الله والشيطان في سفر أيوب

النموذج البدئي
“نعلمُ أنّ الشيطان ينظر إليه على أنه عدو الله وقريب الصلة للغاية بالطبيعة الإلهية في آنٍ واحد، لكن تاريخه ليس معروفاً بمثل العمق الذي يُعرف به تاريخ الله”.

في مقال “عصابٌ شيطانيّ من القرن السابع عشر” الذي ظهر لأول مرة في مجلة ايماغو عام 1923م، يقول فرويد: (الإله والشيطان كانا متماثلين في الهويّة منذ البداية، شخصية واحدة انشطرت في زمن لاحق إلى وجهين لكلّ منهما صفات متعارضة) ففي الأزمنة البدائية للدين كان يتّسم الله بجميع القسمات المخيفة التي عزيت في زمن لاحق إلى نقيضه. كان فرويد قد طرح من قبل فرضيته “الإله بديل الأب” أي صورة الأب التي كان يراها الإنسان في طفولته، أو النوع البشري في الأزمنة السالفة بوصفه أب العشيرة البدائية. لكنه يتقدم في تحليله ليصل إلى استنتاج أنّ الأب هو النموذج البدائيّ والفرديّ لله وللشيطان معًا.

 فالعلاقة مع الأب تشتمل على تيارين انفعاليين متناقضين، عاطفة الخضوع والحب، وعاطفة العداء والتحدي. وهو ما يسميه فرويد “عقدة الأب”  حيث يمتلأ الابن بدوافع الحب نحو الأب، وهو في نفس الوقت يبغضه لأنه كان يقف عقبة في سبيل إشباع رغباته. ذلك التناقض الوجدانيّ يعد ركيزة في البناء الفرويدي فقد بينت له الملاحظة الإكلينيكيّة وجود عمليات فسيولوجيّة متعارضة كمصاحبة الحب للكراهية في العلاقات الإنسانيّة. إذن فهذه التناقضات في طبيعة الله البدائيّة هي انعكاس للازدواجية التي تهيمن على علاقات الفرد بأبيه.

 ” فإن يكن الله الرحيم والعادل بديلاً للأب، فلمَ يأخذنا العجب إذا ما تجسّد الموقف النقيض -الحقد والكره والتمرد- في اختلاق الشيطان!”  بذلك يتحلل تمثل الأب المنطوي على تناقض وتنازع إلى ضدين صارخي التباين هما الله والشيطان.

سيكولوجية الإله اليهودي

في كتابه “Answer to Job” يحلل كارل يونغ نفسية الإله اليهودي بالاعتماد علي سفر أيوب. حيث تلتقي صورة الله عند يونغ بمحتوي خاص يكمن في اللا شعور ويمثل النموذج البدئيّ للمطلق، فهو الوحدة الكلية التي تجتمع فيها النقائض الداخلية لتكون الفكرة المثالية عن الكلية الشاملة. وتسعى الحاجة الدينية لتحقيق تلك الفكرة عن طريق العودة إلى الأسطورة الأزلية التي تمارس السلطة الأقوى على الإنسان.

في التوراة ثمة شواهد كثيرة على تناقض صورة “يهوه”، فهي صورة لإله لا يعرف الاعتدال في انفعالاته، ويسلم بأن الغضب والغيرة يأكلانه أكلًا، فقد جمع في نفسه الرحمة إلى الشدّة، والقدرة الخلّاقة إلى روح التخريب. فكان كلّ شيءٍ ممكنا، وما كان لصفة من صفاته أن تقف عقبة في وجه نقيضها.

يقول: ” إن الطريقة التي تعبّر بها الطبيعة الإلهية عن نفسها في التوراة تدل علي أن صفاتها الفردية ليست متصلة ببعضها “فالإله في خصام دائم مع نفسه، تصدر عنه أعمال متناقضة كخلق الإنسان ثم ندمه علي ذلك، وهو بمعرفته الكلية كان يجب أن يعلم بأن الإنسان سيصنع الشر. واستنادًا علي تلك الرؤية لصورة الإله “كوحدة كلية تعصف بها النقائض الداخلية في دينامية هائلة”، يقرر يونغ بأن الوعي لم يظهر عند يهوه إلا في فترة متأخرة، نتيجة لأحداث هامة أثرت في مجري الدراما الإلهية.

