مفارقة كمومية جديدة يجدها الفيزيائيون تلقي بالشك على أعمدة الواقع
إذا سقطت شجرة في غابةٍ ما، ولم يكن في مكان سقوطها أحد، فهل تصدر هذه الشجرة صوتًا؟ ربما لا، بعضهم يقول. وإذا كان هناك شخص ما ليسمع صوتها؟ في حال اعتقدت أنه من الواضح أنها تصدر صوتًا؛ فربما عليك مراجعة هذا الرأي. فقد وجدنا مفارقة جديدة في ميكانيكا الكم -واحدة من أكثر نظريتين علميتين أساسيتين اليوم، بجانب نظرية النسبية لأينشتاين– تلقي الشك على بعض الأفكار المنطقية حول الواقع الفيزيائي.
ميكانيكا الكم ضد المنطق العام
ألقِ نظرةً على الجمل الثلاثة التالية:
1- عندما يلاحظ شخصٌ حدثًا ما، فإن هذا الحدث يكون قد حدث حقًا.
2- من الممكن أن نصنع قراراتٍ حرة، أو على الأقل، خيارات عشوائية إحصائية.
3- القرار المتّخذ في مكانٍ ما لا يمكنه أن يؤثر على حدث بعيد فورًا (يطلق الفيزيائيون على هذا “الموضعية”).
هذه مجرد أفكار بديهية، وهي معتَنقة بشكل واسع حتى من قبل الفيزيائيين أنفسهم، لكن بحثنا المنشور في مجلة Nature Physics يثبت أن هذه العبارات الثلاثة لا يمكن أن تكون صحيحة كلها، وإلا فإن ميكانيك الكم نفسه يجب أن ينهار عند مستوى معين. هذه أمتن نتيجة حتى الآن ضمن سلسلة طويلة من الاكتشافات في ميكانيك الكم استطاعت أن تقلب أفكارنا بشأن الواقع رأسًا على عقب. ولنفهم سبب أهمية هذه الاكتشافات، دعونا ننظر إلى هذا التاريخ.
المعركة لأجل الحقيقة
يعمل ميكانيكا الكم بصورة جيدة جدًا لوصف سلوك الأشياء الصغيرة كالذرات أو جسيمات الضوء (الفوتونات)، لكن هذا السلوك غريب جدًا، ففي العديد من الحالات لا تعطي نظرية الكم إجابات محددة على أسئلة من قبيل “أين يقع هذا الجسيم الآن؟” بدلًا من ذلك، تقدم احتمالات للمكان الذي قد يوجد فيه الجسيم عندما يرصد.
بالنسبة لنيلز بور -وهو أحد مؤسسي النظرية منذ قرن مضى- فإن ذلك لا يحدث بسبب نقص معلوماتنا، بل لأن الخصائص الفيزيائية “كالموضع مثلًا” لا توجد فعلًا حتى يتم رصدها. وبسبب أن بعض خصائص الجسيمات لا يمكن رصدها بشكل مثالي ومتواقت “كالموضع والسرعة”، فإنها لا يمكن أن تكون حقيقية بنفس الوقت.
وجدت شخصية مرموقة أخرى أن هذه الفكرة لا يمكن الدفاع عنها، هذه الشخصية هي ألبرت آينشتاين. ففي مقالٍ نشره عام 1935 مع زميليه الفيزيائيين النظريين بوريس بودولسكي وناثان روزين، جادل بأنه يجب أن يكون هناك واقع مادي أكبر مما يصفه ميكانيك الكم. تناول المقال زوجًا من الجسيمات المتباعدة الواقعة في حالة خاصة تعرف الآن باسم الحالة “المتشابكة”. عندما تقاس نفس الخاصية (مثلًا الموضع أو السرعة) لدى الجسيمين المتشابكين ستكون النتيجة عشوائية، ولكن سيكون هناك ارتباط بين نتائج الجسيمين.
على سبيل المثال، إذا قاس راصدٌ موضع الجسيم الأول فيمكنه أن يتنبأ بنتيجة قياس موضع الجسيم البعيد بشكل مثالي، من دون الاقتراب منه حتى. ويمكن لهذا الراصد أن يتنبأ بقياس سرعته أيضًا. وجادلوا بأن هذا له تفسيرٌ طبيعي إذا ما وجدت كلتا الخاصيتين قبل القياس، على عكس تفسير بور.
على أيّ حال، وجد فيزيائي من آيرلندا الشمالية يدعى جون بيل في عام 1965 أن حجة آينشتاين ستنهار عندما ننفذ مزيج أكثر تعقيدًا من القياسات المختلفة للجسيمين، حيث أظهر بيل أنه إذا اختار الراصدان قياس خاصية ما (كالسرعة أو الموضع) لجسيماتهما بشكل عشوائي ومستقل، فإنه لا يمكن تفسير النتائج الوسطية في سياق أي نظرية يكون فيها كل من السرعة والموضع خصائص محلية موجودة مسبقًا.
يبدو هذا مذهلًا، وقد أثبتت التجارب بشكل قاطع الآن أن ارتباطات بيل تحدث بالفعل. بالنسبة للعديد من الفيزيائيين يعتبر هذا دليل على أن بور محق في قوله: الخصائص الفيزيائية لا توجد حتى يتم قياسها. لكن هذا يثير سؤالًا جوهريًا: “ما الذي يجعل القياس مميزًا إلى هذه الدرجة؟”
الراصد مرصود
عام 1961 ابتكر عالم الفيزياء النظرية -المجري الأمريكي- يوجين ويغنر تجربةً فكرية لإظهار الشيء المعقد جدًا في فكرة القياس. ناقش ويغنر موقف يذهب فيه صديق له إلى مختبر مغلق بإحكام ويقوم بإجراء قياس على جسيم كمي “لموقعه على سبيل المثال”، لاحظ ويغنر أنه إذا طبقنا معادلات ميكانيك الكم لوصف هذه الحالة من الخارج، ستكون النتائج مختلفة كليًّا. فبدلًا من أن يجعل قياس الصديق موضع الجسيم حقيقة، يصبح الصديق متشابكًا مع الجسيم من منظور ويغنر، ويتأثر بعدم اليقين الذي يحيط به. هذا مشابهٌ لقطة شرودينجر الشهيرة، تلك التجربة الفكرية التي يصبح فيها مصير قطة في صندوق، متشابكًا مع حدث كمي عشوائي.
بالنسبة لويغنر، كانت هذه النتيجة غير معقولة. عوضًا عن هذا، فقد كان يعتقد أنه بمجرد تورط وعي الراصد في الأمر، فإن التشابك سوف ينهار لجعل عملية الرصد التي قام بها الصديق محددة. لكن ماذا سيحدث إذا كان ويغنر مخطئًا؟
تجربتنا
بنينا في بحثنا على نسخة موسعة من مفارقة صديق ويغنر، أول من اقترح هذه الفكرة هو كاسلاف براكنر Caslav Brukner من جامعة فيينا. في هذا السيناريو، يوجد فيزيائيّان في مختبرين متباعدين نطلق اسماهما أليس وبـوب، كل منهما لديه صديق خاص به، أسماء الأصدقاء هي تشارلي وديــبي. هناك حيلة أخرى في السيناريو، يقيس تشارلي وديـبي الآن زوجًا من الجسيمات المتشابكة، كما في تجارب بيل.
كما في حجة ويغنر، ينبغي على معادلات ميكانيك الكم أن توصلنا إلى أن تشارلي وديـبي سيصبحان متشابكين مع جسيماتهما المرصودة، ولأن هذه الجسيمات متشابكة مع بعضها مسبقًا، فعلى تشارلي وديـبي أن يكونا متشابكين مع بعضهما أيضًا، هذا على صعيد النظرية. لكن إلى ماذا يؤدي هذا السيناريو تجريبيًا؟
تجري تجربتنا كالآتي:
يدخل الأصدقاء مخابرهم ويجرون قياساتهم على الجسيمات، وفي وقت لاحقٍ، يقلب كل من بوب وأليس قطعة نقود، إذا ظهرت الكتابة فسيفتحان أبواب المختبرات ويسألان أصدقاءهما عمّا رأوا، وإذا ظهر النقش، فسيقومان بقياساتٍ مختلفة. يعطي هذا القياس المختلف دومًا نتيجة إيجابية بالنسبة لأليس إذا كان تشارلي متشابكًا مع جسيمه المرصود بالطريقة التي قام بها ويغنر بالحساب، ويجري المثل بالنسبة لبوب وديـبي.
ومع ذلك، في أي طريقة لفهم هذا القياس، يتم حظر أي سجل لرصد أصدقائهم داخل المختبر من الوصول للعالم الخارجي. لن يتذكر تشارلي أو ديـبي أنهما شاهدا أي شيء داخل المختبر، كما لو أنهم يستيقظان من تخدير شامل، لكن حتى في حال أنهما لم يتذكرا، فهل حدث ذلك فعلًا؟
إذا كانت الأفكار البديهية الثلاثة التي أوردناها في مطلع هذا المقال صحيحة، فقد رأى كل صديق نتيجة حقيقية وفريدة من نوعها داخل المختبر، بغض النظر عما إذا قرر بوب أو أليس فتح الأبواب أو تركها مغلقة. أيضًا ما تراه أليس أو تشارلي لا يجب أن يعتمد على كيفية هبوط القطعة النقدية البعيدة التي قلبها بوب، والعكس صحيح. أظهرنا أنه إذا كان هذا هو الحال، فستكون هناك حدود للارتباطات التي يمكن أن يتوقعاها بوب وأليس بين نتائجهما. أظهرنا أيضًا أن ميكانيك الكم يتنبأ بأن أليس وبوب سيران ارتباطات تتجاوز تلك الحدود.
تاليًا، أجرينا تجربة لتأكيد تنبؤات ميكانيكا الكم باستعمال زوج من الفوتونات المتشابكة. تم لعب دور قياس كل صديق من خلال أحد المسارين اللذين يمكن لكل فوتون أن يسلكهما، اعتمادًا على خاصية الفوتون المسماة بـ “الاستقطاب”. أي أن المسار يقيس الاستقطاب. تجربتنا ليست إلا دليلٌ على المبدأ؛ لأن “الأصدقاء” فيها صغيرون وبسيطون جدًا، لكنها تثير التساؤل عما إذا كانت النتائج نفسها ستصمد بوجود مراقبين أكثر تعقيدًا؟
لربما لن نكون قادرين على إجراء هذه التجربة مع بشر حقيقيين، لكننا نجادل بأنه قد يكون من الممكن يومًا ما إيجاد برهان قاطع إذا كان “الصديق” ذكاء اصطناعي بمستوى البشر يعمل في حاسوب كمي ضخم.
ما الذي يعنيه كل هذا؟
على الرغم من أن أي اختبار حاسم قد يستغرق عقودًا، إلا أنه إذا استمرت تنبؤات ميكانيكا الكم في الصمود، فإن هذا سيكون له تأثيرات قوية على إدراكنا للواقع، حتى أكثر من ارتباط بيل. لا يمكن تفسير الارتباطات التي اكتشفناها فقط بقول أن الخصائص الفيزيائية لا توجد حتى يتم قياسها.
تجبر نتائجنا الفيزيائيين على التعامل مع مشكلة القياس بشكل مباشر، فإما أن تجربتنا لا تتوسع، وأن ميكانيكا الكم يفسح المجال لما يسمى “نظرية الانهيار الموضوعي Objective Collapse Theory”، أو يجب رفض واحد من افتراضات المنطق العام التي أوردناها مسبقًا.
هناك نظريات مثل نظرية دي بروغلي- بوم De Broglie- Bohm Theory تفترض وجود “القوة عن بعد”, حيث يمكن أن يكون للأفعال تأثيرات فوريّة في أماكن أخرى من الكون. مع ذلك، هذه الفكرة تتعارض بشكل مباشر مع نظرية النسبية لأينشتاين. ويبحث البعض عن نظرية تدحض حرية الاختيار، لكن إما أنهم يحتاجون إلى علاقة سببية عكسية، أو يحتاجون إلى شكل تآمري على ما يبدو من القدرية يسمى “الحتمية الفائقة”.
هناك طريقة أخرى لحل النزاع، وهي جعل نظرية أينشتاين أكثر نسبية مما هي عليه. بالنسبة لأينشتاين، يمكن أن يختلف مراقبون منفصلون حول زمان ومكان حدوث شيء ما، لكن ما يحدث يعتبر حقيقة مطلقة. مع ذلك، في بعض التفسيرات كميكانيكا الكم العلائقي أو ميكانيك بيشان الكمي أو نظرية العوالم المتعددة، قد تحدث الأحداث نفسها فقط بالنسبة لمراقب واحد أو أكثر؛ فقد لا تكون الشجرة الساقطة التي لاحظها أحدهم حقيقة بالنسبة لآخرين.
لا يعني كل هذا أنك لا تستطيع اختيار واقعك الخاص. بدايةً، يمكنك اختيار الأسئلة التي تريدها، لكن الأجوبة ستأتيك من قبل العالم. وحتى في عالم من العلاقات، عندما يتواصل مراقبان، سيتشابك واقعاهما، بهذه الطريقة سيبرز الواقع المشترك. مما يعني أنه إذا شاهدنا شجرة تسقط، وقلت أنك لا تسمعها، فربما تحتاج أنت إلى سماعة أذن فقط.
المصدر