إدوارد سعيد: تمثيل المثقف

إدوارد سعيد هو ممثل جيد للمثقف،فعندما نجح البارون جون ريث John Reith (1889-1971) في أن يجعل من هيئة الإذاعة البريطانية BBC منارة ثقافية متميزة حظيت بمصداقية عالمية، ودرجة عالية من الاستقلالية الفكرية، لا تضاهيها أي مؤسسة إعلامية شرقًا أو غربًا. وقد عملت إدارة الإذاعة البريطانية على الاحتفاء بإنجاز رائدها السابق منذ عام 1948 ببرنامج محاضرات سنوي لأهم مفكري العالم من أمثال الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، والمؤرخ جون توينبي، وآخرين.

ولعل المعيار الوحيد لاختيار المحاضر كان يعتمد أولًا على إسهاماته الفعالة ونظرته الأصيلة ومساهمته في خلق وعي عالمي إنساني، ودون أدنى اعتبار للجنس أو العرق أو العقيدة الدينية، فكان أول محاضر، على سبيل المثال، برتراند راسل الذي طالما أثار اعتراضات وهجوم ممن يمثلون اليمين الرجعي في إنجلترا ذاتها؛ وذلك لإيمانه بالاشتراكية من جهة، ومناهضته للحرب، وموقفه الأخلاقي في فضح الحرب الأمريكية في فييتنام والكشف عن جرائمها من جهة أخرى.

لم يكن غريبًا، إذًا، أن تستضيف إدارة هيئة الإذاعة البريطانية الناقد والمفكر العالمي إدوارد سعيد، وهو الكاتب المثير للجدل، بمراجعه النقدية في الاستشراق، والثقافة والإمبريالية، من ناحية، ونضاله الذي لا يكل ولا يمل لعقود في الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني والمطالبة باسترداد بعض حقوقه المسلوبة منذ عام 1948.

تم نشر محاضرات سعيد تحت عنوان “تمثيل المثقف” Representations of the Intellectual (1994)، والتي قام بترجمتها إلى العربية أستاذ الأدب الإنجليزي د. محمد عناني، أعظم من ترجم شيكسبير إلى العربية في القرن العشرين، وأول من قدم إدوارد سعيد إلى قراء العربية.

وإدوارد سعيد، كما هو معلوم، من مواليد القدس عام 1935، لأب وأم فلسطينيين، قبل أن تنتقل أسرته إلى مصر، بعد ضياع فلسطين خلال نكبة 1948. ثم انتقل سعيد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أتم دراسته الثانوية، والتحق بجامعتي برينستون وهارفرد لإتمام درجة الدكتوراة التي أهلته للالتحاق بهيئة تدريس جامعة كولومبيا، حيث نال شهرة عالمية كناقد أدبي، وصوت متميز في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بتكذيب مزاعم وسرديات الفكر الصهيوني اليهودي المهيمن على الثقافة الأمريكية بصفة عامة، وفي نيويورك خاصة -العاصمة اليهودية لأمريكا.

إعلان

رحب سعيد بدعوة هيئة الإذاعة البريطانية، ومنبرها الذي لا يماثله آخر في الولايات المتحدة، وتتيح له –ولأول مرة– مخاطبة غير المتخصصين في النقد الأدبي أو الفكر السياسي، والذي تجتاز أعدادهم عدة ملايين من جماهيره من القراء في أمريكا وحول العالم.

انتهى سعيد خلال شهر واحد من كتابة المحاضرات الستة التي تحولت فيما بعد إلى كتاب، تناول فيه سعيد موضوعًا طالما شغله كمفكر، ألا وهو إشكالية دور المثقف، والدور المنوط به أخلاقيًا، والعوائق التي قد تعترض سبيله في العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

يعلق أ.د. عناني على اختيار سعيد لكلمة representations، بسياقاتها التاريخية والفكرية والسياسية المختلفة، التي قصد إليها إدوارد سعيد في تلك المحاضرات، والتي شملتها جميعًا، وأعطتها تكثيفًا وزخمًا من خلال مجموعة المحاضرات أو الكتاب ككل.

امتازت كل كتابات سعيد بقراءاته اللصيقة للأعمال الأدبية، وخاصة الروائية منها، وقد اختار لهذه الدراسة مثالًا حيًا لشخصية المثقف في رواية الكاتب الروسي الشهير إيفان ترجنيف Ivan Turgenev “آباء وأبناء” (1862)، منجلية في شخصية يفجيني بازاروف، ذلك المفكر الثائر الذي يجابه تقاليد وأفكار عتيقة بجسارة وشجاعة أدبية، إلى أن يتوفى.

أما المثال الآخر، فكان من رواية جيمس جويس الشهيرة “صورة الفنان شابًا” The Portrait of the Artist as a Young Man (1916)، التي يظهر فيها ستيفن، الكاتب المبتدئ، الأيرلندي الهوية، في مجابهته الفردية والثورية للهيمنة الإنجليزية المتحكمة في أرض بلاده.

ويستعين سعيد أيضا بثلاث تعريفات للمثقف والدور المنوط به من ثلاثة مفكرين، تمثل أعمال كل منهم أساساً فكرياً ملتزماً، وعنصراً حاكماً في جميع أعمال إدوارد سعيد. ولنبدأ بتعريف ريموند ويليامز (1921-1988)، الذي جاء بمرجعه الأم “كلمات مفتاحية” Keywords (1976)، حيث يتفق سعيد وويليامز على أن الدور الحيوي الذي يلعبه المثقف، سواء كفيلسوف مثل سارتر، أو سياسي مثل دبراي، أو ثائر مناضل مثل فانون، أو ناقد أدبي مثل ويليامز ذاته، من خلال إطار فكري شامل، قادر على المساهمة سياسيًا واجتماعيًا وحضاريًا في أهم القضايا والتحديات التي تعن لمجتمعه خاصة، بل وللعالم المعاصر بصفة عامة.

أما المفكر الثاني الذي استعان به سعيد فكان أنطونيو جرامشي (1891-1937)، الذي يفرق في تعريفه بين المثقف التقليدي الذي يدافع عن السلطة ويبرر مواقفها، وذلك المثقف العضوي الذي يتحدى السلطة الحاكمة، وينتصر للأقليات والمحرومين والمهمشين، بالتزام أخلاقي، مهما كلفه ذلك. ومن المفارقات أن جرامشي قام بصياغة هذا التعريف خلال تواجده بالسجن (1929-1935) في ظل نظام موسوليني الفاشي، لمعتقداته ودفاعه الحثيث عن الطبقات الدنيا والمهمشين.

أما المفكر الثالث، فهو الكاتب الفرنسي جوليان بيندا Julian Benda (1867-1956) في كتابه “خيانة المثقفين” The Treason of the Intellectuals (1928)، الذي يدين فيه الكاتب ذلك المثقف الذي يبيع ولائه للسلطة الحاكمة، متخليًا –عن وعي– عن كل القيم الإنسانية، ويستحق بجدارة لقب الخائن.

ولعل الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر (1905-1980) يعد بالنسبة لسعيد خير مثال على ذلك المثقف الملتزم، الذي لا يتورع عن انتقاد سياسة حكومة دولته الكولونيالية الإمبريالية البشعة، الرامية إلى السيطرة على مقدرات الجزائر، وقمع ثورتها، بأقذر الوسائل وأكثرها وحشية من قتل وتنكيل، أودت بحياة مليون شهيد.

وكان سارتر، كما هو معلوم، أول من ابتدع الوجودية كمذهب فلسفي، يؤمن بحرية الإنسان الفرد، وبقدرة الإرادة الإنسانية على التسامي عن الظروف المادية المحيطة بالاختيار الحر. ومعلوم أيضا أن الفيلسوف العظيم رفض بشجاعة أدبية نادرة تسلم جائزة نوبل في ظل مؤسسات عالمية تهيمن على عالم مليء بالظلم والاستبداد والنفاق.

يدرك سعيد تمامًا كافة المعوقات والصعوبات التي تجابه المثقف اليوم. ففي ظل الأنظمة الشمولية، مثلًا، يُنظر إلى المثقف بعين الريبة، باعتباره عدو مستتر، ولا يُرى في انتقاداته للنظام الحاكم سوى مشكك أو خائن. أما الغرب الديمقراطي، فيسعى جاهدًا لشراء المثقف وتجميده، فتجتذب المؤسسات الإعلامية والدعائية، وبيوت الخبرة، الكثير من “المثقفين”، لتبرير أهدافها والدفاع عن مصالحها.

وطريق المثقف، إذًا، من وجهة نظر سعيد، طريق وعر، تجتذبه المغريات من جهة، وتتهدده المخاطر من جهة أخرى، إلا أن واجبه، ومن وحي ضميره فقط، يحتم عليه أن يكون ناقدًا دائمًا وأبدًا، وصوتًا متميزًا وحيدًا لمن لا صوت له. ولنا في إدوارد سعيد خير مثال يجسد ذلك المفهوم للمثقف الذي طالما سعى لتحقيقه كمفكر وناقد.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا