مشكلة الوعي وحدود العلم
ما الوعي؟ هل سيأتي اليوم الذي يصبح فيه العلم قادرًا على تفسير كلّ ما يتعلّق بالوعي؟ أم أنّ ذلك سيظل دومًا، خارج نطاق البحث العلميّ؟ هل المشكلة في الوعي نفسه، أم في القواعد التي يستخدمها العلم في تفسير الظواهر؟
تخيّل كونك حجرًا، عقليًا هذا من ضرب المستحيلات وهذا ليس لأن الحجر لا يحس ولا يفكر، ولكنه لأن الأحجار تفتقد شيئًا أساسيًا، لا يوجد عند الجمادات.
والآن، تخيّل كونك قطًّا أو بومة ولو أنّ هذا لن يكون سهلًا، لكن يمكنك تخيّل نفسك تعيش في نفس أماكن معيشتهم وتنظر للحياة من نفس وجهة نظرهم، الخاصيّة الفارقة هنا هي الوعي، أنت والقط والبومة تملكون وعيًا أمّا الحجر فلا.
لغز أزليّ:
ظلّ الوعي لغزًا منذ قديم الأزل، وربما تعود أولى محاولات الإنسان لكشف أسراره إلى عهد الحضارة اليونانية، حيث وضع أرسطو أساس ما نطلق عليه اليوم (مشكلة الجسد والعقل) هذه المشكلة تتمركز حول الحقيقة التي تقول أنّ الكون يتكوّن من شيئين: العقل والمادّة. وهكذا أصبح للعلماء والفلاسفة، أمام تحدٍّ دائم هو كيفية المزج بين هذين المظهرين للعالم.
ما العلاقة بين العقل والجسد:
كيف يمكن لشيء لامادّيّ، كالعقل، أن يتفاعل مع شيء ماديّ كالجسم، وماذا لو طلبنا من شخصٍ ما أن يشير إلى موضع الوعي في جسده؟
في العقود الأخيرة، بدأ العلماء في الإجابة عن سؤال “أين الوعي؟” بالإشارة إلى المخّ، وبالاستعانة بتقنيات تصوير المخ المتطوّرة، تطوّرت أبحاث الوعي كثيرًا في السنوات الحالية، وأنتجت ما يسمّى الارتباط العصبيّ للوعي، فعن طريق استخدام أجهزة الأشعة المقطعية الحديثة في تصوير المخّ، أصبح بإمكاننا رؤية الخوف والغضب والاسترخاء فيه، بل وتعدّى الأمر مجرّد رؤية تلك الحالات الواعية، فأصبح بالإمكان رؤية إشارات للوعي نفسه، تلك الإشارات تتكوّن من موجات مخية بمدى تردّد محدّد ونشاط عصبيّ متواصل، نشاط عصبي ينتج عن مؤثرات جديدة، كما يحدث حين نستمع لنغمة غير متوقّعة وسط سيل من النغمات المتشابهة.
وبالرغم من هذا التقدّم، يظلّ هناك تساؤل، لنفترض أنه في مرحلة ما في المستقبل، أصبح بإمكاننا تحديد ماهية الوعي وتمّ الكشف عن جميع ما يرتبط به، ولنفترض أنه أصبح باستطاعتنا أن ننظر لمسح تصويريّ لمخّ حيّ وأنه أصبح باستطاعتنا لا أن نقول أنّ هذا الشخص يحلم، بل أن نقول تحديدًا أنه يحلم بإضاءة الشموع الموجودة على كيكة عيد ميلاده الثاني عشر. وطبيعيّ في ضوء ما نشهده من تطوّر علميّ أن نقول أنّ الحصول على معرفة علمية بهذه الدقة هو مما يمكن تصوره في الوقت الحاضر، لكن يبقي التساؤل حاضرا المشكلة هل هذا يقربنا من معرفة ما هو الوعي، هل ربط كلّ حالة عقلية بنشاط في المخّ يخبرنا ما هو العقل.
اكتشاف مثير في مخّ فأر:
في فبراير العام الماضي، أشارت ورقة بحثية نشرت في مجلة نيتشر، إلى أنّه تم اكتشاف ثلاث خلايا عصبية تلتفّ حول مخّ فأر، وتتفرّع على نطاق واسع لتتيح تواصلًا هائلًا بين أجزاء المخّ المختلفة، وبناءً على هذا الاكتشاف قفز إلى الأذهان استنتاجُ أنه ربما تكون تلك الخلايا العصبية مسئولة عن الوعي. ورغم أهمية هذا الاكتشاف إلا أنه لا يعطي إجابة مرضية عن التساؤل الأساسيّ: ما الوعي.
ويبدو أنّ العلم الكامل بالعقل قد يخفق في الإجابة عن تساؤلٍ كهذا، فهناك شيء خارجيّ فيما يتعلق بالوعي، فربما ينشأ الوعي عن المخّ المادي ولكنه ليس مثله تمامًا، ورغم أنّ بعض الفلاسفة لا يتّفقون مع تلك المقولة، فإنه يبدو أنّ العِلم لم يصمَّم للإجابة على أسئلة من هذا النوع.
هل العِلم قاصر عن التعرّف على ماهية الوعي:
و يشير نعوم تشومسكي، عالم اللسانيات الشهير، إلى أنّ محدودية العلم في التعامل مع بعض الظواهر، هي خاصيّة في العلم وليست عيبًا يمكن تلافيه بالمزيد من البحث، أو كما يقال أنه بتطوّر العلم سيصبح قادرًا على تفسير كلّ ما يحيط بنا.
نيوتن ليس نيوتونيًا:
فعلى الرّغم من أنّ الكثير يشيرون إلى أنّ مؤسس العلم الحديث “إسحاق نيوتن” قد نظر إلى الكون على أنّه مجرّد آلة ضخمة، وبالتالي سوف نتمكن من فهمه تمامًا بمجرّد اكتشاف القوانين التي تحكم عمله، إلا أنّ تشومسكي يقول أنّ ذلك التصور معاكس تمامًا لرؤية نيوتن الحقيقية، وما تقول به الفلسفة الميكانيكية الحتمية اليوم تمّ قبوله من نيوتن على مضض، وهذه الفلسفة قد ارتبطت خطأً بنيوتن حين افترضت أنّ الكون يعمل بالاتصال المباشر، هذه الفلسفة التي تقوم على أنّ أيّ شيئين لابدّ لهما أوّلًا أن يتّصلا اتصالًا مباشرًا حتى يحدث بينهما تأثير متبادل؛ وبدلًا من ذلك، يقول تشومسكي أنّ هناك أدلة كثيرة على أنّ الارتباط لم يكن مطلوبًا لجعل الأقمار تدور حول الكواكب وإلى جعل التفاحة تسقط على الأرض- على سبيل المثال-
وبالتالي تمّ إدخال مفهوم القوة التي تؤثر من بُعد، وقد تعرّض نيوتن لسخرية زملائه لأنهم اعتقدوا خطأً أنّ نظريّته عن الجاذبيّة تعيدنا إلى غموض الحقبة ما قبل الميكانيكية، حيث سادت أفكار السيمياء والسّحر والشعوذة، وفكرة أنّ الكون يعمل بقوانين ميكانيكية كانت فكرة جذّابة لأنها كانت تعني وضوح الكون ونفي الغموض عنه، وتبدو فكرة الكون الآلي قريبة إلى ـفهامنا، لأنّ لدينا حدسًا مسبقًا بضرورة وجود الاتصال بين شيئين كشرط مسبق لحدوث تأثير متبادل، ومن هنا، جاءت أهمية دور نيوتن في اكتشاف أنّ هناك قوى غير مرئية تتحكم في المادة، وهو أمر رآه سخيفًا إلى حد ما، بالرغم من أنّ السخافة الحقيقية تكمن في شعوره بأنّه ارتكب جرمًا حين فكّر بذلك.
أما اليوم فإنّ مفهوم القوة تمّ تقبّله وإدماجه في العلم، بصرف النظر عن وجود معنى بديهيّ له، وهكذا تمّ تقنين المعايير العلمية للفهم. والآن عندما نمارس العلم فنحن لا نطمح إلى فهم العالم بل إلى فهم النظريات التي تفسّر العالم.
لقد ظلّ التمييز بين الجسد والعقل واحدًا من الأسس التي قام عليها العلم الحديث منذ 300 عام مضى، ويبدو أنّ العلماء اليوم مطالبون بإعادة النظر في هذا الأساس من أجل الاقتراب أكثر من عالَم العقل والوصول إلى مفهوم واضح للوعي، إذَن نحن في انتظار وعود العلم التي ربما تأتي بما لم يخطر على البال.