هل تعلم مدى ما يغيّره أثر الفراشة في مجريات حياتنا؟

تخيّل شخصًا يقود سيّارته ويدخّن أثناء قيادتها، ومن ثمّ ألقى هذا الشخص بسيجارته من نافذة السيّارة

وماذا بعد؟

حسنًا. عندما ألقى ذلك الشخص سيجارته التي لم تكن قد انطفأت تمامًا؛ صادف أنّه كان مارًّا بالقرب من محطّة وقود، وبسبب الرياح وحركة السيّارات وصلت السيجارة إلى مكانٍ قريبٍ من آلة ضخّ الوقود.

صادف أيضًا أنّ آلة الوقود لم تشتعل! لكنّ التقطت ورقة نفاياتٍ صغيرةٍ كانت عالقةً بالقرب منها شيئًا بسيطًا من الشرار الناجم عن السيجارة؛ لتبدأ بالاشتعال تدريجيًّا وببطء، وخلال وقتٍ ليس بطويلٍ وبمساعدة الرياح اشتعلت الورقة بالكامل، وانتقلت شعلتها بفضل الرياح أيضًا إلى خرطوم الوقود الذي كان جزءٌ منه تالفًا والذي كان قد تركه أحد عمّال المحطة المهملين متدلّيًا على الأرض بينما يدردش مع سائقٍ كان قد فرغ من تعبئة سيّارته بالوقود، ولم يكن قد أغلق خزّان سيارته.

اشتعل الوقود المتسرّب من الجزء التالف في الخرطوم، وبالطبع كانت النتيجة أنّ انفجارًا هائلًا قد حدث في محطّة الوقود، وبالإضافة إلى الحريق الهائل الذي نجم عن الانفجار، والخسائر الماديّة الكبيرة، توفّي العامل وسائق السيارة بعد إصابتهما بحروقٍ بالغة.

السائق المتوفّى هو في واقع الأمر موظّفٌ ذو منصبٍ رفيعٍ في شركةٍ كبرى، وبعد الحادثة اضطرّت الشركة التي يعمل بها إلى تعيين شخصٍ آخر بديلاً عنه، لكن لسوء الحظّ لم يكن ذلك الشخص الذي تمّ تعيينه كُفئًا بهذا المنصب، وبالتالي سبّب للشركة العديد من المشكلات التي أدّت بسبب سوء إدارته إلى خسائر كبرى انتهت بانهيار الشركة بالكامل، ثمّ إلى انهيار شركاتٍ أخرى تابعةٍ لها، ومن ثمّ انهيارٍ في اقتصاد الدولة.

لم تقف الأمور عند هذا الحدّ؛ فبسبب انهيار الاقتصاد في الدولة نشأ عددٌ من النزاعات الداخليّة التي تبعتها معاداة الشعب للحكومة وما إلى ذلك، مما أدّى إلى قيام حربٍ كبرى في البلد، وتلك الحرب أثّرت على بلدانٍ مجاورةٍ لها، وسنكتفي عند هذا الحد.

نستنتج من القصّة التي تخيّلناها سابقًا، والتي قد يكون فيها قدرٌ من المُبالغة، أنّ للتدخين العديد من السلبيّات، وجميعنا يعلم ذلك، إلّا أنّ موضوعنا هنا هو ليس عن مخاطر التدخين، بل عن نظريّةٍ تسمّى نظريّة الفوضى أو أثر الفراشة (Butterfly Effect)، وهي من النظريّات الحديثة في علم الرياضيّات والفيزياء.

يُعدُّ مصطلح أثر الفراشة بمثابة استعارةٍ لفظيّةٍ تدلّ على أنّ أيّ تغييرٍ صغيرٍ في نظامٍ ما يمكنه أن يؤدّي إلى تغييرٍ جذريٍّ وكبيرٍ في المستقبل.

يُفسَّر مزاجيًّا بأنّ رفرفة الفراشة ستؤدّي إلى حدوث إعصار، أي أنّه مجرّد رفرفةٍ لفراشةٍ في بقعةٍ جغرافيةٍ معيّنةٍ سينجم عنه أثرٌ بعيد المدى كالإعصار في بقعٍ جغرافية أخرى، فقد يؤدي مثلًا إلى حدوث الكوارث والفيضانات في مناطق أخرى، وهو مجرّد تعبيرٍ مزاجيٍّ لوصف النظريّة فحسب.

وبناءً على ذلك لو أعدنا النظر في قصّتنا السابقة لوجدنا أنّ التغيير الصغير هو إلقاء شخصٍ ما لسيجارةٍ من سيّارته، وأما سلسلة النتائج التي وقعت من بعد ذلك كانت هي التغيير الكبير.

يقول الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته في واحدٍ من مؤلّفاته: “لا يمكنك إزالة حبّة رملٍ واحدةٍ من مكانها دون تغيير شيءٍ ما عبر جميع أجزاء الكلّ اللامحدود”.

قد يبدو الأمر مبالغًا فيه إلا أنّ أثر الفراشة يحدث تلقائيًّا في حياتنا اليومية دون إدراكٍ منّا: تغيّرات الطقس، الحروب، تقدّم بعض البلدان وتخلّف البعض الآخر منها، التطور التكنلوجي، وغيرها الكثير.

إنّ كلّ ذلك يبدأ من أسبابٍ صغيرةٍ جدًّا، قد لا ترتبط فيما ينجم عنها من فروقاتٍ هائلةٍ بأيّ شكلٍ من الأشكال.

مع ذلك فإنّ النظريّة تخضع للاحتمالات، وذلك يعني أنّه يمكن التحكّم في التغيّرات العظمى من خلال التحكّم بالأحداث الصغرى المسبّبة لها.

فمثلًا في القصّة السابقة؛ يوجد العديد من الأسباب المتتابعة التي انتهت بوقوع الكارثة الأخيرة، إذْ لا يمكننا اعتبار الشخص الذي رمى سيجارته بشكلٍ عشوائيٍّ سببًا رئيسًا بالكامل لتلك التغيّرات الكبرى، لكن سلوكه كان سببًا أوّوليًّا، فلو لم يرمِ سيجارته على الإطلاق لربّما ما كان ليُحدِث أيًّا من تلك النتائج الكارثية، ومع ذلك، فإنّ رميه السيجارة لم يكن وحده كافيًا، فالظروف الجويّة والفيزيائيّة في المكان وإهمال عامل الوقود والسائق الآخر، تلف خرطوم الوقود، وجود الورقة، وحتّى ما جرى بعد الحادثة الأولى مثل سوء كفاءة موظّف الشركة البديل وما إلى ذلك.

كلّ تلك الأسباب كان من الممكن ألّا تؤدي إلى التطوّرات الأخيرة لو أنّ واحدًا منها على الأقلّ لم يتحقّق أو لو أنها اتّخذت مساراً مختلفًا، وبذلك قد تؤدّي إلى تأثيرٍ كبيرٍ مختلف؛ فعلى سبيل المثال لو كان الموظّف البديل في الشركة ناجحًا، لربّما كانت الشركة ستزدهر وتنفع البلد وتصبح من الشركات الرائدة في العالم.

وتغيير المجريات الأوليّة لتحقيق نتائج أفضل هو ما يمكن أن تفيدنا به هذه النظريّة؛ حيث يتمّ تطبيقها في مجالات مثل الفيزياء الكمومية وعلم الفلك، وتُطَبَّق بشكلٍ كبيرٍ في دراسة تغيّرات الطقس والمناخ، إضافةً إلى دراسات علم النفس والاجتماع، وحتّى في السياسة.

تُعَدُّ الحرب العالميّة الأولى من الأمثلة الحيّة على هذه الظاهرة، والتي بدأت بسببٍ مباشرٍ وهو اغتيال رجلٍ واحد! وكان هو ولي عهد النمسا (فراند فيرديناند)، حينما خرج في جولةٍ في حزيران (١٩١٤) مع زوجته راكبًا سيّارةً مكشوفة، والذي كان في تلك الفترة مُهدّدًا بالاغتيال بسبب الأوضاع السياسيّة غير المستقرة، فحدث أن اُغتيل بواسطة أحد المترصّدين وعلى إثر ذلك اشتعلت الحرب العالميّة الأولى.

صحيحٌ أنّ هناك أسبابًا موضوعيّةً وظروفًا جيوسياسيةً لقيام تلك الحرب، إلّا أنّ قيامها كان بحاجةٍ لذلك الأثر الذي أحدثه التغيير الصغير وهو حادثة الاغتيال.

لم يتوقّف الأمر عند الحرب العامليّة الأولى كما نعلم، فقد تلتها الحرب العالميّة الثانية بعد ما يزيد عن عقدين من الزمن، ولاحقًا الحرب الباردة، وهلُمّ جرًّا.

ومازالت تأثيرات ونتائج الحروب العالميّة ساريةً حتّى هذه اللحظة، مثل التقدّم التكنولوجيّ والعلميّ الذي وصلنا إليه، وقدرتنا على الطيران والسفر إلى الفضاء، والشبكة المعلوماتيّة الهائلة التي بواسطتها نقرأ هذا الكلام، كلّ ذلك كان نتيجةً للتقنيّات التي ابتكرها المهندسون أثناء تلك الحروب.

ولا نعلم بعد إلى أين قد يقودنا النسيم الذي تنتجه رفرفة الفراشة، لذلك سيكون من الأفضل التفكير جيّدًا في أصغر القرارات التي نتّخذها في حياتنا، حتّى وإن كانت مجرّد قراراتٍ عفويّةٍ مثل رمي مخلّفات السجائر من السيارة.

قد يهمّك: هل أثر الفراشة حقيقة مؤكدة؟ الجواب قد يفاجئك!

المراجع:
https://www.mcall.com/news/mc-xpm-2003-03-28-3447824-story.html
http://archive.boston.com/bostonglobe/ideas/articles/2008/06/08/the_meaning_of_the_butterfly/?page=full