يري يونغ بأن أيوب لم يتورط في خصام شخصيّ مع الله لأنه لم يعترض على البلاء، بل استعان بوليه الحي وبالجانب الخير من يهوه. فظل يبرر موقفه ويستجدي حكمته وهو عالم بأن يهوه لن يبرئه. ويُعد ذلك تفوق أخلاقي حققه أيوب على يهوه بتحمله للبلاء، بل وتفوق عقلي لأنه علم كيف يخاطبه دون اعتراض على مشيئته.

سيرة الله

في كتابه “سيرة الله” يطور جاك مايلز نظرية كارل يونغ عن سيكولوجية الإله اليهودي، تطويرًا أدبيًا يسرد فيه قصة الإله كشخصية أدبية تتطور إمكانياتها خلال أسفار التنخ، شخصية تبدأ حياتها بفتوة الخلق وتنتهي إلى الصمت والغياب في مرحلة الكهولة. وسنرى في النهاية أن أيوب هو من أسكت الله بعد تحدي قوته الأخلاقية، فالله لن يتكلم مرة أخرى بعد ذلك، وإنما سيتزايد الكلام عليه “سبق لنا القول إن الإله، سواء بوصفه الله أو الرب، يحمل في داخله شيطانًا خفيًا، حية، وحش عماء، إلهة دمار تنينية” وكاتب سفر أيوب يجسد ذلك الصراع الداخلي بتقديمه للوعي الإلهيّ كضحية رهان شيطانيّ يضع استقامة الإنسان وسلامته الأخلاقية أمام قوة وسلطة الله.

يتأكد تفسير مايلز للسفر من خلال ترجمات حديثة وغير تقليدية لكلمات أيوب الأخيرة “لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد”. حيث يعتمد مايلز على ترجمة كلاً من إدوين غود في كتابه “In Turns of Tempest” وستيفن ميتشل الذي يقول: “إن معظم طبعات الكتاب المقدّس تقدم لنا أيوب الذي تقول كلماته الأخيرة إنه يندم في التراب والرماد. وهي تبني ذلك على أو هي أسس فقه اللغة، انطلاقًا من تفكيرها بأفكار مسيحية ومن توقعها أن تجد ندمًا وإذلالاً للنفس بوصفه الرد الملائم واللائق على الله العادل ذي الطابع الحاد الذي يتوقعون أن يجدوه”.

إعلان

يلصق مايلز قوة السخرية بكلمات أيوب، ويصور رده الأخير كرفض لصوت الإله الذي سمعه من العاصفة، ويؤكد على أن أيوب لم يُعِد النظر في عناده وتصلبه، فقد ظلت قناعاته على حالها دون تبدل، ولكنه قرر حفظ قضيته بعد أن زكى طريقه وبرر موقفه. فالتراب والرماد في الآية إشارة إلى الهشاشة والضعف الإنسانيّ، وهو المفعول به المشترك للفعلين المتعديين ( أنكر/ أندم ) بذلك يترجم كلمات أيوب الأخيرة:
“الآن بعد أن رأتك عيني
يهزني الأسي على الطين الفاني”
أي بعد رؤيتي لقوتك المهلكة وغياب عدالتك الرحيمة صرت أشفق على الإنسانية.

تصل المواجهة بين أيوب والصوت الصادر من العاصفة إلى الذروة. فأيوب رفض أن يتخلى عن موقفه المُتحدي والساخر، وستكون له عائلة جديدة، لكن تلك التي فقدها في رهان الله والشيطان لن تعود من بين الأموات “كذا براءة الله التي لن تعود أيضًا”.


مراجع:

أ- النموذج البدئي
[ سيجموند فرويد : إبليس في التحليل النفسي. ترجمة ( جورج طرابيشي )، دار الطليعة للطباعة والنشر 1982 ].

ب- سيكولوجية الإله اليهودي
[ كارل يونغ: الإله اليهودي: بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس. ترجمة ( نهاد خياطة )، دار الحوار للنشر والتوزيع 1995 ].

ج- سيرة الله [ جاك مايلز: سيرة الله. ترجمة ( ثائر ديب )، دار الحوار للنشر والتوزيع 1998 ].

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: معاذ محمد

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا