السحر جزء من العالم الحديث قراءة في كتاب السحر لأوين ديفيز
يعرضُ لنا المخرج وودي آلن في (السحرفي ضوء القمر) قصة الساحر ستانلي الذي نال شهرة واسعة من خلال عروضه السحريّة في مختلف المدن والبلاد، تدور أحداث الفيلم في القرن العشرين ويزعم الساحر ستانلي أنَّ السحر ما هو إلّا حيلٌ بارعةٌ وخفةُ يدٍ لا أكثر، أما العالم الماورائي والأديان وما فيها من كائنات خفية لا وجود لها بالأصل.
كلُّ ما يؤمن به ستانلي هو التفكير المنطقي المادي فتراه سليل عائلةٍ باركلي وهيوم، يرى غير ما يحسه ضربًا من الخرافة والزيف، إلى أن يتعرَّف الساحر على محضِّرة الأرواح التي استطاعت كشف ماضيه وتفاصيل لا يمكن لأحد أن يعرفها، وبالفعل يبدأ يؤمن بقدراتها الحقيقية وعن استحالة كذبها فيما تصنعه، عند ذلك يحس بالحياة، وينعم بالتفاصيل الجميلة، حتى يكتشف في النهاية زيف ادعاءات الفتاة الروحانية واحتيالها في تحضير الأرواح وغير ذلك مما تقدمه.
في هذا الموقف تحديدًا يتساءل المُشاهد هل بالفعل السحر ما هو إلا وهم؟ وأننا في عصر العلم وانحسار الدين والسحر والخرافة؟ وهل نستطيع السعادة وسبيلها في عالمٍ بسيطٍ يخلو من كل ما هو غيبي وغريب؟
في كتاب (السحر- مقدمة قصيرة جدًا) يقدِّم أوين ديفيز جملة من هذه التساؤلات والموضوعات حول السحر والدين والشعوذة ومكانة السحر في القديم والعصر الحديث، ويسير بنا من الشرق حتى أمريكا الشمالية.
-أوين ديفيز وسحر الطفولة.
يعد الكاتب أوين ديفيز من أهم الكتَّاب المعاصرين في مجال الأبحاث الدائرة حول تاريخ السحر والسحر الحديث، وقد بدأ اهتمامه بهذا المجال منذ أن كان طفلاً نشأ على قراءة كتب آلان غارنر، وكان يشدُّه الاهتمام بالفلكور والأساطير، كما أنّه درس علم الآثار وخاصة تلك المتعلِّقة بالممارسات الطقسية في العصر الحجري والعصر البرونزي، وقد عمل ديفيز على أطروحة لنيل درجة الدكتوراه تبحث في مدى استمرار وتراجع الاعتقاد بالسحر.
-وصف-فورمولوجيا الكتاب.
في كتابه (السحر- مقدمة قصيرة جدًا) عمل ديفيز على دراسة السحر في أفقٍ أنثربولوجي مقدِّمًا المحاولات التي دأبت على تعريف السحر وماهيته وإن كان حقيقةً أم مجرّد وهم، والكتاب على مئةٍ وخمسةٍ وثلاثين صفحة تنقسم إلى ستةَ فصولٍ قصيرةٍ ويزيد عليها بالمقدمة والأفكار الختامية، وهو صادر عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ونُقِل إلى العربية عبر رحاب صلاح الدين وراجعته هبة نجيب مغربي.
-تعريف السحر أمرٌ يثير الجنون.
على مدى ألفين وخمسمئة عام حلَّ نزاع وجدل ونقاش طويل حول ماهية السحر؛ فكثيرة هي محاولات الفلاسفة وعلماء الأنثربولوجيا والتاريخ والأديان لتقديم تعريف أساسي له، لذلك يَعرِض الكثيرون ممن يدرسون ممارسة السحر عن مثل هذه المقدمات، مفترضين أنّ القراء على دراية بأنَّ السحر يدور حول تحكُّم البشر بقوى خارقة للطبيعة.
يقول ديفيز أنه منذ عصر التنوير يُنظر إلى السحر على أنه أمارة على البدائية ومراحل مبكرة من التطور البشري الغارقة في الظلام والجهل، إلا إنه ورغم ذلك لا يزال ثمة كثيرون في عصرنا الحديث ممن يلجؤون إلى السحر ويخشونه أيضًا، فالسحر يُقدِّم تفسيرات وحلولاً لمن يعيشون في فقرٍ مدقع ويفتقرون للبدائل الأخرى، وتحت ستار الوثنية أصبح السحر ديانة في حد ذاته، ويستنكر المتدينون السحر بوصفه تهديدًا حقيقيًا للأخلاق، هذا ما يجعل من السحر قضية عالمية بحق.
وفي تعريف كلمة السحر يذكر ديفيز أنها مستمدة من الكلمة اليونانية “ماجيا” التي أول ما استخدمت كانت تشير إلى المراسم والطقوس التي يؤديها “الماجو” والجمع “ماجوي” وهم كهنة المجوس، وتصف المصادر هؤلاء الكهنة بأنهم يقدِّمون قرابين من البشر والحيوانات، ويسيطرون على أرواح الموتى، ويشفون المرضى، ووفقًا لما ذكره مؤرِّخ القرن الخامس قبل الميلاد هيرودوت بأن هؤلاء الكهنة كانوا يشرفون على طقوس الإراقة، ويغنون التعاويذ والترانيم للآلهة.
وعلى مدار قرون تلت ذلك خضعت كلمة السحر للتنقيح، وقد ظهرت فئات جديدة عندما بدأ رجال الدين من المسلمين والمسيحيين واليهود لفهم جوانب مختلفة من السحر فهمًا أفضل بدلاً من رفضها، فالسحر لم يكن نوعًا واحدًا من الممارسات، وإنما صنوف متعددة فظهر ما يسمى بمصطلح السحر الطبيعي في العصور الوسطى باعتباره وسيلة للتمييز بين السحر الجيد والسيء، أو الشرعي وغير الشرعي.
-السحر بوصفه اتهامًا.
يبين ديفيز أنّه وعبر القرون اتهمت جماعات دينية آخرين بالسحر معللًا بأن ذلك كان وسيلة لتعريف الذات ولتعزيز الشرعية السياسية والثقافية، وضرب على ذلك أمثلة في سياقات متعددة؛ فالمسيحية الأولى كانت تمارس التناول، وطرد الأرواح الشريرة، والتكلُّم بالألسنة، والصلوات الليلة، وقد عدَّت السلطات الرومانية هذه الممارسات ضربًا من السحر، مما ساعد على اتهام المسيحيين باعتبارهم دخلاء على المجتمع الروماني ومعادون للمجتمع والعادات الرومانية. وبالمقابل عمل المسيحيون الأوائل على تطوير مفردات تفيد بأن السحر ينطبق على ديانات روما، التي صوَّروها بأنها منحلَّة وفاسدة.
وفي كتاب “تاريخ السحر” لجبرايل نودي قام بتبرئة شخصيات تاريخية اتُّهِمُوا زورًا بممارسة السحر مثل زرادشت، وسقراط، وفيثاغورس، وقد طالت هؤلاء الشبهات بسبب انخراطهم في السياسة وتعلُّم العلوم الجديدة مثل الرياضيات، وبسبب الحقد والهرطقة والمنافسة والجهل وسرعة التصديق من قبل الفقراء، وافتقار الحصافة وحسن التمييز عند الكتّاب.
-السحر أنثربولوجيًا.
ركزت الدراسات في القرن التاسع عشر على المكانة التاريخية للدين في تطور المجتمع، واحدة من أهم الدراسات في رسم نسق جديد لفهم التجربة كان ما قدَّمه هيجل والذي اعتُبر أنَّ السحر هو أقدم أشكال الدين وأكثرها بدائية، وكان ماركس متفقًا مع هيجل في أنَّ أقدم أشكال الدين ارتبطت بعبادة الطبيعة أو ما أُطلِق عليه لاحقًا بالمذهب الإحيائي، والذي يعد منبعًا يضرب فيه السحر جذوره.
وبعد نشر داروين كتابه “أصل الأنواع” احتلَّ السحر مكانة أكثر أهمية، ودخل العلم باعتباره نموذج التطور البشري، ولم يصبح فهم السحر أكثر وضوحًا بل أكثر تعقيدًا وتشوشًا.
قد قدم هربرت سبنسر نموذجًا تطوريًا اعتبر فيه السحر نموذجًا بدائيًا للدين يقوم على العلاقات المتجانسة وعبادة الأسلاف، وذهب منافسه إدوارد تايلور إلى أن السحر كان موجودًا في بادئ الأمر باعتباره تعبيرًا عن فكرة الإحيائية، التي ترى أن للأشياء جوهرًا روحانيًا، وكان الفكر الإحيائي والسحر سمة للشعوب التي تحتل مكانة دنيا في مقياس الإنسانية، ثم تطور الدين كفئة مستقلَّة من مفهوم الروح البشرية ثم كان التطور من الشرك إلى التوحيد.
وقد أطلق تايلور على السحر مفهوم “العلم الزائف“، وكان يعني بأن السحر على غرار العلم يُفسر العلاقة السببية بين الأشياء ويقوم باستغلالها، وهو علم فاسد لأن افتراضاته وتفسيراته البدائية حول السبب والنتيجة خاطئة دومًا، ووجه هجومًا على السحر ووصفه بأنه “توليفة وحشية” وأحد أخبث الأوهام التي حيَّرت الجنس البشري، وشبه الثقافات البدائية بالأطفال لأنها تحتاج مثلهم إلى توجيه لترتقي بفكرها.
واستلهم جيمس فريزر من نظرية تايلور، ووضع في مرجعه الكلاسيكي المؤلَّف من ثلاثة عشر مجلدًا “الغصن الذهبي” نموذجًا واضحًا من ثلاث مراحل لتطور الفكر الإنساني: من السحر إلى الدين إلى العلم، وجميع المجتمعات تُحقق التقدُّم في هذه المراحل الثلاث، وبين السحر والعلم يعتبر فريزر أن السحر أخت غير شرعية للعلم، قائم على قانونين مغلوطين: أولهما قانون العدوى، أي أن الأشياء التي كانت باتِّصال مع بعضها تبقى تربطها علاقة حتى لو باعدت بينها المسافات، وأما القانون الثاني فهو قانون التشابه، القائل بأن النتائج تشبه مسبباتها، وما ثبت يومًا بأن السحر صحيح وفعَّال فهو ليس سحرًا إذًا إنما هو العلم.
وكان من السهل على النُّقاد تقويض نظريات تايلور وفريز، ففي مقالٍ عن السحر والدين سفّه أندرو لانج رؤية فريزر القائلة بأن الدين تطور من فشل السحر، وقد فعل ذلك عن طريق هدم تفسير فريزر للتقارير الإثنوغرافية، والذي افترض غياب الدين بين سكان أستراليا الأصليين.
أما دوركايم فقد ذهب بأن الدين والسحر تربطهما طقوس ومعتقدات متشابهة، إلا أنه فرق بينهما باعتبار الوظيفة الاجتماعية لكل منهما، فالدين يتسم بالاندماج الاجتماعي وتشارك القيم والخبرات، في حين أن السحر يهتم بالمعاملات بين الأفراد، وذهب ابن أخته مارسيل موس إلى أن الدافع الديني تطور قبل السحر، فقد كان الدين أحد أشكال التعبير عن المجتمع، ثم نشأ السحر لما قرر الأفراد اتخاذ الطقوس والمفاهيم المرتبطة بالقدسية وملائمتها مع أنفسهم.
وذهب فيلهلم شميدت إلى أن أكثر أشكال الدين بدائية كان في حقيقته توحيديًا، وبذلك فقد قلب نظرية سبنسر وتايلور، وقال بأن العبادة الأولى لإله أعلى والتي لا تزال ظاهرة بين سلالة الأقزام “البيجمي” في الكونغو قد تدهور إلى السحر والشرك الإحيائي.
-هل السحر محض وهم؟
تحدَّث ابن خلدون عن سحر الحواية أو الشعوذة واصفًا كونه تأثير على قوى المخيلة، فيعمل الساحر في وسط الجمهور على ممارسة أنواع من الخيالات والصور ثم يُنزلها منزلة الإدراك الحسي، ولا وجود لما ينتجونه في العالم الظاهر، وفي القرن العاشر قدَّم الباقلاني مثالاً على خدعة ملء كيس حريري بالزئبق لحمل الناس على الظن بأن ما فيه حية تسعى. وقد بين الرازي نوعًا من السحر يقال له “الأخذ بالعيون” وهو مبني على خفة اليد والشعوذة والسعي في إراء ما لا وجود له في الخارج.
وقديمًا في الإغريق شكَّك إبيقور في السحر وجعل الآلهة بعيدين عن حياة البشر، حتى أنَّ الصلوات الإبتهالية لا تفلح في جلب انتباه الآلهة، وكانت له نظرة بأن على الإنسان أن لا يصدق إلا ما تراه العين أو ما يمكن أن نستدل عليه، كما خرج باستنتاجات بأن العالم تحكمه ذرات متصادمة لا أرواح، وما من إلهام إلهي يوجِّه عالم البشر.
وفي القرن السادس عشر تمخضت عن حركة الإصلاح الديني ومحاكمة الساحرات عن قلق إزاء عقلانية الإيمان بالسحر، امتدت هذه النقاشات كما يُعرب ديفيز إلى القول بأن عصر المعجزات انتهى منذ زمن، وقد زادت التفسيرات لمسببات كان يُعتقد بأنها سحر، وتصدَّر النقاش مجالان رئيسان: السحر بوصفه وهمًا وخدعة، والسحر بوصفه حالة نفسية.
-الطب النفسي قديمًا والتشكيك بالسحر.
في الطب النفسي ظهر المفكر الفرنسي الكاثوليكي مونتين (1533-1592) وقد بين أن القصص حول الأعمال السحرية والتي اعترفت بها الساحرات المتهمات بارتكاب السحر لم تكن سوى نتاج الخيال، وقد قدّم الطبيب الهولندي يوهان فاير نقاشات مطولة في كتابه “عن السحر” وذهب إلى أن الخدع التي تمارسها الساحرات ما هي إلا هلاوس وتخيلات. كان يعتقد فاير بأن بعض من حالات الهذيان ناجمة عن نباتات سامة ومخدِّرة، فنبات الشوكران مثلاً كان يعطيهم إحساسًا بالتحليق عاليًا، وقد يكون الناس الذين اعتقدوا أنهم مصابون بالسحر قد تناولوا على شاكلة هذه النباتات، كما حدَّد فاير وغيره بأن الحالة النفسية المعروفة بالكآبة سبب رئيسي للإيمان بالسحر، وتضمن كتاب فاير فصلاً عن “الخيال المريض للمصابين بالكآبة؟”.
وفي القرن التاسع عشر عزَّز مجال الطب النفسي من قوة الربط بين النساء والاضطراب العقلي والسحر، وقد حلل الطبيب جان مارتن شاركوا مع زملائه في مستشفى للأمراض العقلية للسيدات في باريس الروايات التي روتها السيدات المدانات بالسحر في المحكمة، فاكتشفوا أوجه تشابه واضحة بين ما وصفنَّه والأعراض الهستيرية التي تعاني منها السيدات.
وقد وجه ديفيز ملاحظة حول المحاولات المبكرة للطب النفسي وتحليله للسحر بأن أطباء القرن التاسع عشر النفسيون أخذوا يستخلصون النتائج من تجارب عصبية فردية ليصوغوا منها نظريات عن الأمراض المجتمعية التي تحدث وليدة الدين والجهل، لقد قدموا أفكارًا جريئة كما يقول ديفيز لكنها لم تكن واقعية.
-الساحرات:
كتب مونتين بعد زيارته لمجموعة من النساء العجائز المدانات بتهمة السحر:
“في نهاية الأمر -وبكل الصدق -ما كنت لأصف لهم نبات الشوكران السام، وإنما زهرة الخربق” وهو يقصد بذلك أن هؤلاء الساحرات يستحققن العلاج لا الموت، يستشهد مونتين بقول المؤرخ الروماني تيتوس ليفي بأن حالتهم أقرب إلى الجنون منه إلى الإجرام.
وفي القرن السابع عشر تسببت محاكمة الساحرات استياء كل من النبيل ريجنالد سكوت والأديب توماس آدي، وكان سكوت يرفض قطعًا إمكانية وجود السحر الشيطاني والاتصال بالأرواح وتقديم المعجزات، وأراد كل من الرجلين إثبات أن العديد من المظاهر المنسوبة للسحر يسهل تقليدها ببعض الأدوات وخفة اليد، وأخذ سكوت تحديدًا بتعلُّم هذه المهنة، بحيث يؤديها كما يفعل السحرة المتجولون، إلا أنه شعر لاحقًا بالندم بسبب كشف ألاعيبهم واعتراض سبيل رزقهم، وازدرا مجموعة المحتالين الرئيسة قاصدًا بذلك رجال الدين الكاثوليكيين، وقد كان الكتاب البروتستنتيون يروق لهم توضيح كيفية الحيل التي يمارسها رجال الكهنوت لحمل الناس على تصديق ما يفعلونه، كطرد الأرواح الشريرة، أو جعلهم يتخيلون أنهم في حضرة أرواح الموتى، كي يدعموا الأيمان بمفهوم التطهر والذي يدر على الكنيسة المال الوفير.
وقد قام آدي بكشف الخدع التي نسبها الشهود للساحرات في المحاكمات، وقد كتب آدي هذه الأعمال بعد بضع سنوات من اشتعال مطاردة الساحرات في شرق إنجلترا والتي حرض عليها الجنرال ماثيو هوبكنز “صائد الساحرات” فقد ظهرت مزاعم بأن للساحرات عفاريت شيطانية صغيرة.
-الكاميرا السحرية:
كانت ردود الأفعال في قرى إنجلترا خلال القرن التاسع عشر اتجاه الكاميرا والكهرباء تسفر عن قوى سحرية لهذه التجارب الجديدة، فعملية التقاط صورة لشخص في مقاطعة سومرست تعني بأن الشخص قد خطف بما يعني أنه طلب أو سحر، وأن عواقب ذلك تتمثل في سوء الحظ والموت المبكر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر قدم المستكشفون والمبشرون الأوروبيون كاميراتهم على أنها أجهزة سحرية، ليؤكدوا تفوقهم، أو ليستطيعوا من خلال ذلك الوصول لثقافة السكان الأصليين، فالرحالة الأسكتلندي جوزيف طومسون انتحل شخصية “مجانجا” أو معالج في شرق أفريقيا، كان قد أخبر أبناء قبيلة ماساي بأن الصور التي يلتقطها لمحاربيهم من شأنها أن تزيدهم بسالة في المعركة على نحوٍ سحري، وفي غرب كينيا في خمسينيات القرن العشرين، ابتكر الأطباء السحرة طقوسًا لاستنزال اللعنات تتضمن أن تنزف صورة الضحية عند قطعها كدليلٍ على نجاح اللعنة، ولهذا كان الكثيرون يعارضون التقاط صور لهم، لكن واحدة من الجماعات المسيحية الأصولية تصدت لذلك من خلال القول بأن التقاط صورة مع الكتاب المقدس يبطل أي مفعول لعمل سحري.
-السحر والعالم الحديث، هل زال الوهم عن العالم؟
في عام ألف وتسعمئة وسبعة عشر ألقى ماكس فيبر محاضرة صك فيها مصطلح “زوال السحر عن العالم” عبَّر فيه عن الانتقال إلى الحداثة من خلال تخليص الدين من السحر، وكان يعتقد بأن السحر فنًا عقيمًا يعد البشر بالسيطرة على العالم الطبيعي الذي تحكمه الأرواح.
ويمكن هنا الاستشهاد بملاحظة المفكِّر العربي محمد سبيلا الذي قال بأن ما تدل عليه مقولة فيبر تفيد بنزع الفتنة عن العالم أو النظرة السحرية والميثولوجية التي تجعل العالم مأهولاً بالكائنات والقوى التي تؤنس الإنسان وتعطي معنى لحياته، في حين أن النظرة العلمية تفرغه وتجعله هيكلاً تتجاذبه القوى الفيزيائية والكيميائية، وهنا لنا أن نتذكر ستانلي الذي بدأنا الحديث عنه بمطلع المقال.
وحري بنا القول بأن الحداثة لم تعد مرادفة للعقلانية كما يذهب ديفيز، فلقد تقبل أناس من المثقفين السحر بكونه تحديًا للحتمية العلمية والمعتقدات الدينية التقليدية، وعلى مدار العقدين الماضيين وجدنا ارتداد الشعراء وكتاب المقالات والفنانون الرومانسيون إلى الماضي الوثني الكلاسيكي والحياة الرعوية، هربًا من مجتمعات التصنيع واجتياح الماكينات والتمدُّن والتلوث.
وبعد إرسال أول رسالة تلغرافية جعل هذا الإنجاز العلمي فكرة التواصل مع عالم الأرواح معقولاً أكثر من ذي قبل لمن يحملون خلفيات دينية وعلمية على حد سواء، فمثلاً كروميل فاري (1828-1883) وهو الخبير البريطاني في مجال هندسة الإلكترونيات، والذي لعب دورًا كبيرًا في اختراع نظام التلغراف العابر للأطلسي، صار يؤمن بجهاز تلغرافي مغناطيسي للروح، ولم يتوصل إلى ذلك من خلال إيمان أعمى، بل عبر تجارب علمية كما يقول ديفيز، حتى على الرغم من افتضاح الكثير من الوسطاء الروحانيين واعتبارهم محتالين، فقد نجح القليل منهم من إثارة حيرة الوسط العلمي.
يقول ديفيز بأن العلم أمكن له تفسير السحر، لكن لا يمكن له أن يُقلل من أهميته، فالسحر بمعناه الواسع يشكل جزءًا من الحالة الإنسانية، والاعتقاد باختفاء السحر لا يعدو كونه أمنية؛ فالسحر ليس مجرد ممارسات مهيبة، بل لا بد لنا من فهم السحر على أنه لغة ونظرية واعتقاد وفعل وتعبير وتجربة معرفية.