الوحدة قاتلة
ليس تعبيرًا مجازيًّا، فالعزلة الاجتماعية تقتل عددًا أكبر ممّا تفعل البدانة—إنّها وصمةُ عار.
انتقلتُ من نيويورك إلى بورتلاند (بولاية أوريغون) خلال فصل الشتاء، وكانت أسباب انتقالي منطقيّة تمامًا؛ فقد كانت نيويورك مدينةً مُجهِدةً وذات مستوى معيشي باهظ، في حين أن بورتلاند -كما فكرتُ- ستوفر لي الوقت والحيز لأداء عملي.
بمجرد وصولي، استأجرتُ منزلًا، ومضيتُ جَذِلًا للبحث عن “ناسي”. ذهبتُ إلى الحدائق، والمكتبات، والحانات، كما ذهبت إلى مواعيد غرامية، حتى أنّني جرّبتُ لعب الجولف. لم يكن الأمر أني لم أتعرَّف على أحد، فلقد تعرفتُ بالفعل، لكنّني لم أشعر بأي تواصلٍ بيني وبين أي أحدٍ منهم.
أنا الذي كنتُ ذات حين إنسانًا اجتماعيًّا ومتفائلًا، أمسيتُ كئيبًا ومذعورًا إلى حدٍّ ما. كنت أعرف أنني أحتاج إلى مخالطة الناس لأشعرَ بتحسُّنٍ، لكن كنتُ أشعر أنّني غير قادرٍ جسديًّا على بذل أي تفاعلاتٍ جوفاء. أصحو مذعورًا في الليل، بينما تجتاحني نوبات الوحدة كالحُمّى. لم تكن لدي أدنى فكرة عمّا يمكنني فعله لمعالجة ذلك.
مدفوعًا بما انتابني من اللا يقين، بدأتُ أبحث عن فكرة الوحدة، وعثرتُ على العديد من الدراسات الحديثة المُنذِرَة بالخطر. الوحدة لا تسلبنا عافيتنا وتطرحنا مرضى فحسب، بل إنها تقتلنا. الوحدة خطرٌ حقيقيٌّ على صحتنا. توصَّلَت دراساتٌ عن كبار السن والعزلة الاجتماعية إلى أن الأشخاص الذين ليس لديهم تفاعل اجتماعي كافٍ كانوا أكثر عرضةً بمرتين للموت قبل الأوان.
إن معدلات الوفيات المتزايدة بسبب الوحدة تضاهي معدلات الوفيات بسبب التدخين، كما تعدُّ الوحدة أخطر بمرتين من البدانة.
تُضعِفُ العزلةُ الاجتماعية وظيفةَ المناعة، وترفع خطر الإصابة بالالتهابات؛ ممّا يؤدي إلى التهاب المفاصل، ومرض السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب.
إن الوحدة تهشِّم قلوبنا، لكننا نادرًا ما نتحدث عن ذلك بسبب ثقافتنا.
كما أن الوحدة قد تضاعفت، ففي استبيانين حديثين صرّح 40% من البالغين أنهم كانوا وحيدين، بينما كانت النسبة 20% في ثمانينيات القرن الماضي.
كل تفاعلاتنا عبر الإنترنت لا تساعد، بل ربما تجعل وحدتنا أشد وطأة. أثبتت دراسةٌ حديثة أُجريَت على مستخدمي “الفيس بوك” أن المدةَ التي يقضيها الأشخاصُ على “الفيس بوك” تتناسب عكسيًّا مع كمّ السعادة التي يشعرون بها خلال اليوم.
في مجتمعٍ يحكم عليك بناءً على ما تبدو عليه شبكتك الاجتماعية من اتّساعٍ، من الصعب الاعتراف بالوحدة؛ فهي تمنحك إحساسًا بالعار.
قبل عقدٍ من الزمن، كانت أمي تمرُّ بتجربة طلاقٍ من زوجها، وإذ بها تهاتف قريبًا لها لم تحادثه منذ سنواتٍ عديدة، مدفوعةً بوحدتها ويأسها وحاجتها للتواصل، في حين كان قريبها يتساءلُ ساخرًا: “أليس لديك أي أصدقاء؟”.
في الوقت الذي كنتُ أتعامل فيه مع وحدتي في بورتلاند، كثيرًا ما كنت أتساءل: “لو أنني كنتُ شخصًا أفضل لما كنتُ وحيدًا”.
“الاعتراف بوحدتك يبدو وكأنّك تحمل وصمةَ فشلك على جبهتك” يقول جون ت. كاسيبو من جامعة شيكاغو، والذي قام بدراسةٍ عن كيفية تأثير الوحدة والعزلة الاجتماعية على صحة الناس. وقد اعترَفَ أنه ذات مرة على متن الطائرة كان عُرضةً للإحراج، بينما كان يحمل نسخةً من كتابِه، والذي كانت كلمة “وحدة” مزخرفة على غلافه الأماميّ، حيث انتابته رغبة بطيّ الغلاف كي لا يعود بوسع الناس رؤيته. يقول: “لقد كانت المرة الأولى التي أشعر فيها فعلًا بأنني وحيد، وأن الجميع يعرف ذلك”.
بعد انتشار خبر محاولة ستيفن فرايز الانتحار، كتب الممثل المحبوب منشورًا على مدونته يتحدث فيه عن حربه مع الاكتئاب، منوِّهًا بأن الوحدة كانت محنته الأولى.
“وحيد؟ أتلقى بطاقات الدعوة عبر البريد يوميًّا. سوف أتواجد في الرويال بوكس في بطولة ويمبلدون، ولدي دعوات جادة وسخية من أصدقاء يطلبون مني أن أنضم إليهم في جنوب فرنسا، وإيطاليا، وصقيلية، وجنوب أفريقية، وبريتش كولومبيا، وأمريكا هذا الصيف. ولديّ شهران للبدء بكتابي قبل أن أمضي إلى برودواي لبدء العمل على مسرحية “الليلة الثانية عشر” هناك.
يمكن أن أعيد قراءة العبارة الأخيرة وأفكّر، ثنائي القطب أم لا؟ إذا لم أكن أخضع للعلاج، ولم أكن فعلًا مكتئبًا، فبأي حقٍّ علي أن أكون وحيدًا، تعيسًا، وبائسًا؟ لا حقّ لي في ذلك. لكن مجدّدًا، ليس لدي الحق في عدم الإحساس بكلِّ هذه المشاعر. المشاعر ليست شيئًا نملك أو لا نملك الحق للإحساس بها. في النهاية، إن الوحدة هي أكثر مشاكلي تناقضًا وسوءًا.”
أغلبنا يعرف معنى أن تكون وحيدًا في غرفةٍ مكتظّةٍ بالأشخاص، وهذا ذاته السبب الذي قد يجعل شخصًا مشهورًا يعاني من وحدةٍ متجذّرة. قد تكون محاطًا بمئات المتابعين المحبين، لكن إن لم يكن هناك شخص واحد يمكن الاعتماد عليه، إن لم يكن هناك شخص يعرفك حقًّا، فسوف تشعر بأنك معزول.
من ناحية التفاعلات الإنسانية، فإن عدد الأشخاص الذين نعرفهم لا يعد أفضل مقياس؛ فلكي نشعر بالرضا الاجتماعي، لا نحتاج إلى كل أولئك الأشخاص. بحسب كاسيبو ، فإن العلَّة تكمن بنوعية أولئك الأشخاص، لا عددهم.
فكل ما نحتاجه هو أحد يمكننا الاتّكاء على وجوده، ويمكنه الاتكاء علينا في المقابل.
في ثقافتنا، نحن نسعى باستمرارٍ لإيجاد استراتيجيات تحدُّ من البدانة، نقدم بدائل للناس لنساعدهم على الإقلاع عن التدخين، لكنّني لم أقابل في حياتي طبيبًا واحدًا يسألني عن مدى التفاعلات الاجتماعية الحقيقية التي أحظى بها. حتى وإن حدث وسألني طبيب، فذلك لا يعني أن هناك وصفة طبية للتفاعلات الاجتماعية المعبِّرة.
إن كلًا من الدنمارك وبريطانيا يكرسان وقتًا وطاقةً أكبر لإيجاد حلول وإطلاق أفكار للتدخل ومساعدة الأشخاص الذين يعانون من الوحدة، كبار السن على وجه الخصوص.
عندما نكون وحيدين، فإننا نفقد السيطرة، وننخرط فيما يسميه العلماء “التهرب الاجتماعي”.
نصير أقل اهتمامًا بالتفاعل، بينما نكرّس جل اهتمامنا على “الحفاظ على الذات”، كما جرى معي، إذ كنتُ غير قادر حتى على تخيُّل محاولة التحدث إلى شخص آخر. يفترض علماء النفس التطوريون أن الوحدة تحفز فطرتنا للقتال مقابل انهزام آليات البقاء، وننزوي بعيدًا عن الناس الذين لا نعرفهم، بغضّ النظر عمّا إذا كان بإمكاننا الوثوق بهم أم لا.
قام كاسيبو خلال إحدى دراساته بقياس نشاط الدماغ أثناء النوم لدى الأشخاص الوحيدين وغير الوحيدين، ووجد أنّ أولئك الذين يعانون من الوحدة كانوا أكثر عرضة للاستيقاظ الجزئي، والذي يعني أن الدماغ في حالة تأهُّبٍ لاحتمالية الخطر خلال الليل، ربما كما كان ينبغي على الإنسان القديم أن يكون عندما ينفصل عن قبيلته.
أحد أسباب إحجامنا عن مناقشة الوحدة هو أنه من الجلي أن محاولة معالجتها ليست أمرًا سهلًا.
على الرغم من أن الإنترنت ساهم في خلق عزلتنا، إلا أنه قد يمتلك مفتاح الحل. يُظهِر كاسيبو حماسًا للإحصائيات التي تشير إلى أن الأشخاص الذين تواعدوا عن طريق الإنترنت يستمرّون معًا، ويتشاركون تواصلًا أكبر، كما أنهم أقل عرضة للانفصال من الأشخاص الذين تعارفوا في الواقع. إذا استمرت هذه الإحصائيات، فإنها قد تبرهن على أنّه من الممكن أيضًا أن توجَد الصداقات بهذه الطريقة، لتخفِّفَ عن أولئك الذين تبقيهم غرائزهم على الحافة، وتعيدهم إلى العالم بحدودٍ مشتركة خُلِقت افتراضيًّا عبر الإنترنت.
وماذا عنّي؟ لقد عدتُ إلى نيويورك.
ترجمة: سماح العيسى
رابط المقال الأصلي: