فيلسوف الكوميديا
لم يكن وصول النجم العالمي تشارلي تشابلن، وتمتعه بشعبية جارفة في جميع أنحاء العالم، إلا نتيجة لقدرته الفذة على إسعاد الملايين وإضحاكهم، وكسب تعاطفهم لشخصية الصعلوك المظلوم دائمًا، على الرغم من طيبته ونقاء قلبه. وقد كان للسينما العربية، والمصرية على وجه التحديد، على عراقتها، بطل كوميدي فذ نجح نجاحًا باهرًا في إضحاك أهله ومحبيه، متمثلًا في فيلسوف الكوميديا العربية، نجيب الريحاني (1889-1949).
تلقى نجيب الريحاني تعليمه الأولي بمدرسة “الفرير” الفرنسية، حيث تعرف على المئات من المسرحيات الفرنسية وعشقها، فقام بتعريب وتمصير بعضها لتقدم على خشبة المسرح المدرسي. وعشق الريحاني الفن المسرحي بكافة أنواعه، من تراجيديا، واستعراضات غنائية وراقصة، قبل أن يحترف فن الكوميديا، الذي سطع نجمه في آدائها، وتميز به عن أقرانه جميعًا من أمثال استيفان روستي، وحسن فايق، وعلى الكسار، وغيرهم الكثير من الرعيل الأول.
والواقع أن السينما المصرية قد زخرت في الأجيال التالية بالعديد من أفذاذ الكوميديا، فتفوقت أفلام الزعيم عادل إمام، ليكون خير خلف لإسماعيل ياسين، الذي أمتعنا بمغامراته في الجيش والبحرية والطيران والبوليس، والعديد من الأدوار التي طالما أضحكت المشاهد العربي على مدى عقود من الزمان. إلا أن الرائد الأول لهذا الفن يظل بلا منازع فيلسوف الكوميديا نجيب الريحاني.
تأرجحت حظوظ الممثل الكبير ما بين نجاح ساحق وفشل ذريع وإفلاس شبه تام، وعمل الريحاني مع رواد المسرح العربي الحديث من أمثال جورج أبيض، كما نافس يوسف بك وهبي، عميد المسرح العربي، والذي تخصص مسرحه في تقديم الأعمال الكلاسيكية والتراجيدية والميلودراما، فساهما معًا في خلق جمهور مستنير للمسرح، يضحكه الأول ويبكيه الثاني. وتعاون الريحاني أيضًا مع أهم رائد ومجدد للموسيقى الشرقية، فنان الشعب سيد درويش، فقدما معًا أوبريت “العشرة الطيبة“.
ومن أهم أسباب نجاح كوميديا الريحاني، تعاونه المثمر مع صديقه ورفيق دربه الفني بديع خيري، فقد نجح هذان العبقريان في خلق لون مصري مميز، حازا به على إعجاب الجماهير في مصر والعالم العربي، بحيث تُشْتم من خلاله – كما يقول الريحاني في مذكراته: “رائحة الطعمية والملوخية“، ويرى فيه المشاهد انعكاسًا لحياته الاجتماعية، ويتمكن المواطن المصري البسيط، المظلوم دائمًا وأبدًا، من خلاله قبول تحدي الأقدار والسخرية من المستبدين، من ناظر المدرسة إلى رئيس العمل إلى الاستعمار الأجنبي.
ولعل من أنجح الشخصيات التي قدمها الريحاني، على خشبة المسرح، ونالت إعجابًا وتعاطفًا غير مسبوق النظير، كانت شخصية كشكش بك، عمدة كفر بلاص، التي استقاها الريحاني من فترة عمله بالبنك الزراعي، قابل خلالها العشرات من تلك الشخصيات التي تمتاز بالذكاء والسذاجة في آن واحد، وخاصةً حين يحل كشكش بك بالمدينة زائرًا، ليكون صيدًا سهلًا للحسناوات العاملات بالملاهي الليلية، فيعود مفلسًا إلى جذوره الطيبة بالريف، تائبًا عن نزقه وإسرافه، راجيًا أن يغفر الله له نزواته، وأن يتقبله أهله البسطاء الطيبون بريف مصر مواطنًا صالحًا.
وقد وظّف الريحاني وخيري الكثير من التعبيرات الشعبية الساخرة، كما استغلا النكات الشعبية السائرة وعملا على تطويرها، مما أضفى على الحوار في مسرحياتهما وأفلامهما خاصية محلية، استخدمها باقتدار كل أبطال الكوميديا المصرية من فؤاد المهندس إلى عادل إمام، وتبدو واضحة جلية في عناوين الكثير من مسرحيات الريحاني الناجحة، مثل “حَمَار وحلاوة”، و”على كيفك”، و”إش”، و”فشر”، و”ولو”، إلخ.
اللقطة الأخيرة:
ثم شهد عام 1948 ميلاد فيلم من أعظم أفلام الكوميديا الموسيقية في تاريخ الشاشة المصرية، وقد تضافرت عدة عوامل، لعل أهمها الصدفة البحتة، في ظهور هذا العمل.
فقد التقى نجم الكوميديا الأول آنذاك، نجيب الريحاني، بالسيدة ليلى مراد، أجمل صوت تغنى على الشاشة المصرية، عند باب مصعد عمارة “الموبيليا” الشهيرة بالقاهرة، حيث كانا يقيمان كجيران. وبادر نجم الكوميديا ليلى مراد متسائلًا، أما آن لنا أن نتعاون سينمائيًا في فيلم أختتم به حياتي الفنية؟ وكانت حياة نجيب الريحاني الفنية على شاشة السينما غنية بأفلام حققت نجاحًا كبيرًا لدى الجماهير المصرية، والجماهير العربية عامةً، ومنها “أبو حلموس”، و”أحمر شفايف”، و”سي عمر”، و”سلامة في خير”، و”ياقوت” وغيرها.
وتحمس أنور وجدي لفكرة التعاون بينه وبين ملك الكوميديا، فأهداه النص الأول لفيلم “غزل البنات” (1949)، الذي قام نجيب الريحاني بمراجعته وتعديله بمعاونة بديع خيري، ولم يكتف أنور وجدي بكتابة سيناريو الفيلم وإخراجه، بل وقد قام باستضافة الفنان الكبير يوسف بك وهبي، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ليكوّن كوكبة من أعظم فناني مصر حينذاك، من بينهم نجيب بك سليمان، ومحمود المليجي، وعبد الوارث عسر، واستيفان روستي، وغيرهم.
وعلى الرغم من بساطة الحبكة الدرامية التي تتناول قصة حب بين مدرس لغة عربية مغمور، وفتاة أرستقراطية مدللة تحتاج درسًا خاصًا للنجاح في مادة اللغة العربية، التي كانت قد رسبت بها، فيقع المدرس المسكين في الحبائل التي نصبتها له تلك العابثة التي تصغره بسنوات، دون أي إحساس بالمسئولية من جانبها.
إلا أن صوت ليلى مراد الشجي، وأداء الريحاني للصعلوك مدرسًا، يرسخ لكلاسيكية الفيلم في ذاكرة السينما الموسيقية، بدءًا بأغنية “اتمخطري واتمايلي يا خيل”، مرورًا بالأغنية الفكاهية “أستاذ حمام نحن الزغاليل“، التي تغنت بها أجيال من رواد السينما، وانتهاءً بالدويتو الفكاهي “عيني بترف“، الذي تقاسمته مع نجيب الريحاني، فكان سابقة لهذا اللون يتغنى بمثله فريد الأطرش مع شادية، وعبد الحليم حافظ مع كل من صباح وشادية، في أفلامهم السينمائية.
ويختتم أنور وجدي فيلمه الفريد بأغنية محمد عبد الوهاب الرائعة “عاشق الروح“، والتي تتناول تيمة الفيلم الأساسية، ومؤداها أن المحب الحقيقي هو من يتنازل عن رغبة المحب في امتلاك حبيبته والتضحية بمشاعره النبيلة مقابل أن يضمن سعادتها في المستقبل.
واستعان الموسيقار محمد عبد الوهاب بفرقة موسيقية كاملة، قام بقيادتها، مدخلًا عليها آلة البانجو التي عزفها بنفسه، والتي لم تكن قد ظهرت في فيلم مصري من قبل، يتبعها نشيج آلات الماندولين، تصاحبها الوتريات كخلفية لأدائه المتميز. وبدخول آلات النفخ، تكتسب أغنية عبد الوهاب أبعادًا سيمفونية، سرعان ما تفطن لها أنور وجدي بتوظيفها في المشهد الأخير، الذي ضم الضاحك الباكي الريحاني، وليلى مراد التي تتعلق به كما لو كانت تدرك أن الفراق بينهما أصبح وشيكًا، وأنور وجدي، الفتى المحب الذي تمناه الريحاني زوجًا مناسبًا للمرأة الوحيدة التي أحبها في حياته. ومست الأغنية شغاف قلب نجيب الريحاني، فانهمرت دموعه تمثيليًا وواقعيًا، وذلك قبيل وفاته على غرة، وقبل الانتهاء من تصوير ما تبقى من مشاهد الفيلم.
وقد اضطر هنا العبقري أنور وجدي، مخرج الفيلم، أن يغير من نهايته المكتوبة بالسيناريو، فبدلًا من أن يتوسط نجيب الريحاني، بصفته مدرسًا لليلى، عند والدها الباشا، طالبًا يد ابنته للطيار الوسيم أنور وجدي، ينتهي الفيلم نهاية مفتوحة بكدر ضم الأبطال الثلاثة داخل السيارة، ثم تركز الكاميرا على تقاطيع وجه الريحاني باسمًا دامعًا، معبرةً عن رضائه بحياة فنية أسعدت –ولا تزال تسعد– الملايين من محبي فنه الراقي، فخلدت تلك اللقطة لحظة وداع فيلسوف الكوميديا لجماهيره.