنية، وعاصروا أخبارها ومغامراتها وما نشر عنها في الصحف، أو وصلهم من أخبار عن كواليس إنشاء خط السكك الحديدية الذي يربط الولايات المتحدة ببعضها.
فقد امتد الغرب الأمريكي أو Wild West محل قيام أفلام الويسترن، خلال الفترة بين الحرب الأهلية الأمريكية في s1860 حتى 1890s، حتى اشتدت قبضة الحكومة وأحكم الجيش والشرطة السيطرة على أرجاء البلاد، وتم تجريم عمل صائدي الجوائز، فأغلب جمهور السينما حتى السبعينات مثلا، كان في اتصال مباشر مع تلك الثقافة، وبالطبع كانوا ينقلون حكاياتهم إلى الأبناء والأحفاد، الذين كانوا يستمعون باهتمام وانبهار لتلك الحكايات القريبة من الخيال، ويسارعون بمشاهدة الأفلام التي تنقل ذلك الخيال إلى الشاشة أمام أعينهم، وكانت بمثابة حلقة وصل بين الأجيال المتعاقبة.
لكن مع نهاية هذه الأجيال القديمة، واختفاء من كانوا على اتصال مباشر معها، وانشغال الأجيال الجديدة، وظهور خيال علمي ومؤثرات بصرية أكثر إبهارًا، اختفى ذكر عالم الويسترن بالتدريج، حتى أصبح أخيرًا مجرد ذكرى لعالم انقرض مواطنوه، وتغلب عليه الأسطورة وعفا عنه الزمن، ويلوح شبحه في الأفق على هيئة أفلام قديمة، يعرفها الناس بالاسم فقط.