محمود المليجي: شرير الشاشة

يروي الفنان العالمي عمر الشريف عن مشهد تمثيلي مؤثر، شهده شخصيا، ليمسي مثالاً حيًا لقمة الأداء التمثيلي لكل زمان ومكان.
كانت اللقطة أمام كازينو النيل، ويعبر فيها عملاق التمثيل العربي في مصر عن وجهة نظر فلسفية في الحياة، بوصفها تكرارا لليقظة والنوم، مكررا العبارة بضعة مرات قبل أن يخمد رأسه على الطاولة الممتدة أمامه.
عبّر الحاضرون عن الاندهاش والإعجاب بذلك الأداء المتفرد قبل أن يتيقنوا من أن تلك كانت آخر لقطة يؤديها الفنان القدير محمود المليجي.

وهب المليجي حياته للفن، وامتاز أداؤه بصدق في التعبير، اكتسبه الفنان من معايشة الروح المصرية وفهمها فهما عميقا، لا عن طريق دراسة متعمقة أو اطلاع فقط. ولعل ذلك هو السبب الأول في حب الملايين لقدراته الخاصة، التي جعلت منه مرآةً صادقة للفلاح، والمحامي، والطبيب، بل والشرير المصري، بكل ما له وما عليه. والواقع أن ذلك الحب الصادق، وبكل أسف، تجاوز إمكانيات مخرجي ومنتجي وكاتبي السيناريو للسينما المصرية فيما يربو على نصف القرن.

انصب اهتمام السينما على قصص الحب الساذجة، حيث يمتاز البطل بالوسامة والنبل والشجاعة، وتكون فيه البطلة بريئة حسناء، ذات جمال خارق، بغض النظر عن قدراتها كممثلة، أو تمكنها من أبسط قواعد حرفة التمثيل. وعادة ما يتضمن الفيلم مشهدا أو أكثر بنادٍ ليلي، يتخلله رقصة شرقية أو أغنية شبابية، وياحبذا لو انتهى المشهد بمعركة صاخبة. كان المليجي، بالطبع، غزير الانتاج، إلا أنه ضاق ذرعا بمحاولة المخرجين لقولبته وتعليبه في دور الشرير المحكوم عليه مقدما بالهزيمة والاندحار أمام البطل الوسيم، ودون أي تبرير منطقي للكيفية التي أصبح بها الشرير شريرا، والبطل النبيل نبيلا. إلا أن محمود المليجي فشل بكل أسف في الإفلات من ذلك النمط التقليدي بتأسيسه لشركة إنتاج سينمائي، لم يكتب لها النجاح.

تم ترشيح محمود المليجي لبطولة فيلم “العزيمة” الذي قُدِّر له أن يكون أعظم أفلام السينما الواقعية، ويحوز إعجاب النقاد العالميين والمحليين سواءً بسواء. إلا أن غيابه خارج أرض الوطن، حال دون قيامه بالدور الذي رشح له. والتاريخ الفني، مثله مثل التاريخ العام، لا يعترف أبدا بكلمة “لو”.

ولد المليجي عام 1910 في حيّ المغربلين، وهو حي شعبي ترك انطباعا عاطفيا وفكريا لازمه طوال العمر. وأعجب الطفل بشخصية “عزيزة الفحلة”، شبه الأسطورية، التي امتازت بشجاعة هائلة، وقدرة على القتال، واستخدام النبوت، فكان الطفل يتتبعها من معركة إلى معركة، وموقعة اشتباك إلى أخرى. ولم تكن الفحلة بلطجية بأي حال من الأحوال، بل كانت رمزا للعدل والدفاع عن المظلوم، تماما مثل عاشور الناجي، فتوة نجيب محفوظ الشهير، أحد أبطال “الحرافيش”.

إعلان

وبانتقال عائلة المليجي من حي المغربلين إلى حي الحلمية القديمة، القريب من درب الجماميز، ارتبط محمود المليجي بصداقة بائع فلافل شهم، كان يحرص يوميا على إمداد زبائنه من الفقراء بوجبة إفطار شهية، تفوق قيمتها الكثير مما يدفعونه له. ومن العجيب أن الفنان محمود المليجي كان آخر من طلب بائع الفول البسيط رؤيته قبل أن توافيه المنية.

أحب المليجي التمثيل بعشق وإخلاص، منذ كان طالبا بالمدرسة الثانوية، والتحق بفرقة الفنانة الكبيرة فاطمة رشدي، زوجة الفنان بديع خيري آنذاك. وكان طريق الفن في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين محفوفا بالمخاطر، إذ لم يكن يوما مصدرا مستقرا للدخل، بل كان يرتبط بالمواسم المسرحية المختلفة، وما كان ليزيد عن بضعة جنيهات للدور الواحد، وخاصة في حالة المليجي الذي لم يكن يشترط القيام بأدوار البطولة، بل اكتفى بالأدوار المركبة التي كان يجيدها.

وقد يمكننا الآن، وبعد استعراض العشرات من الأعمال السينمائية والمسرحية والإذاعية التي أسهم فيها ذلك الفنان المتميز، بأن نُرجع أسباب تألقه إلى أربعة أسباب رئيسة، أولها أن الله قد أمده بموهبة فذة، وقابلية لرصد الشخصية وتجسيد انفعالاتها عن طريق الحركة والإيماءة، وعضلات الوجه، بل ونظرة العين التي اشتهر بها، ونبرات صوته المتميزة والمعبرة.

أما السبب الثاني، فهو أن الشاب العاشق للمسرح قد تتلمذ على يد أعظم ممثلي عصره، من أمثال جورج أبيض، ويوسف وهبي، وفاطمة رشدي، وغيرهم من أبطال التراجيديا، وعمل مع وتعلم من أبطال الكوميديا من أمثال نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين.

ثالثا، أدى الممثل الكبير خلال عشرات السنوات مختلف الأدوار لكبار كتاب المسرح، من أمثال شكسبير وأيبسن وأحمد شوقي وتوفيق الحكيم. أما رابعا وأخيرا، فقد تجاوزت موهبة الممثل الكبير إمكانيات السينما المعاصرة، التي فشلت في استثمار قدرات ممثلين كبار من أمثال عبد الوارث عسر، وصلاح منصور، وعبد الله غيث، وسناء جميل وغيرهم. بل وفشلت في التعرف على إمكانيات المخرج العالمي شادي عبد السلام الذي لم ينجح إلا عن طريق الصبر والمثابرة في إخراج تحفته الملحمية “المومياء”.

ولعل الاستثناء الوحيد في حالة محمود المليجي تتمثل في يوسف شاهين، المخرج المبدع الذي قام بتشخيص “قناوي”، ذلك المجرم العاشق المجنون في فيلم “باب الحديد”. وأسند شاهين لمحمود المليجي أدوارًا متميزة في أفلام “الاختيار”، و”عودة الابن الضال”، وتحفته عن سيرته الذاتية “إسكندرية ليه”، حيث قام بدور والد يحيى، المحامي الملتزم الذي كُتِب عليه الدفاع عن قضايا خاسرة في مجتمع فاسد، ولا ننسى بالطبع دوره المتميز في “العصفور”، حيث جسد شخصية كهل يجتر الذكريات ويتجرع الشراب، محتفيا بماضٍ عمل خلاله بمعسكرات الإنجليز قبل الثورة، واستفاقته لحظة إعلان الزعيم جمال عبد الناصر عن تنحيه عن الحكم بعد هزيمة 1967 التي حركت مشاعر شعب بأكمله.

أصر شاهين على اختيار المليجي بطلا لأعظم أفلامه “الأرض”، عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي. فيجسد المليجي شخصية محمد أبو سويلم، الفلاح البسيط الذي يرتبط عضويا بأرضه، ويتصدى لقوى الاستبداد الغاشمة بصلابة بطل أسطوري، تمتزج دماؤه بطمي أرضه أثناء سحله في نهاية الفيلم من خلال أعظم مشهد في تاريخ السينما المصرية، والذي رفض محمود المليجي الاستعانة ببديل خلال تصويره، مجسدا عظمة المصري لحظة استشهاده، وموسيقى على إسماعيل تصدح في الخلفية، ويتغنى الكورال “الأرض لو عطشانا / نرويها بدمانا”.

رحم الله شرير الشاشة، الذي ما كان شريرا في يوم من الأيام، بل كان أهم رمز للعطاء والكرم والروح الوطنية المصرية التي ليس لها مثيل في العالم.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا